د. يوسف القرضاوي

إذا كانت العلمانية دعوة مضادة ومناقضة للدين، ودعوة مضادة ومناقضة للدستور، وهي مضادة ومناقضة لإرادة الشعب، فهي كذلك دعوة مضادة ومناقضة لمصلحة الوطن، ومصلحة الأمة.

فلو كنا لا نقيس الأمور إلا بمقياس المنفعة وحدها، كما هو مذهب "البراجماتيين" لكانت منفعة الوطن، ومصلحته العليا والعامة والدائمة توجب علينا أن نفرض "العلمانية" ونتبنى "الإسلامية".

وذلك أن الأوطان إنما تنهض وترتقي وتنتج، بمقدار ما تملك من طاقات مادية، ومن طاقات بشرية، ولا قيمة للإمكانات، والطاقات المادية والاقتصادية، وغيرها، ما لم تكن هناك طاقات بشرية قادرة على تسخيرها، والاستفادة منها، واعية بذلك مريدة له.

والشعوب ـ دائما ـ في حاجة إلى حوافز وأهداف ومحركات معنوية، تفجر طاقاتها المكنونة، وتستخرج قدراتها المذخورة، وتستثير مواهبها المبدعة، وتغرس في أنفسها حب التفوق والإتقان، وتدفعها إلى بذل النفس والمال والوقت والراحة في سبيل ما تؤمن به، وفي سبيل الحفاظ على مقوماتها وخصائصها الذاتية، التي تميزها عن غيرها، وبعبارة أخرى: في حاجة إلى "رسالة" تعبئ قواها، وتجمع شتاتها، وتحيي مواتها، وتنشئها خلقا جديدا.

وإذا أخذنا الشعب المصري مثلا لذلك، فما الذي يحركه، ويفجر طاقاته الدفينة، ويدفعه بقوة إلى الأمام؟ ويهون عليه بذل الأنفس والنفائس من أجل أهدافه؟

إن قراءة التاريخ، واستقراء الواقع، يؤكدان لنا: أن هذا المحرك المفجر هو الإيمان، هو الإسلام.

يقص علينا القرآن في عدد من سوره "الأعراف، طه، الشعراء" قصة طائفة من أبناء مصر، غرر بهم حينا من الدهر، فساروا في ركاب الطغيان المتأله، طغيان فرعون، فاقدين لهويتهم، لا هدف لهم إلا المال أو الزلفى إلى الطاغوت، فلما أنار الله بصائرهم بالإيمان استحالوا إلى قوة هائلة، ترفض المال والجاه، وتستهين بالجبروت والطغيان، وتتحدى ـ مع ضعفها المادي ـ أقوى الأقوياء.

أولئك هم سحرة فرعون من أبناء مصر، الذين ضللوا من فرعون وملئه، حتى أذن الله لهم أن يتحرروا من الوهم والضلال، حين ألقى موسى عصاه، فلقفت كل ما ألقى السحرة من عصى وحبال (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) (الأعراف:118-123)

وهدد فرعون وتوعد هؤلاء المؤمنين الجدد بالتقتيل والتصليب، فلم يبالوا به، وقالوا وهم في رسوخ الجبال (قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف:125،126).

وعندنا مثل قريب واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ـ كما يقولون ـ يعبر أبلغ التعبير عن "أثر الدين" في تعبئة شعبنا، وتحريكه وبعثه في أي حركة يخوضها.

هذا المثل هو معركة العاشر من رمضان ـ وهذا هو اسمها الذي يجب أن تذكر به دائما لا السادس من أكتوبر، كما قالوا بعد ـ إنها معركة هبت فيها رياح الإيمان، ونفحات رمضان، وقام فيها الإيمان الديني، بدور هائل شهد به المقاتلون أنفسهم، قادة وجنودا ولمسه كل مراقب لسير المعركة، من مصري أو عربي أو أجنبي.

ولسنا من السذاجة أو الجهالة، بحيث ننسى دور التخطيط والتدريب والإعداد لهذه المعركة، ولكن ما كان هذا يغني لو فرغت القلوب من الإيمان، وقطعت صلتها برب السماء، كما كان عليه الحال في يونيو (حزيران) سنة 1967م.

إن شعار "الله أكبر" حين دوت صيحاته في الآفاق، لمس أوتار القلوب، وأوقد جذوة الحماس في الصدور، وحرك كوامن النفوس، وأيقظ معاني البطولة المستكنة بين الضلوع، ووصل الحاضر بالماضي البعيد، فتذكر أبناء مصر المؤمنة، أيام قطز، وصلاح الدين، وتذكروا قبل ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسرايا أصحابه، ومعارك الإسلام الحاسمة في التاريخ.

