د. يوسف القرضاوي

عقائد، وعبادات، وأخلاق، وآداب، ومعاملات، إذا أحسن الناس فهمها والعمل بها، زكا الفرد، واستقرت الأسرة، وتماسك المجتمع، وصلحت الدولة، واستقام أمر الحياة، بقدر استقامتهم على أمر الله، وإذا أساءوا فهمه أو العمل به، اختلت حياتهم الفردية والاجتماعية، بقدر بعدهم عنه.

مصدر هذا الدين هو القرآن الكريم، الذي تكفل الله بحفظه، فتبقى كما أنزله الله منذ أربعة عشر قرنا، لم تتغير فيه كلمة أو حرف، وما يبين هذا القرآن، ويشرحه من صحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كلفه الله ببيان القرآن، بالقول والفعل والتقرير (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم) (سورة النحل:44).

أما آراء البشر وتصرفاتهم، فلا تحسب على الإسلام، لأنهم غير معصومين عن الخطأ أو الانحراف، ولأن الإسلام دين الله وشرعه وهداه، وليس هو قول فلان، ولا تصرف علان من الناس.

وقد أجمع المسلمون على أن كل واحد يؤخذ منه ويرد عليه، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستثنى من ذلك، إلا ما أجمعت عليه الأمة، ممثلة في علمائها ومجتهديها، لا يشذ منهم أحد، لما ثبت أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.

وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، أي منهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه، لما لهم من خصوصية القرب من العهد النبوي، ووجود كبار الصحابة، الذين لا يبخلون بنصيحة، ولا يسكتون على باطل، ولا يقرون منكرا، وقد جاء في ذلك الحديث الصحيح: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".

أما أخطاء المسلمين أن انحرافاتهم على مدار التاريخ، فإثمها على أصحابها، لا يتحمل الإسلام وزر شيء منها، وهي حجة للإسلام عليهم، وليس حجة لهم على الإسلام.

هذا هو الإسلام، الذي ندعو إليه، ونربي الناس عليه، وننادي بضرورة العودة إليه، عقيدة، وعبادة، وتربية، وأخلاقا، وتشريعا، وتنفيذا.

ندعو إليه: صافيا بلا شوائب، مستقيما بلا انحراف، كاملا بلا تجزئة، خالصا بلا شركة، سالما من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

ولكن دعاة العلمانية لا يستطيعون ـ علانية على الأقل ـ أن يعترضوا على هذا الإسلام المصفى، فاخترعوا "إسلاما" من عندهم، يريدون أن يلزمونا به قسرا وكرها.

أجل، يريدون "إسلاما" غير الذي جاء به كتاب الله، ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقه الخلفاء الراشدون، وشرحه الأئمة، والفقهاء، والمفسرون، والمحدثون.

يريدون "إسلاما" يحملونه أوزار التاريخ، كما يصورونه هم، أو تصوره لهم مصادر إلهامهم من المبشرين والمستشرقين.

استمع إلى متحدثهم الفيلسوف فؤاد زكريا يقول:

"إن دعاة تطبيق الشريعة، يرتكبون خطأ فادحا، حين يركزون جهودهم على الإسلام، كما ورد في الكتاب والسنة، ويتجاهلون الإسلام، كما تجسد في التاريخ. أعني: حين يكتفون بالإسلام كنصوص، ويغفلون الإسلام كواقع"!!

هذه ـ والله ـ عبارته بحروفها من تقديم كتبه ص10. وإني لفي غاية الدهشة أمام هذا الكلام العجيب!

هل يريدنا الكاتب الفيلسوف، إذا دعونا الناس إلى الإسلام، أن ندعوهم إلى طغيان الحجاج، أو خمريات أبي نواس، أو مجون بعض الملوك والسلاطين أو استبدادهم، ونقول لهم: هذا هو الإسلام؟!

إن الإسلام منهج الله لهداية البشر، ألزمهم الله به، ليعملوا بتعاليمه متعبدين، ومتقربين إليه، ليظفروا بسعادة الدارين. فكيف نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به؟! وكيف ندعوهم إلى الإسلام في صور الانحراف عن الإسلام؟!

وكيف يوضع منهج إبليس في الغواية، موضح منهج الله في الهداية؟!

