د. يوسف القرضاوي
ننبه على نوع من الردة لا يتبجح تبجح المرتدين المعالنين , فهو أذكى من أن يعلن الكفر بواحاً صراحاً , بل يغلفه بأغلفة شتى , ويتسلل به إلى العقول تسلل الأسقام في الأجسام , لا تراه حين يغزو الجسم , ولكن بعد أن يبدو مرضه , ويظهر عرضه , فهو لا يقتل بالرصاص يدوى , بل بالسم البطيء , يضعه في العسل والحلوى . وهذا يدركه الراسخون في العلم , والبصراء في الدين , ولكنهم لا يملكون أن يصنعوا شيئا أمام مجرمين محترفين , لا يمكنون من أنفسهم , ولا يدعون للقانون فرصة ليمسك بخناقهم . فهؤلاء هم (المنافقون) الذين هم في الدرك الأسفل من النار .
إنها (الردة الفكرية) التي تطالعنا كل يوم آثارها ! في صحف تنشر وكتب توزع , ومجلات تباع , وأحاديث تذاع , وبرامج تشاهد , وتقاليد تروج , وقوانين تحكم . وهذه الردة المغلفة - في رأيي - أخطر من الردة المكشوفة , لأنها تعمل باستمرار , وعلى نطاق واسع , ولا تقاوم كما تقاوم الردة الصريحة, التي تحدث الضجيج , وتلفت الأنظار , وتثبر الجماهير .
إن النفاق أشد خطراً من الكفر الصريح . ونفاق عبد الله بن أبى ومن تبعه من منافقي المدينه , أخطر على الإسلام من كفر أبى جهل ومن تبعه من مشركي مكة. ولهذا ذم القرآن في أوائل سورة البقرة: (الذين كفروا ) أي المصرحين بالكفر في آيتين اثنتين فقط , وذكر المنافقين في ثلاث عشرة آيه . إنها الردة التي تصاحبنا وتماسينا , وراوحنا وتعادينا , ولا تجد من يقاومها. إنها - كما قال شيخ الإسلام الندوى - ردة ولا أبا بكر لها إن الفريضة المؤكد هنا , هي : محاربتهم بمثل أسلحتهم , الفكر بالفكر حتى تسقط أوراقهم , وتسقط أقنعهم , وزال شبهاتهم بحجج أهل الحق . صحيح أنهم ممكنون من أوسع المنابر الإعلامية : المروءة والمسموعة والمرئية , ولكن قوة الحق الذي معنا , ورصيد الإيمان في قلوب شعوبنا وتأييد الله تعلى لنا، كلها كفيلة أن تهدم باطلهم على رؤوسهم: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) ، (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)…
وصدق الله العظيم.
ــــــــ
- من كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.