وهناك كان العبور، واقتحام خط "بارليف"، والانتصار على القوة، التي قيل يوما: أنها لا تقهر، كما قيل قديما عن التتار: إذا قيل لك: إنهم انهزموا فلا تصدق!

لقد أقسم كثير من الضباط والجنود أنهم كانوا يرون مخلوقات بثياب بيض، تقاتل إلى جوارهم، وسواء كان هذا حقيقة أم خيالا، كما يقول الماديون، فعلى كل حال لا يشك أحد في قيمة الروح المعنوية عند من يحارب، وهو يعتقد أن الملائكة تحارب معه، وتنصره على عدو الله وعدوه!

ومهما يختلف المراقبون والمحللون في شأن الثورة الإيرانية، ومدى صوابها، أو خطئها في مواقفها، ومدى قربها من الإسلام أو بعدها، فإن الذي لا يختلف فيه اثنان: أنها استطاعت أن تعبئ قوى الشعب الإيراني تعبئة، لا نظير لها في التاريخ القريب، ولا في الواقع الحاضر.

لقد جعلت من الشعب كله جيشا وراءها، يساندها في معاركها الداخلية والخارجية، وأشعلت إيمانه وحماسه، حتى لم يعد يبالي بالضوائق الاقتصادية، ولا بالحصار الخارجي، طلبا للجنة، وسعيا إلى "الشهادة" التي نالها إمامهم الحسين "رضي الله عنه"!

أجل، لقد جعلت الشباب الغض، يركض إلى الموت ركضا عن حرص وحب، وأبوه يبارك خطاه، وأمه تدعو له بإحدى الحسنيين، فإذا جاء نبأ شهادته، انطلقت الزغاريد في بيته، كأنه خبر زفافه إلى عروس، وليس نبأ مقتله في المعركة!

ولقد نجحت الثورة نجاحا منقطع النظير في إخراج المرأة من عزلتها وأميتها الدينية والسياسية، ومن اهتماماتها التافهة بالزينة و"المودة" إلى الاهتمام بالقضايا المصيرية للدين والوطن.

على أن المثل الأروع الذي لا يقبل الجحود ولا الشك، هو ما يصنعه الإسلام اليوم على أرض أفغانستان الصامدة، وما يلقنه المجاهدون البسطاء من دروس للقوة العظمى الثانية في العالم "الاتحاد السوفييتي" لقد هزم إيمان الأفغان دبابات الروس وصواريخهم، وكذلك يصنع الإسلام دائما.

وأعتقد أن قدرة التيار الإسلامي على تعبئة الأمة، وإلهاب حماسها، وإحياء روحها، واستنفار طاقاتها للعمل والبناء والجهاد، مما لا يختلف فيه اثنان.

وقد يقول بعض العلمانيين: إننا لا نمانع في استخدام الدين لشحذ الهمم، وبعث العزائم، وتعبئة الطاقات لدى الشعب لمواجهة التحديات، في معارك التحرير والتقدم والبناء.

ونقول لهؤلاء:

أولا: إن الدين أشرف وأرفع قدرا من أن يتخذ مطية تركب، أو أداة تستخدم لغرض موقوت، ثم يلقى به ـ بعد ذلك ـ في سلة المهملات، إن الدين هو جوهر الوجود، وسر الخلود، وروح الحياة، وهو غاية تقصد لذاتها، وليس مطية تركب.

ثانيا: إن الدين لا يؤدي رسالته في البعث والإحياء والتعبئة، إلا إذا كان هدفا لا وسيلة، وكان دما يجري في عروق الحياة كلها، لا شيئا على هامش الحياة. إنما يؤثر الدين في الشعوب، ويغير من حياتها وسلوكها، إذا كانت كلمته هي العليا في التشريع والتوجيه والتعليم والتثقيف، بحيث يصبغ الحياة بصبغته، فينطلق الناس تحت لوائه، عاملين مخلصين، وفي الخيرات مسارعين ومسابقين.

وثالثا: إن الشعوب بحاستها الفطرية، لا تستجيب لمن يجندها باسم الدين، إلا إذا لمست فيه الولاء لدين الله، وأحست بحرارة الإخلاص له، والحرص على تطبيق شرائعه، وتعظيم شعائره، والدخول فيه كافة كما أمر الله. وإلا أعرضت عنه، وكشفت خداعه ونفاقه، وقالت في قوة وجلاء: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) (سورة البقرة:85).

ـــــــــ

- عن كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" لفضيلة الشيخ.