د. يوسف القرضاوي

مما يذكر في فقه الأولويات: أن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد. فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهو مدني بطبعه، كما قال القدماء، أو هو حيوان اجتماعي كما قال المحدثون. فالمرء قليل بنفسه، كثير بجماعته، بل هو عدم نفسه، موجود بجماعته.

ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة أوكد من الواجب المتعلق بحق الفرد.

ولهذا قرر العلماء في التعارض بين الجهاد ـ إذا كان فرض كفاية ـ وبين بر الوالدين، أن بر الوالدين مقدم، كما ثبت من الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها. ولكن إذا كان الجهاد فرض عين، كما إذا غزا الأعداء الكفار بلدا من بلاد الإسلام، ففرض على أهله كافة أن يهبوا للدفاع عن بلدهم. فإذا عارض بعض الآباء أو الأمهات ـ بمقتضى عواطفهم ـ في اشتراك أبنائهم في هذا الجهاد الدفاعي، فلا عبرة بمعارضتهم شرعا.

صحيح أن برهما وطاعتهما فرض عين، كما أن الجهاد هنا فرض عين، ولكن فرض الجهاد هنا، لحماية الأمة كلها، ومنها الوالدان، فلو سقط البلد، أو هلك أهله، لهلك الأبوان فيمن هلك. فالجهاد هنا لمصلحة الجميع.

وقد يعبر عن ذلك بأن الجهاد هنا حق الله، والبر حق الوالدين، وحق الله تعالى مقدم على حق خلقه.

وهذا تأكيد للمقولة السابقة، فكثيرا ما تكون كلمة "حق الله" تعبيرا عن حق الجماعة أو الأمة، إذ أن الله تعالى لا تعود عليه مصلحة من وراء هذه الأحكام، فإنما هي أولا وأخيرا لمصلحة عباده.

وتطبيقا لهذه القاعدة: تقديم حق الأمة على حق الفرد، أجاز الإمام الغزالي وغيره رمي المسلمين إذا تترس العدو بهم (أي احتمى بهم وجعلهم ترسا له في مقدمة جيشه) بشروط معينة، مع أن من المقرر الذي لا نزاع فيه: أن حقن دماء المسلمين واجب، وأنه لا يجوز سفك دم من مسلم بغير حق. فكيف استجاز مثل الغزالي رمي هؤلاء المسلمين البرآء في جيش العدو الكافر؟

إنما استجاز ذلك وكل من وافقه، صيانة للجماعة، وحفظا للأمة من الهلاك، فإن الفرد يمكن أن يعوض. أما الأمة فلا عوض عنها.

يقول الفقهاء: لو أن الأعداء تترسوا ببعض المسلمين، كأن كانوا أسرى عندهم أو نحو ذلك، وجعلوهم في مواجهة الجيش المسلم، ليتقوا به، وكان في ترك هؤلاء الغزاة خطر على الأمة الإسلامية جاز قتالهم، وإن قتلوا المسلمين الذين معهم، مع أنهم معصومو الدم لا ذنب لهم، ولكن ضرورة الدفاع عن الأمة كلها اقتضت التضحية بهؤلاء الأفراد خشية استئصال الإسلام واستعلاء الكفر، وأجر هؤلاء الأفراد على الله.

ولهذا، رد الإمام الغزالي اعتراض من يقول في هذه الصورة: هذا سفك دم معصوم محرم، بأنه معارض، لأن في الكف عنه إحلال دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع.

وهذا ـ كما رأينا ـ مبني على فقه الموازنات.

ومثل ذلك إذا اقتضت ظروف الحرب فرض ضرائب على القادرين وأهل اليسار لتمويل الجهاد، وإمداد الجيوش، وإعداد الحصون، ونحو ذلك من احتياجات الحرب، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة. واستدل الغزالي لذلك بقوله: "لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي المكلفين بالضرائب الإضافية) قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام (أي بلاده) عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور".

ومثل ذلك فك أسرى المسلمين، وتخليصهم من ذل أسر الكفار، مهما كلف ذلك من الأموال. قال الإمام مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.

هذا، لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد.

ــــــــ

- من كتاب "في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ.