د. يوسف القرضاوي
الآراء الفقهية إذا اختلفت وتباينت، كيف نرجح بينها، ونقدم بعضها على بعض؟
إن الترجيح هنا لا يتم اعتباطا، وخبط عشواء، كما لا يتبع فيه الهوى، بل لابد فيه من معايير يرجع إليها، ويعول عليها.
وفي كتب الأصول باب طويل الذيول، كبير الأهمية، حول التعادل والترجيح، وقد يعبر عنه باسم "التعارض والترجيح".
كما تعرض له أئمة الحديث في علوم الحديث فيما يتعلق بالسنة بعضها وبعض.
ولكني هنا أريد أن أنبه على أشياء معينة لها أهمية خاصة بالنظر إلى واقعنا المعاصر، وما يمور به من أفكار، وما يعترك فيه من آراء، سواء بين المسلمين وخصومهم من المغتربين والعلمانيين. أم كان بين المدارس والتيارات الإسلامية المختلفة بعضها وبعض، ولا سيما الذين يعملون في ساحة الدعوة والإصلاح والعمل الإسلامي، بأهدافه المتنوعة، ومناهجه المتباينة، وفصائله المتعددة.
ما الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط، ولا يقبل فيها رأي آخر، ولا مجال فيها لتسامح؟
وما الآراء التي تقبل نسبة ـ ولو ضئيلة ـ من التسامح؟
والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح؟
التفريق بين القطعي والظني
فمن المقرر لدى أهل العلم: أن ما ثبت بالاجتهاد غير ما ثبت بالنص، وأن ما ثبت بالنص وأيده بالإجماع المتيقن غير ما ثبت بالنص واختلف فيه، والاختلاف فيه دليل على أنه أمر اجتهادي، والأمور الاجتهادية لا ينكر فيها عالم على آخر، لكن يناقش بعضهم بعضا فيها بالاحترام المتبادل. كما أن ما ثبت بالنص يختلف كثيرا من حيث قطعيته وظنيته.
والقطعية والظنية ما هو ظني الثبوت، ظني الدلالة معا.
ومنها: ما هو ظني الثبوت، قطعي الدلالة.
ومنها: ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة.
ومنها: ما هو قطعي الثبوت، قطعي الدلالة معا.
وظنية الثبوت تختص بالسنة غير المتواترة، والمتواتر: ما رواه جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، والآحاد غيره.
ومن العلماء من قال: إن التواتر في السنة عزيز، ولا يكاد يوجد، ومنهم من توسع في ذلك، حتى ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، التي رفضها مثل الشيخين، فليحذر من دعوى التواتر بغير رهان.
ومنهم من ألحق بالمتواتر أحاديث احتفت بها القرائن مثل تلقي الأمة لها بالقبول. مثل أحاديث الصحيحين التي لم يتعقبها أحد من العلماء المعتبرين.
وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعا: فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة والمجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وتحتمل الدلالة المطابقية، والدلالة التضمنية، والدلالة الالتزامية.
وكثيرا ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية. فالمشدد يفهم من النص غير ما يفهمه الميسر. ولذا عرف تراثنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس. وذو الأفق الواسع يفهم منه غير ما يفهمه ذو الأفق الضيق. والمقاصدي الذي يعنى بفحوى النص روحه، يفهم منه غير ما يفهمه الظاهري الحرفي، الذي يجمد على ظاهره لا يحيد عنه. وفي قضية الأمر بصلاة العصر في بني قريظة أبلغ دليل على ذلك.
ولله حكمة في أن جعل النصوص قابلة لمثل هذا التعدد، لتسع الناس جميعا، باتجاهاتهم المتباينة. ولهذا أنزل كتابه الخالد، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.
ولو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد، ورأي واحد، لأنزل كتابه كله آيات محكمات، وجعل النصوص كلها قاطعات.
والقرآن كله قطعي الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته ـ في جزئياتها ـ ظنية الدلالة، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها.
ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق (فضائل ورذائل)، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحو ذلك قد بينتها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.
وأكدت هذه القضايا: السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا، كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة.
ومن هنا: لا يجوز الخلط ـ جهلا أو قصدا ـ بين النصوص بعضها وبعض.
فقد يعذر من يرد نصا ظنيا في ثبوته، إذا قام لديه دليل على عدم ثبوته عنده.
وقد يعذر من يرد رأيا في نص ظني في دلالته، أو يفسره تفسيرا جديدا غير ما فسره به الأولون، ولكنه محتمل.
وقد لا يعذر هذا ولا ذاك، في ردهما النص الظني، إذا كان ظاهر التمحل، أو التلفيق. ولكنه لا يكفر ويخرج من الملة بسبب موقفه هذا، أقصى ما فيه أن يبدع، أي يرمى بالبدعة، والخروج عن النهج المعتاد لأهل السنة، وحسابه على الله تعالى. وليس هذا لكل من هب ودب، بل للمحققين من أهل العلم الثقات.
