د. يوسف القرضاوي

ربما يبدو لأول وهلة أن العلمانية لا اعتراض لها على الجانب الأخلاقي في الإسلام، بل لعلها ترحب به، وتدعو إليه، باعتبار أن الأخلاق هي قوام المجتمعات، وعماد النهضات، وأن الإنسان هو محور التقدم، وصانع التنمية، ومنشئ الحضارة، إنما تبنيه الأخلاق والفضائل الإنسانية الرفيعة، ولم ينل بيت شعر قاله شاعر في عصرنا، ما ناله بيت شوقي الشهير:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت  **  فإن همو، ذهبت أخلاقهم ذهبوا!

هذا ما لا خلاف عليه ـ على وجه العموم ـ بين الإسلام والعلمانية.

ولكن عند التأمل والتحقيق، نجد بينهما خلافا أكيدا في موضعين:

أولا: في مجال العلاقة بين الجنسين، حيث تتميز الأخلاق الإسلامية هنا، عن أخلاقيات الحضارة الغربية، التي يتبع سننها العلمانيون، شبرا بشبر، وذراعا بذراع.

فالإسلام ـ وإن كان لا يصادر هذه الغريزة ولا يعطلها، أو يعتبرها في ذاتها قذارة ورجسا ـ يصر على تصريفها في نطاق الزواج المشروع، الذي به يجد كل من الزوجين السكينة والمودة والرحمة، وبهذا تتكون الأسرة، التي هي نواة المجتمع الراقي.

ويحرم الإسلام أي اتصال جنسي، خارج هذه الدائرة، ويعتبره من الزنى أو الشذوذ، الذي يجلب سخط الله تعالى، ويشيع الانحلال والفساد في المجتمع، (ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة، وساء سبيلا) (سورة الإسراء:32).

كما يحرم الإسلام كل الوسائل، التي تيسر وقوع الفاحشة، أو تغرس بها، أو تجرئ عليها، ولهذا يربي المؤمنين والمؤمنات على العفاف، والإحصان، وغض البصر، كما يوجب على المسلمة التزام الحشمة، والوقار في الزي والكلام والمشي والحركة (فلا تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا) (سورة الأحزاب:32) (ولا يبدين زينتهن، إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (سورة النور:31).

كما حرم الإسلام خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه، وحرم عليها السفر وحدها بغير زوج، ولا محرم، وخصوصا مع عدم الأمن.

هذه الأحكام والتوجيهات الإسلامية، لا ترحب بها العلمانية المستغربة، ولا ترى أن تقيد المجتمع، الذي تحكمه، بقيودها، وأن تدع الحبل على الغارب للجنسين، ليتصرفا كما يحلو لهما، بناء على أن ذلك يدخل في نطاق الحرية الشخصية.

وهذا الموضوع من المحكات الأساسية، التي تصطرع فيها العلمانية والإسلام، فالإسلام يغلق ـ بقوة ـ الأبواب، التي تهب منها رياح الفتنة، من الأغنية الخليعة، والصورة المثيرة، والقصة المكشوفة، والأزياء المغرية، ويقاوم كل ألوان التبرج والإثارة، والخلوة غير المشروعة، ويجتهد في حل مشكلات الزواج، وإزاحة العوائق من طريقه، حتى يستغني الناس بالحلال عن الحرام.

والعلمانية لا تنظر للأمر على أنه مشكلة تتطلب حلا، ولا ترى حرجا من إتاحة الفرص لاستمتاع أحد الجنسين بالآخر، كما تفعل المجتمعات المتقدمة اليوم! وتنظر لموقف الإسلام هنا، على أنه موقف متزمت متشنج، وللدعاة الإسلاميين، على أنهم قوم "معقدون" يضخمون مسألة العلاقة الجنسية، ويعطونها من المساحة، أكثر مما ينبغي.

والإسلاميون لا ذنب لهم، إلا أنهم يحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ويقررون ما شرع الله، وهل يسع مسلما صحيح الإسلام، إلا هذا الموقف؟!

والموضع الثاني: أنهم لا يحبون أن يربطوا الأخلاق بالدين، وإنما يريدون أن يقيموها على أساس فلسفي أو عملي، بعيدا عن الدين، وترغيبه وترهيبه. "فالأخلاق الدينية" عندهم في موضع الاتهام، أما "الأخلاق المدنية" فهي أقوم قيلا، وأهدى سبيلا.

ـــــــــ

- عن كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" لفضيلة الشيخ.