كما اختص الله شهر رمضان بالصيام والقيام، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، اختص كذلك بما وقع فيه من أحداث عميقة الأثر في تاريخ الإسلام وحياة المسلمين؛ ففي السابع عشر منه كان يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، يوم بدر الكبرى.
وفي أوائل العشر الأواخر كان الفتح الأعظم، فتح مكة، البلد الحرام، الذي جعله الله دارا للتوحيد، فجعله المشركون عاصمة للوثنية، ومركزا لعبادة الأصنام، حتى كان حول الكعبة وحدها (360) ثلاثمائة وستون صنما، فعاد بالفتح للتوحيد وللإسلام.
كان فتح مكة مرحلة حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، ونقطة فاصلة دخل بها الإسلام في طور جديد من القوة والتوسع، والانطلاق والانتشار غير المحدود، وفي هذا يقول القرآن الكريم: "لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" (الحديد:10).
ولستُ محدثكم -أيها الإخوة- عن قصة الفتح وأسبابه وأحداثه، فذلك يقتضي وقتا أطول، ولكني محدثكم عن الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح، يوم نصره الله على عدوه، وحقق له أمله، وأنجز وعده، فها هي مكة العتيدة العاتية تسقط أمام كتائب الرحمن، وجنود القرآن.
مكة التي خرج النبي منها ليلا، يعود إليها نهارا، وخرج منها خفية يعود إليها جهارا، وخرج منها مضطهدا يعود إليها فاتحا، وليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه، ومرتع صباه، بعد أن أُخرج منه إخراجا، فلا عجب أن قرت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح.
الناس معادن:
إن معادن الرجال تُختبر بالنعمة والعافية، كما تختبر بالشدة والمحنة، ومن الناس من يثبت في الشدائد والأزمات، ويصبر في البأساء والضراء وحين البأس، حتى إذا انزاحت الغمة، وجاءت النعمة، وأقبل الرخاء والسعة، ركبهم الغرور، وسيطر عليهم العجب والكبر، وأعمتهم نشوة الظفر والنصر، وغرهم بالله الغرور، وهكذا عرف الناس الفاتحين المنتصرين من قديم.
ولكن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم هو أحد الدلائل على أن الله تعالى قد اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق، لقد دخل مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح مرجِّعًا، وقد حنى رأسه تواضعا لله عز وجل، حتى قال أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعا .
وأول مرة ترى الدنيا فاتحا ينتصر على أعدائه، وتدين له عاصمة بلاده، يدخلها في مثل هذا التواضع والإخبات والخشوع لله رب العالمين.
لقد أُمِر بنو إسرائيل أن ينحنوا لله إذا دخلوا باب المقدس "وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ" (البقرة:58)، أي: يا رب حط عنا ذنوبنا. فحرّفوا أمر الله، ولم يمتثلوه، ودخلوا يزحفون على أستاههم، "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" (البقرة:59).
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (الإسراء:81). "قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ" (سبأ:49). والأصنام تتساقط على وجوهها، وأمر بهبل أعظم هذه الأصنام فكسر، وهو واقف عليه، وأبو سفيان يشهد بعينيه نهاية هبل، الذي وقف يوم أحد يخاطبه ويقول: اعل هبل. ولهذا ذكره الزبير بذلك فقال: يا أبا سفيان قد كسر هبل، أما إنك كنت منه يوم أحد في غرور! فقال أبو سفيان: دع عنك هذا يا ابن العوّام .
فلما أكمل الطواف دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأى فيها الصُّور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله، لقد علموا: ما استقسما بها قط". ثم دخل البيت، فكبر في نواحي البيت. ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، ثم أمر بالصور فمحيت، ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك، ثم دار في البيت وكبر في نواحيه، ووحَّد الله تعالى، ثم فتح الباب، وقريش ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع؟
العفو عند المقدرة:
إنهم الذين طالما آذوه وعذبوا أصحابه، وطالما امتزجت سياطهم بدماء المؤمنين ولحومهم، إنهم الذين أخرجوه من أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليه، مكة، وهم الذين أخرجوا أصحابه من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، إنهم الذين قاتلوه في بدر وأحد، وحاصروه في الخندق، وقتلوا العشرات من جنده المؤمنين.
إنهم العتاة القساة، وقد أمكنت منهم الفرصة، وحان الموعد للنقمة والقصاص، لا بد أن يحاكم هؤلاء الخصوم، فتضرب منهم الأعناق، وتطيح الرءوس، أو تعمل السيوف في رقابهم دون محاكمة ولا مقاضاة، أو بمحاكمة صورية يكون الخصم فيها هو الحكم!
هذا ما كان يتوقعه الناس في مثل هذا الموقف الرهيب، وهذا ما يفعله الفاتحون المنتصرون في القديم والحديث، ولو انتقم النبي صلى الله عليه وسلم منهم ما كان ظالما لهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع غير هذا.
لقد نادى قريشا وهم منكسون رءوسَهم ينتظرون الكلمة الفاصلة تخرج من بين شفتيه: "يا معشر قريش، ما تقولون؟". قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم رحيم كريم. ثم عاد عليهم القولَ، قالوا مثل ذلك، قال: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: "لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف:92). "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وهكذا أطلقهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصدر هذا العفو العام، وضرب المثل الأعلى في تسامح القادرين على الانتقام والقصاص، حتى إن أم هانئ بنت أبي طالب تجير حموين لها مشركين، فيقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التدخل من امرأة في شأن من شئون الدولة، ويعترف بهذا الأمان الخاص ويقول: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ!" .
وفاء نادر:
وجلس صلى الله عليه وسلم في المسجد فقدم إليه علي بن أبي طالب ابن عمه وزوج ابنته، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك.
وكانت سقاية الحجَّاج مع بني هاشم، وهي كلفة وغرم لا غنم فيه، بينما كانت الحجابة في بني عبد الدار مع بني طلحة، وهي غنم لا غرم فيه، وكذلك تطاول العباس في رجال من بني هاشم لأن يخصهم النبي بمفتاح الكعبة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة، الذي كان قد منع النبي صلى الله عليه وسلم يوما من دخول الكعبة، وأغلظ له، ونال منه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه ذلك أن يناديه، ويدفع إليه المفتاح ويقول له: "هاك خذوا ما أعطاكم الله ، هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء ! خذها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم: يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف".
ثم التفت إلى عمه وابن عمه وغيرهما من بني هاشم, فقال لهم: "أعطيكم السقاية ترزؤكم ولا ترزءونها". أنا أعطيكم ما تُرزءون لا ما تَرزءون، أي ما تغرمون به لا ما تغنمون منه.
فإذا كان المنتصرون الذين يقبضون على أزمّة السلطان يسارعون بتوزيع المغانم والأسلاب على أقاربهم وأصهارهم ومحاسيبهم، فها هو صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح الأعظم يعطي أقرب الناس إليه ما يزرؤهم ويكلفهم، ويعطي البعيدين عنه، والمعادين له، ما يجلب عليهم رزقًا دارًّا، وعيشًا قارًّا.
التواضع لله:
وعرف الناسُ الفاتحين المنتصرين تشمخ أنوفهم، وتتمايل بنشوة النصر رءوسهم، ينسبون الفضل في النجاح لكفايتهم وبراعتهم، وحسن حيلتهم وتدبيرهم، ولذلك يوعزون إلى أتباعهم وأنصارهم أن يهتفوا بأسمائهم، ويشيدوا بذكرهم، ويرفعوا صورهم في كل مكان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ينسب الفضل في هذا النصر كله إلى الله وحده، فكان هتافه ونشيده الدائم في هذا اليوم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ودخل دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثمان ركعات في بيتها، وكان الوقت ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هي- كما قال ابن القيم– صلاة الفتح. ولهذا قالت أم هانئ: ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها. وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلدا أو حصنا، صلوا عقب الفتح هذه الصلاة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعرف الناس والتاريخ كثيرا من أصحاب المبادئ والعقائد يتمسكون بها قبل أن يتمكنوا ويحكموا وينتصروا، فإذا انتصروا وحكموا تبخرت هذه المبادئ العذبة، وارتدوا على أعقابهم القهقرى، وأصبحت كلاما أجوف، أو حبرا على ورق.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نادى بالعدل والمساواة والمبادئ الإنسانية من أول يوم، لم يتخل عنها لحظة واحدة، فها هو يأخذ بعضادتي باب الكعبة ويعلن في قريش أصحاب الحسب والنسب، وأولي العزة والفخار، فيقول: "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب". ثم تلا هذه الآية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).
وكان صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى والقدوة العملية في هذا الأمر، فروى ابن مسعود أن رجلا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فأخذته الرِّعْدة، يحسبه كأولئك الملوك الجبابرة من فُتَّاك التاريخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد".
ذلكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح: استمساك بالحق إلى أبعد مدى، وسماحة وعفو، وخشوع وتواضع، وصلاة واستغفار، وإنابة إلى الله عز وجل، وصدق الله العظيم إذ يقول: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" (النصر1-3).
نسأل الله أن يرزقنا الظفر على عدونا، وأن يفتح لنا فتحا مبينا، ويهدينا صرطا مستقيما، وأن يجعلنا أهلا لنصره الذي وعد به المؤمنين.