هذا وضع مقلوب يا أستاذ الفلسفة.

سيقول العلمانيون: إنكم بهذا تدعون إلى الإسلام المثالي، الذي يصعب تحقيقه.

ونقول:

أولا: إن هذا هو الإسلام، الذي شرعه الله للناس، ولا خيار لنا فيه.

وثانيا: إن كل من يدعو إلى مذهب أو نظام أو أيديولوجية، يدعو إليه في صورته المثالية، وعلى الناس أن يبذلوا جهدهم ليقتربوا من هذه الصورة المثالية، ما استطاعوا، وعلى أجهزة التشريع والتوجيه أن تساعدهم على هذا الاقتراب والترقي. وسينجح في ذلك قوم، ويرسب آخرون، ولا حرج، فمن سار على الدرب وصل.

وليس من العقل ولا الحكمة ولا المصلحة، أن يعرض على الناس الصور الرديئة، والمظلمة في التطبيق، من أول الأمر، فهذه تصيبهم بالإحباط واليأس، وهذا ما يفعله عادة الديمقراطية، والاشتراكية، وغيرهما. يدعون إليها في صورتها المثالية، بعيدا عن أخطاء التطبيق، وانحرافات المطبقين، وسيأتي مزيد بيان لهذا في مناسبته، فيما بعد، وسننقل من كلام د. زكريا، ما يرد على د. زكريا.

ويقول علمانيون آخرون:

سلمنا معكم بأن الإسلام ليس هو التاريخ ولا الواقع التطبيقي، بل هو الإسلام المثالي، كما تصوره النصوص.

ولكن هذا الإسلام نفسه، غير متفق على صورة له، فصورته عند التقليديين المحافظين، غير صورته عند المجددين المجتهدين، غير صورته عند فصائل الصحوة الإسلامية المعاصرة، وفصائل الصحوة الإسلامية، ليست تيارا واحدا، بل هي تيارات مختلفة أشد الاختلاف من الإخوان المسلمين إلى جماعة التكفير والهجرة.

هناك تيارات تتبنى أضيق صور الجمود والتقليد المذهبي، وأخرى حرفية لفظية، تهمل مقاصد الشريعة، وتقف عند ظواهرها، وهم الذين سمتهم "الظاهرية الجدد".

وهناك تيارات، لا تتخذ غير العنف أسلوبا، والقوة وسيلة، وتعلن الحرب على السلطة، وإن أراقت ما أراقت من الدماء، وهناك تيارات تكفر المجتمع كله، لا تكتفي بالحكام، بل تشرك الشعوب أيضا، لأنها رضيت بهم، والرضا بالكفر كفر!

وهناك اجتهادات غريبة لأفراد أو جماعات، كأنها لا تعيش هذا العصر، ولا تعاني مشكلاته، ولا تتخاطب مع أهله.

فأي صورة من صور الإسلام، نعتبرها هي التي تمثل الإسلام الصحيح؟ وما يدرينا: أي موقف يتخذه إسلام اليوم من المرأة، أو من الشورى، أو من الحرية، أو من غير المسلمين مثلا؟؟

وأبادر فأقول: إن هذا الكلام في جملته صحيح، ولابد لهذا السؤال من جواب:

والجواب أننا نقصد بالإسلام الذي ندعو إليه: الإسلام الذي يمثله التيار المستنير المعتدل الملتزم، وهذا التيار هو الذي يمثل الجمهور الأكبر للصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وهو التيار المستمر والباقي، برغم ما يعترضه من عقبات، وما تعرض له من محن، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "تيار الوسطية الإسلامية".

وأما التيارات الأخرى، فتمثلها فصائل قليلة العدد، قصيرة العمر، وهي ـ في العادة ـ لا تستمر طويلا، فإن الغلو لا يطول عمره.

وهذا التيار الملتزم المعتدل المستنير، يمكن أن يتمثل في أصول أو مبادئ محددة، تكون ملامحه، وتحدد وجهته، وتعرض مفاهيمه الأساسية في أبرز القضايا وأهمها.

وها هي المعالم الرئيسية لهذا الإسلام، كما نفهمه وندعو إليه، وبعبارة أدق: كما يدعو إليه تيار "الوسطية الإسلامية".

ــــــــ

- من كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" لفضيلة الشيخ.