د. يوسف القرضاوي
نصت الأحاديث الواردة في زكاة الفطر على أصناف معينة من الطعام، وهي التمر والشعير والزبيب والأقط -وهو اللبن المجفف الذي لم ينزع زبده- وزادت بعض الروايات: القمح، وبعضها: السلت أو الذرة. فهل هذه الأصناف تعبدية ومقصودة لذاتها، بحيث لا يجوز للمسلم العدول عنها إلى غيرها من أصناف الأطعمة والأقوات؟
أما المالكية والشافعية فقالوا: هذه الأصناف ليست تعبدية ولا مقصودة لذاتها، ولهذا كان الواجب على المسلم أن يخرج فطرته من غالب قوت البلد، وفي قول: من غالب قوت الشخص نفسه.
وهل القوت المنظور له هو الأغلب في العام كله؟ أم الأغلب في رمضان خاصة؟ أم في يوم الإخراج؟ أم في يوم الوجوب؟
احتمالات ذكرها المالكية، ومال بعضهم إلى اعتبار يوم الإخراج، ولكن رجح آخرون اعتبار الأغلب في رمضان (حاشية الدسوقي: 1/505).
وعند الشافعية قال الغزالي في "الوسيط": المعتبر غالب قوت البلد وقت وجوب الفطرة لا في جميع السنة، وقال في الوجيز: غالب قوت البلد يوم الفطر (الروضة: 2/305).
واشترط المالكية أن يكون غالب القوت من أصناف تسعة حددوها، وهي: الشعير والتمر والزبيب والقمح والذرة والسلت والأرز والدخن والأقط. فمتى وجدت التسعة أو بعضها وتساوت في الاقتيات خير في الإخراج من أيها شاء، ومع غلبة واحد منها تعين الإخراج منه، كما إذا انفرد، وإن وجدت أو بعضها واقتيت غيرها تعين الإخراج منها تخييرًا.
ولم أجد لهذه التشقيقات والتفريعات دليلاً يستند إليه، ولهذا قال بعض محققي المذهب: إنه متى اقتيت غير التسعة أخرج مما يقتات، ولو وجدت التسعة أو بعضها.
والمراد بالاقتيات: أن يصبح قوته وعيشه منه في زمن الرخاء والشدة معًا لا في زمن الشدة وحده.
ولهذا أجازوا إخراج اللحم واللبن ونحوه ما دام قوتًا، ويخرجه حينئذ بالوزن. أما الدقيق فاختلفوا فيه.
وعرض المالكية هنا لمسألة، وهي ما إذا اقتات الشخص ما هو أدنى وأدون من قوت البلد، وحاصل ما قالوا: أن من اقتات الأدون لعجز عن قوت البلد أجزأ اتفاقًا، وإن كان لبخل وشح لم يجز اتفاقًا، وإن كان لهضم نفس أو لعادته، كبدوي يأكل الشعير بحاضرة يقتات أهلها القمح، ففيه خلاف، والمعتمد هو الإجزاء (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/506 – 507).
وعند الشافعية: كل ما يجب فيه العشر من الحبوب والثمار -وهو ما يقتات في حالة الاختيار لا الضرورة-فهو صالح لإخراج الفطرة، وحكى قول قديم عن الشافعي: أنه لا يجزئ فيها الحمص والعدس، والمذهب المشهور هو الأول.
وترددوا في الأقط، وقال النووي: ينبغي أن يقطع بجوازه، لصحة الحديث فيه من غير معارض.
والأصح أن اللبن والجبن في معناه، ولكن قالوا: لا يجزئ الجبن المنزوع زبده، كما لا يجزئ الأقط المملح الذي أفسد كثرة الملح جوهره، ومثله أيضًا المسوس والمعيب من الحبوب.
ويجزئ الحب القديم وإن قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولونه، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الخبز، كما لا يجزئ القيمة وقال بعضهم: يجزئ لأن المقصود إشباع المسكين في هذا اليوم.
وفي الواجب من الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه، أصحها عند الجمهور: غالب قوت البلد، والثاني: قوت نفسه، والثالث: يتخير بين الأجناس.