إنما الذي يرفض حقا وينبذ قائله: هو رد النصوص القطعية الثبوت والدلالة جميعا، فهذه ـ وإن كانت قليلة ـ تعتبر في غاية الأهمية في الدين، لأنها هي التي تجسد الوحدة العقيدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة، وهي التي يحتكم إليها عند النزاع، ويرجع إليها عند الاختلاف، فإذا غدت هي الأخرى مثار نزاع واختلاف، فإلى أي شيء يرجع الناس؟!
ومن هنا حذرنا في كتبنا من تلك المؤامرة الفكرية التي تعمل على تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون في آية تحريم الخمر: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)، والتشكيك في دلالة كلمة "فاجتنبوه" على التحريم.
ومثل الذين يجادلون في تحريم الربا، مثل الذين يجادلون في تحريم لحم الخنزير، ومثل الذين يجادلون في ميراث المرأة، أو في قوامية الرجل على الأسرة، أو في وجوب الحجاب (بمعنى لبس الخمار والملابس المحتشمة) أو غير ذلك مما ثبت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وانعقد عليها إجماع الأمة، واستقرت عليه فقها وعملا، نظرا وتطبيقا، أربعة عشر قرنا من الزمان.
إن هذه الأمور الواضحة البينة من الدين هي مما يطلق عليه العلماء "ما علم من الدين بالضرورة" أي يعرفه الخاص والعام من المسلمين، دون حاجة إلى إقامة دليل عليها، لأن أدلتها متكاثرة ومعروفة، وراسخة في وجدان الأمة.
وهذه هي التي يحكم على جاحدها بالكفر، وينبغي قبل هذا الحكم أن تزاح عن صاحبها الشبهة، وتقام عليه الحجة، ويقطع عنه العذر، وبعد ذلك يعزل عن جسم الأمة، ويقضى عليه بالانفصال منها.
فينبغي التركيز على القطعيات المجمع عليها، لا على الظنيات المختلف فيها، والذي أضاع الأمة إنما هو أضاعتها للقطعيات، والمعركة بين دعاة الإسلام اليوم في أنحاء العالم الإسلامي وبين دعاة العلمانية اللادينية إنما تدور حول القطعيات: قطعيات العقيدة، وقطعيات الشريعة، وقطعيات الفكر، وقطعيات السلوك.
إن هذه القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف، وأساس الدعوة والإعلام، وأساس التربية والتعليم، وأساس الوجود الإسلامي كله.
وإن من أخطر الأشياء على الدعوة الإسلامية، وعلى العمل الإسلامي: جر الناس باستمرار إلى الأمور الخلافية، التي لا ينتهي الخلاف فيها، وإدارة الملاحم الساخنة حولها، وتصنيف الناس على أساس مواقفهم منها، وتحديد الولاء لهم أو البراءة منهم بناء على ذلك.
هذا مع أننا قد وضحنا بالأدلة القاطعة في كتابنا "الصحوة بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" أن هذا النوع من الاختلاف ضرورة، ورحمة، وسعة، وأن إزالته غير ممكنة، وغير مفيدة.
ليس معنى كلامي ألا نتكلم في أمر خلافي قط، ولا نرجح رأيا على رأي في قضية عقدية أو فقهية أو سلوكية، فهذا مستحيل، وما عمل العلماء إذن إذا لم يصححوا ويضعفوا ويرجحوا ويختاروا؟
إنما الذي أنكره أن يكون هذا هو شغلنا الشاغل، وأن نعنى بالمختلف فيه أكثر من عنايتنا بالمتفق عليه، وأن نهتم بالظني في حين أعرض الناس عن القطعي.
كما أن من الخطل والخطر: أن نعرض على الناس القضايا المختلف فيها اختلافا كبيرا، على أنها قضايا مسلمة لا نزاع فيها ولا خلاف عليها، متجاهلين رأي الآخرين، الذين لهم وجهتهم ولهم أدلتهم، مهما يكن من رأينا نحن فيها، وعدم اعتبارنا لها.
وكثيرا ما يكون الرأي الآخر هو رأي الجمهور الأكبر من علماء الأمة، وهو ـ وإن لم يكن معصوما لأنه ليس بإجماع مستيقن ـ لا يجوز أن يهون من شأنه. وذلك مثل الذين يدعون إلى وجوب تغطية الوجه ولبس النقاب، معتبرين أن رأيهم هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، مشددين النكير على من خالفهم، مع أنهم يخالفون رأي الجمهور الأعظم من الأئمة والفقهاء، كما يخالفون الأدلة الواضحة النيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة.
ولقد ساءني أن أحد الدعاة قال في خطبة له مسجلة: إن كشف وجه المرأة مثل كشف فرجها! وهذا غلو عظيم، لا يصدر من ذي فقه وبصيرة.
وأود أن أنبه هنا: أن آراء بعض العلماء المعتبرين قد تكون شاذة في بيئة معينة، وفي عصر معين، لأنها سابقة لزمنها، ثم لا يثبت أن يأتي عصر آخر تجد فيه من يؤيدها ويشهرها، حتى تغدو هي عماد الفتوى،كما حدث لآراء الإمام ابن تيمية رضي الله عنه.
ـــــــ
- من كتاب "في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ.