د. يوسف القرضاوي

هنا نصل إلى مفترق طريق بيننا وبين دعاة العلمانية، الذين يزعمون أن من حقهم أن يفسروا الإسلام من منظورهم الخاص، وأن يقدموا فيه ويؤخروا، كما يحلو لهم.

وهنا نرد عليهم دعواهم بحجج ثلاث:

أولا: ليس الإسلام دعوة غامضة، ولا مادة هلامية، يفسرها كل من شاء، بما شاء، فالإسلام له أصوله البينة الثابتة، ومصادره الواضحة المحكمة، وليس هو كالأديان الأخرى، التي يملك رجالها أو المجامع المقدسة لديها، أن تضيف إليه، أو تحذف منه، أو تعدل فيه. فهو هو منذ قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة:3). وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".

فما أجمله القرآن من أمور الإسلام، بينته السنة النبوية، وهي قول النبي وفعله وتقريره، وأكدته سنة الراشدين المهديين، الذين اعتبرت مواقفهم في فهم الإسلام وتطبيقه من السنن الواجب اتباعها، لأنهم أقرب الناس إلى مدرسة النبوة، وأحرصهم على تطبيق الإسلام، وأقدرهم على فهمه، لما أتيح لهم من مشاهدة أسباب تنزيل القرآن وقول الأحاديث، ولما لهم من نور البصيرة، وسلامة الفطرة، والتمكن من اللغة بالسليقة.

ثانيا: عندما يختلف العلماء والباحثون في أمر من الأمور: أهو من الإسلام أم لا، سواء كان من العقائد أم من العبادات أم من الأخلاق أم من المعاملات، ألا يوجد معيار يحتكم إليه؟!

بلى، قد وضع القرآن الكريم لنا المعيار، الذي نرجع إليه عند الاختلاف والتنازع، وهو ما ذكره بقوله: (يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) (سورة النساء:59).

وقد أجمع المسلمون في جميع العصور، على أن الرد إلى الله تعالى، يعني الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول ـ بعد وفاته ـ يعني الرد إلى سنته. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم ما إن اعتصتم به، لن تضلوا بعدي أبد: كتاب الله وسنة نبيه".

فما كان محكما بينا في كتاب الله، والصحيح الثابت من سنة رسول الله، فهو القول الفصل، والحكم العدل.

وما لم يوجد فيه نص بين محكم، إما لعدم نص أصلا، أو لوجود ظني الدلالة أو الثبوت، أو هما معا، فهنا يلزم الرجوع إلى القوانين، التي وضعها علماؤنا المحققون، وأئمتنا الراسخون، لضبط الاستدلال، ولا سيما عند تعارض الأدلة في الظاهر، وقد وضعوا لذلك علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، فضلا عما أصلوه من قواعد في علوم أخرى، مثل: علوم القرآن، وأصول التفسير، وقواعد الفقه، وغيرها.

ثالثا: إذا اختلف علماء الإسلام المتخصصون في دراسته وفقهه، والذين عاشوا حياتهم له، يتعلمونه ويعلمونه، ويدرسون معه كل ما يعين على حسن فهمه من "العلوم الآلية" التي هي آلة الفهم، ووسيلة الاستنباط، وهي علوم اللغة، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، إذا اختلف هؤلاء مع دعاة العلمانية الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا قشورا، ربما أخذوها عن "المستشرقين"، الذين يحسنون بهم الظن، أو "المستغربين" الذين تتلمذوا عليهم، ولعلهم لم يقرأوا كتابا معتبرا في أصول الفقه، أو في مصطلح الحديث، بله الفقه أو الحديث نفسه، فمن يكون أحق بالصواب من الفريقين: الإسلاميون أم العلمانيون؟ ومع من يسير المسلم، وهو مطمئن القلب؟

إن الله أمرنا أن نرجع في كل أمر إلى أهله، أي إلى أهل الاختصاص به والخبرة فيه، وفي هذا يقول تعالى: (فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون) (سورة النحل:43).

ويقول: (فاسأل به خبيرا) (سورة الفرقان:59).

ويقول: (ولا ينبئك مثل خبير) (سورة فاطر:14).

ويقول: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (سورة النساء:83).

فهل يدعي العلمانيون أنهم أهل الذكر، وأهل العلم والخبرة بالإسلام، وأهل الفتوى، فيما يختلف فيه من أحكامه؟! لا أحسبهم يجرؤون على ذلك، برغم ما لهم من اجتراءات!

ولو توافر العلم عند الطرفين المختلفين، وكانت كفتا الميزان عندهما سواء، لوجب الترجيح بالورع والتقوى، فالعالم، الذي يخشى الله، ويستحضر رقابته، وأنه مسئول أمامه عن علمه، ماذا عمل فيه؟ ولا يبيع دينه بدنياه، فضلا عن أن يبيعها بدنيا غيره، هذا ـ ولا ريب ـ أولى أن تكون كفته هي الراجحة، وحجته هي اللائحة، وقوله هو الأدنى إلى السداد، أولا: لأنه مأمون على دين الله، لا يخاف منه التزييف اتباعا للهوى، أو التحريف طلبا لدنيا، وثانيا: لأن مثله جدير أن يوفق للصواب، وأن يسدد للحق، فالتقوى هدى ونور وبصيرة، وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، إن تتقوا الله، يجعل لكم فرقانا) (سورة الأنفال:29) أي نورا تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.

فما يكون الموقف، إذا جاءنا العلمانيون بآراء اخترعتها أهواؤهم، أو نقلوها عن أساتذتهم الغربيين، وهي آراء لم عليها برهان، ولا أنزل الله بها من سلطان، وهي آراء لا يخالفهم فيها علماء العصر وحدهم، بل هي آراء مخالفة لما أجمع عليه علماء الأمة في القديم والحديث، هل يكون لآرائهم هذه اعتبار في ميزان الإسلام، ومنطق الإسلام؟!

يقولون: هذا "عندنا" غير جائز فمن أنتمو، حتى يكون لكم "عند"؟!

ـــــــــ

- من كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" لفضيلة الدكتور.