د.يوسف القرضاوي
إذا تأملنا في السنة المطهرة ـ قولا وفعلا وتقريرا ـ وجدناها حافلة بشتى الأمثلة والدلائل التي يتمثل فيها الثبات والمرونة جنبا إلى جنب.
(أ) يتمثل الثبات في رفضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التهاون أو التنازل في كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية.
ومهما حاول المحاولون أن يثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات، أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير على النفس البشرية، فموقفه هو الرفض الحاسم، الذي علمه إياه القرآن في مواقف شتى. فحين عرض عليه المشركون، أن يلتقوا في منتصف الطريق، فيقبل شيئا من عبادتهم ويقبلوا شيئا من عبادته، لو يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا إلهه مدة كان الجواب الحاسم يحمله الوحي الصادق في سورة قطعت كل المساومات وحسمت كل المفاوضات، وهي قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).
ولما تلا عليهم آيات الله بينات، منكرة عليهم شركهم وعنادهم، ناعية ضلالهم وجحودهم، قالوا له صلى الله عليه وسلم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله)، فكان الرد القاطع، تلقينا من الله تعالى لرسوله: (قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب روم عظيم، قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون)؟
وهكذا تعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وحي الله: أن لا تنازل ولا تساهل في أمور العقيدة وما يتصل بها.
وفي مقابل ذلك، نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة و"التكتيك" ومواجهة الأعداء، بما يتطلبه الموقف المعين، من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات، دون تزمت أو تشنج أو جمود.
نجده في يوم الأحزاب مثلا يأخذ برأي (سلمان) في حفر الخندق حول المدينة، ويشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء بعض المهاجمين مع قريش جزءا من ثمار المدينة، ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم، كسبا للوقت إلى أن يتغير الموقف.
ويقول لنعيم بن مسعود الأشجعي ـ وقد أسلم، وأراد الانضمام إلى صفوف المسلمين ـ "إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت" فيقوم الرجل بدور له شأنه في التفريق بين قريش وغطفان ويهود بني قريظة. وفي يوم الحديبية تتجلى المرونة النبوية بأروع صورها.
تتجلى في قوله ذلك اليوم: "والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها".
وفي قبوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكتب في عقد الصلح: "باسمك اللهم" بدل (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي تسمية فضها قريش.
وفي قبوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمحو كلمة "رسول الله" بعد اسمه الكريم، على حين رفض (علي) رضي الله عنه أن يمحوها بعد كتابتها.
وفي قبوله من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين، وإن كان في عاقبته الخير كل الخير.
والسر في هذه المرونة هنا، والتشدد في المواقف السابقة: أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية، وبسياسات وقتية، أو بمظاهر شكلية، فوقف فيها موقف المتساهل.
(ب) يتمثل الثبات والمرونة معا في موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وفد ثقيف وقد عرضوا عليه أن يدخلوا الإسلام ـ ولكنهم سألوه أن يدع لهم (الطاغية) ـ وهي (اللات) التي كانوا يعبدونها في الجاهلية ـ ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك (الطاغية)، أن يعفيهم من الصلاة، وألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه".
فهو صلى الله عليه وسلم أمام العقائد والمبادئ لا يتنازل ولا يترخص ولا يتسامح، كما في أمر (الطاغية) وأمر الصلاة. وأما في الكيفيات والجزئيات ففيها متسع للترخص والمسامحة كما في كسر الأوثان بأيديهم فهو أمر لا يتعلق بالمبدأ، بل بطريقة التنفيذ.
ــــــــ
- عن كتاب "مدخل لمعرفة الإسلام" لفضيلة الشيخ.