قالوا: وإذا أوجبنا قوت نفسه أو البلد، فعدل إلى ما دونه، لم يجز، وإن عدل إلى أعلى منه جاز بالاتفاق.
وإذا اعتبرنا قوت نفسه وكان يليق به البر وهو يقتات الشعير بخلاً لزمه البر، ولو كان يليق به الشعير، فكان يتنعم ويقتات البر، فالأصح: أنه يجزئه الشعير، والقول الثاني: يتعين البر (الروضة للنووي: 2/303).
وإذا أوجبنا غالب قوت البلد وكانوا يقتاتون أجناسًا لا غالب فيها، أخرج ما شاء، والأفضل أن يخرج من الأعلى (المرجع السابق ص305).
وظاهر مذهب أحمد: أنه لا يجوز العدول عن الأصناف الخمسة المنصوص عليها مع قدرته عليها، سواء أكان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن المغني المرجع السابق: 3/62).
ويجوز عند أبي حنيفة وأحمد إخراج الدقيق والسويق؛ لأنه مما يكال وينتفع به الفقير، وقد كفى مؤنة الطحن (نفس المرجع).
والذي يظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما حدد الأصناف المذكورة ؛ لأنه كانت هي الأقوات المتداولة في البيئة العربية عندئذ. فلو أن قومًا يعيشون على الأرز كما في اليابان مثلاً، كانت فطرتهم مما يتقوتون به، ولو كان قوم يعيشون على الأذرة، كما في الريف المصري لكان واجبهم هو الأذرة. فلهذا أرجح أن يخرج المرء فطرته من غالب قوت بلده أو من غالب قوته إذا كان أفضل من قوت البلد.
وعند ابن حزم: لا يجزئ شيء غير التمر أو الشعير، لا زبيب ولا قمح ولا دقيق ولا أقط ولا غيرها، وأطال في الاحتجاج لذلك، ورد سائر الأحاديث المخالفة، وشنع على مخالفي رأيه كعادته (المحلى: 6/118 وما بعدها).
ومما استدل به ما رواه بمسنده عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر؟ يعنى: في صدقة الفطر: فقال له ابن عمر: إن أصحابي سلكوا طريقًا، فأنا أحب أن أسلكه (المرجع السابق ص127).
ويبالغ ابن حزم في الاستدلال بهذا الأثر، حتى ليكاد يجعله إجماعًا من الصحابة. برغم الآثار الكثيرة الوفيرة التي جاءت بخلافه، ويكفى أن أذكر هنا تعليق العلامة الشيخ أحمد شاكر على رأى ابن حزم هذا، في حاشية المحلى حيث قال: "من تأمل في طريق الأحاديث الواردة في زكاة الفطر، وفقه معناها مع اختلاف ألفاظها عن الصحابة رضي الله عنهم، علم أن ابن حزم لا حجة له في الاقتصار على إخراج التمر والشعير، وهذا معاوية بحضرة الصحابة رضي الله عنهم رأى مدين من سمراء الشام، بدل صاع من شعير أو غيره، ولم ينكر عليه ذلك أحد -أي إخراج القمح موضع الشعير- وإنما أنكر أبو سعيد المقدار، فرأى إخراج صاع من قمح، وابن عمر إنما كان يخرج في خاصة نفسه ما كان يخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر على من أخرج غير ذلك، ولو رأى عمل الناس باطلاً، وهم الصحابة والتابعون، لأنكره أشد إنكار، وقد كان رضي الله عنه يتشدد في أشياء، لا على سبيل التشريع، بل على سبيل الحرص على الاتباع فقط، كما كان ينزل في مواضع نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ير أحد من المسلمين ذلك واجبًا، والزكاة إنما جعلت لإغناء الفقير عن الطواف في يوم العيد، والأغنياء يتمتعون بمالهم وعيالهم ولينظر امرؤ لنفسه: هل يرى أنه يغني الفقير عن الطواف إذا أعطاه صاع تمر أو صاع شعير، في بلد مثل القاهرة، في مثل هذه الأيام؟! وماذا يفعل بهما الفقير إلا أن يطوف ليجد من يشتريهما ببخس من القيمة، ليبتاع لنفسه أو لأولاده ما يتقوتون به؟!" (هامش المحلى:6/131 – 132).
إخراج القيمة:
أما إخراج القيمة فلم يجزه الأئمة الثلاثة في زكاة الفطر وفي سائر الزكوات. سئل أحمد عن عطاء الدراهم في صدقة الفطر فقال: أخاف ألا يجزئه ؛ خلاف سنة رسول لله.
وقيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟
قال: يدعون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال فلان؟ قال ابن عمر:"فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"… الحديث، قال الله تعالى: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) (النساء:59).
فهو يرى دفع القيمة مخالفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا قول مالك والشافعي (المغني:3/65).
وكذلك قال ابن حزم: لا تجزئ قيمة أصلاً، لأن ذلك غير ما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقيمة في حقوق الناس لا تجوز إلا بتراضٍ منهما، وليس للزكاة مالك معين فيجوز رضاه أو إبراؤه (المحلى: 6/137).
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز إخراج القيمة، وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري (المغني:3/65 وفي المحلى: 6/10: "صح ذلك عن عمر بن عبد العزيز").
روى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدى بالبصرة (وعدى هو الوالي): "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم " (مصنف ابن أبي شيبة: 4/37 -38).
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (المرجع السابق).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام.
وعن عطاء: أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقًا (دراهم فضية) (نفس المرجع).
(أ) ومما يدل لهذا القول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أغنوهم -يعنى المساكين- في هذا اليوم) والإغناء يتحقق بالقيمة، كما يتحقق بالطعام، وربما كانت القيمة أفضل، إذ كثرة الطعام عند الفقير تحوجه إلى بيعها، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
(ب) كما يدل على جواز القيمة ما ذكره ابن المنذر من قبل: أن الصحابة أجازوا إخراج نصف الصاع من القمح ؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير، ولهذا قال معاوية: "إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من التمر".
(ج) ثم إن هذا هو الأيسر بالنظر لعصرنا وخاصة في المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود. كما أنه -في أكثر البلدان وفي غالب الأحيان- هو الأنفع للفقراء.
والذي يلوح لي: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة لسببين: الأول: لندرة النقود عند العرب في ذلك الحين، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس، والثاني: أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر، بخلاف الصاع من الطعام فإنه يشبع حاجة بشرية محددة، كما أن الطعام كان في ذلك العهد أيسر على المعطي، وأنفع للآخذ، والله أعلم بالصواب.
وقد فصلنا القول في موضوع "دفع القيمة" في الزكوات عامة في باب "طريقة أداء الزكاة" فليرجع إليه.
مسائل تتعلق بدفع القيمة:
بقيت هنا بعض مسائل تتعلق بإخراج القيمة ذكرها علماء الحنفية:
الأولى: أن المراد بدفع القيمة قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر، يؤدى قيمة أي الثلاث شاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: يؤدى قيمة الحنطة (الدر المختار وحاشيته "رد المحتار": 2/80).
والذي أختاره: أن يدفع قيمة صاع من غالب قوت البلد، من أوسط الأصناف، فإن كان من أجودها فهو أحسن.
الثانية: أنه لا يجوز أداء الأجناس المنصوص عليها بعضها عن بعض باعتبار القيمة. فكما لا يجوز إخراج الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة ؛ بأن يؤدى نصف صاع من حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط، لا يجوز إخراج تمر أو شعير عن الحنطة باعتبار القيمة، بأن، يؤدى نصف صاع تمر مثلاً تبلغ قيمته نصف صاع من حنطة، عن الحنطة، بل يقع عن نفسه، وعليه تكميل الباقي ؛ لأن القيمة إنما تعتبر في غير المنصوص عليه (ذكر ذلك في رد المحتار: 2/83 نقلاً عن البدائع).
الثالثة: اختلف الحنفية: أيهما أفضل: دفع القيمة أم إخراج المنصوص عليه؟
.......................
- من كتاب "فقه الصيام" للشيخ القرضاوي