د. يوسف القرضاوي

أمر مهم أغفله الصوفية الذين اعتقدوا التكسب والاحتراف منافياً للتوكل، هذا الأمر هو: مراعاة مقاصد الشرع من المكلَّفين من نوع البشر، فقد ذكر الإمام الراغب الأصفهاني: أن هذه المقاصد تتمثل في ثلاثة:

الأول: العبادة لله، وإليها يشير قوله تعالى: (وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56).

الثاني: الخلافة عن الله. واليها يشير قوله: (إني جاعلٌ في الأرض خليفةً) (البقرة: 30).

والثالث: العمارة للأرض، وإليها يشير قوله: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود: 61).

وعمارة الأرض: بإصلاحها وإحيائها وإشاعة الحياة والنماء فيها، حتى يكون فيها جنَّات من نخيل وأعناب، وحدائق ذات بهجة، وثمر ينظر إلى ينعه، ويؤكل منه، ويؤخذ حقه يوم حصاده، وأنعام وخيل، وأنهار وديار، وصناعة وتجارة.. إلى آخر ما لابد للحياة منه..

وهذا عمل يجب أن يتعاون الناس فيه، ويقوم كلٌ بما يمكنه من جهد. ولا يجوز أن يعمل البعض، ويظل الآخرون كَلاً عليهم، فيأخذون ولا يعطون، ويستهلكون ولا ينتجون. فهذا ليس من العدل.

فالمتعطل عن الكسب والكدح في الحياة عالة على غيره، فما لم يكن عاجزاً عن الكسب، أو متفرغاً لطلب علم نافع، فهو مذموم، ولو اقتدى به المسلمون لفسدت الأرض، وأمسوا عبيداً لغيرهم من الأقوياء العاملين.

إن الإنسان المثالي في النصرانية هو "الراهب" الذي يعتزل الحياة، فلا يعمل لها، ولا يأكل من طيباتها، ولا يستمتع بزينة الله فيها، حتى الزواج يحرِّمه على نفسه.

ولكن الإنسان المثالي في الإسلام هو الذي يجمع الحسنتين، ويعمل للدارين، فيعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل للآخرة كأنه يموت غداً، كما جاء ذلك عن الصحابة.

إن الكسب والعمل الدنيوي ليس مجرد أمر مباح، بل هو مطلوب، طلب استحباب أو طلب وجوب، إذا نظرنا إلى ضرورته للمجتمع والأُمة.

وهذا ما نبَّه عليه الإمام الراغب رحمه الله في كتابه القيم "الذريعة إلى مكارم الشريعة" فقال تحت عنوان "وجوب التكسب":

"التكسب في الدنيا، وإن كان معدوداً من المباحات من وجه، فإنه من الواجبات من وجه، وذلك أنه لما لم يكن للإنسان الاستقلال بالعبادة إلا بإزالة ضروريات حياته، فإزالتها واجبة، لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فواجب كوجوبه.

وإذا لم يكن له إلى إزالة ضرورياته سبيل إلا بأخذ تعب من الناس، فلابد إذن أن يُعوِّضهم تعباً من عمله، وإلا كان ظالماً، فمن توسَّع في تناول عمل غيره في مأكله وملبسه ومسكنه وغير ذلك، فلا بد أن يعمل لهم عملاً بقدر ما يتناوله منهم، وإلا كان ظالماً لهم، سواء قصدوا إفادته أو لم يقصدوها، فمن رضي بقليل من عملهم فلم يتناول من دنياهم إلا قليلاً، يُرضَى منه بقليل من العمل ... ومن أخذ منهم المنافع ولم يعطهم نفعاً، فإنه لم يأتمر لله تعالى في قوله: ( وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة: 2)، ولم يدخل في عموم قوله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة: 71). ولهذا ذُمَّ من يدَّعي التصوف فيتعطل عن المكاسب، ولم يكن له علم يؤخذ منه، ولا عمل صالح في الدين يُقتدَى به. فإنه يأخذ منافع الناس ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعاً، فلا طائل في مثلهم إلا بأن يكدّروا المشارع ( المياه ) ، ويغلوا الأسعار.

ومن الدلالة على قبح فعل مَن هذا صنيعه: أن الله تعالى ذم مَن يأكل مال نفسه إسرافاً وبداراً، فما حال من يأكل مال غيره على ذلك، ولا ينيلهم عوضاً، ولا يرد عليهم بدلاً"؟!.

وقال في موضع آخر: "مَن تعطَّل وتبطَّل فقد انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار في عداد الموتى".

ونقل العلامة المناوي في كتابه "فيض القدير" عن بعض العارفين من الصوفية قوله: حكم الفقير (أي الصوفي) الذي لا حِرفة له كالبومة الساكنة في الخراب ليس فيها نفع لأحد!

وقال العارف الخوّاص: الكامل من يسلِّك الناس (يدلهم على سلوك الطريق) وهم في حرفهم. وهذا هو التصوف السليم، والصراط المستقيم.

ـــــــــ

- من كتاب "التوكل" لفضيلة الشيخ.