د. يوسف القرضاوي

جملة تنبيهات يجب الالتفات إليها هي غاية في الأهمية:

1. أن عصرنا يهيئ للحكومة المسلمة من القدرة على التوجيه والتأثير في حياة الناس، ومعاونتهم على تغيير ما بأنفسهم فكرا وخلقا وسلوكا، ما لم يكن عشر معشاره، مهيئا للحكام في القرون الإسلامية السابقة. وذلك عن طريق المؤسسات التعليمية والتربوية، والأجهزة الثقافية والإعلامية، التي لها أبلغ الأثر في توجيه أذواق الناس وميولهم واتجاهاتهم الفكرية والنفسية، وفرض على الدولة المسلمة أن تستفيد من هذا كله، لخدمة الرسالة التي قامت من أجلها.

2. أن عصرنا قد انتهى إليه حصاد تجارب إنسانية من مختلف الأعصار ومختلف البيئات، تتمثل في "ضمانات" أساسية لحماية حق الشعوب ضد طغيان الحكام وأهوائهم، مثل المجالس النيابية، وما لها من حق مراقبة الحكومة ومحاسبتها، بل إسقاطها، ومثل الدساتير، التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتصون حريات الأفراد، وتحد من طغيان السلطات الحاكمة، ومثل حرية الصحافة، وتعدد الأحزاب، وتكوين النقابات، وحق الإضراب.

ويجب علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نعض بالنواجذ على هذه الضمانات، التي كسبتها الإنسانية بالجهاد الطويل مع الفراعنة والجبابرة والطغاة، وأن نعتبر الحفاظ على هذه الضمانات والمكاسب فرضا دينيا، لا يجوز التفريط فيه، لأن العدل والشورى والنصيحة، وأداء الأمانات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي أوجبها الإسلام لا تتم إلا بها، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.

3. أننا لا ننادي بحكم فرد مثالي فذ، يكون في يقين أبي بكر، أو في عدل عمر، أو في فضل علي، أو زهد عمر بن عبد العزيز، إنما ننادي بحكم المؤسسات، التي تقوم على الإسلام تشريعا وتوجيها وتنفيذا، وتعتمد على الإسلام عقيدة وفكرا وخلقا وقانونا.

والحاكم أو رئيس الدولة، أو الإمام في هذا النظام المنشود، ليس إلها يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، ولا يحاسب على ما يقول، بل هو حاكم مقيد بالدستور، المستمد أساس من القرآن والسنة، مسئول أمام مجلس الشورى خصوصا، وأمام الشعب عموما، بمقتضى واجب النصيحة لأئمة المسلمين، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فلا ينبغي التركيز ـ إذن ـ على عبقرية فرد موهوب تبعثه العناية الإلهية، ليملأ الأرض عدلا، كما ملئت ظلما وجورا، أو يجدد للناس دينهم، الذين انحرفوا عن صراطه فقها أو عملا.

وقد كتبت بحثا إضافيا في حديث داود، الذي يرد على كثير من الألسنة والأقلام: "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وهو حديث صحيح، ولكن معظم الشراح مالوا إلى أن "من" في قوله "من يجدد" للمفرد، وظلوا يبحثون لكل مائة سنة عن مفرد علم، مشهور بعلمه وعمله وفضله، ليكون هو مجدد القرن.

والذي انتهيت إليه أن "من" تصلح للجمع، كما تصلح للمفرد، بل هي في الحديث أولى أن يراد بها الجمع وليس بالضرورة أن يكون المجدد فردا واحدا، بل قد يكون جماعة لها كيانها الواحد، أو قد تكون متفرقة في البلدان. كل واحد فيها قائم على ثغرة يحرسها، في ميادين الفكر، أو العمل، أو الدعوة، أو التربية أو الجهاد، أو غيرها.

وبهذا يكون سؤال المسلم: ما دوري في حركة التجديد؟ بدل أن يكون كل همه أن يسأل: متى يظهر المجدد؟

ـــــــــ

- من كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" لفضيلة الشيخ.