حسام تمام
الشيخ يوسف القرضاوي هو ابن خالص لحركة الإخوان المسلمين، فلم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة الإخوان ومدرستها، كما لم يعرف له خروج صريح منها أو عنها. وقد عرف القرضاوي بحركة الإخوان ربما بالقدر الذي عرفت به، وارتبطا معا في كل مراحل العمر كأنك تقرأ تاريخها حين تقرأ مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء حتى كتابه هذه السطور؛ وكأنه يكتب عن نفسه حين يؤرخ للجماعة في كتابه: الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية. يقترب عمر القرضاوي من عمر الإخوان (ولد في عام 1926 وتأسست الجماعة بعد ميلاده بعامين) وتاريخه في الدعوة يكاد يتطابق مع الفترة الأبرز في تاريخ دعوة الإخوان.
إن تفهّم هذه العلاقة الخاصة والفريدة (بين القرضاوي والإخوان) يتطلب الإمساك بمفاتيح أساسية يمكن أن تفتح أمامنا أبواب واسعة للتعرف على مساحات ما تزال مجهولة في حياة الشيخ يوسف القرضاوي آخر حبات العقد في جيل من كبار مشايخ الأزهر الشريف المجددين الذين ملئوا الدنيا وشغلوا الناس.
وجوه ومواقع وأدوار
أول مفاتيح العلاقة الفريدة في علاقة الشيخ يوسف القرضاوي بحركة الإخوان المسلمين نجده في: تعدد وجوه القرضاوي ومن ثم المواقع التي احتلها والأدوار التي لعبها في الحركة.. فالقرضاوي يمثل نمطا فريدا بين الأزهرية يستعيد تراث العلماء الأوائل الذين يجمعون بين علوم ومعارف يندر اجتماعها في شخص واحد في هذا الزمن الذي أصبح زمن التخصص بل والتخصص الدقيق داخل الفرع الواحد من المعارف والعلوم، و يكاد القرضاوي- الذي يبدو متأثرا بنموذج الإمام أبي إدريس الشافعي- أن يكون آخر حبات عقد هذا النمط الذي انفرط.
فالقرضاوي في أحد وجوهه هو أبرز ممثلي مدرسة تيسير الفقه الإخوانية التي قامت على مهمة تقريب الفقه وتبسيطه والتي نجحت في أن تخرج الفقه من الشأن الخاص إلى الشأن العام، وهي المدرسة التي بدأها الشيخ سيد سابق بكتابه فقه السنة الذي وضعه بتكليف من الشيخ المؤسس حسن البنا وقدّم له بمقدمة تحتفي به وتعرف بأهميته. وإذا كان للشيخ سيد سابق فضل السبق فقد كان القرضاوي الأشهر بين فقهاء هذه المدرسة والأكثر قدرة على التجديد والاستمرارية، وقد كانت بدايته مع كتابه الشهير (الحلال والحرام في الإسلام) الذي أصدره عام 1959، فكان أول وأشهر كتبه التي عرفت به في العالم الإسلامي على نطاق واسع.
لا تنحصر أهمية كتاب (الحلال والحرام) للقرضاوي في مجرد اختياراته الفقهية التي تميل لرفع الحرج والتيسير على الناس وهو منهجه الذي التزمه طوال حياته (التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة)، ولكن تتعداها إلى أهمية مقاربته التي تعتمد تقريب الفقه وإتاحته للمسلم غير المختص بالعلم الشرعي. إن القرضاوي في هذا الكتاب الذي افتتح به حياته في التأليف يخرج الفقه من كتب الفقهاء المكتوبة بلغة تراثية متخصصة بل ومغلقة أحيانا ويصوغه بلغة معاصرة سهلة قريبة من معجم المثقف، بل والمتعلم العصري، ما يسمح لغير الفقهاء بالتعامل مباشرة مع مسائل وقضايا يحتاج إليها في حياته اليومية.
سيستمر القرضاوي في توجهه هذا خاصة بعد القبول الحسن الذي لاقاه كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) وستتوالى كتاباته التي تبسط مسائل الفقه وتقربها للقارئ غير المختص فيصدر له (فقه الزكاة) في مجلدين، ثم (فتاوى معاصرة) في ثلاثة مجلدات.. ثم يخصص سلسلة كاملة لهذا الغرض سماها سلسلة تيسير الفقه أصدر منها: الصيام، الطهارة، أصول الفقه الميسر.. ليصبح القرضاوي أهم شيوخ مدرسة تيسير الفقه وتقريبه التي استفادت منها حركة الإخوان والحركة الإسلامية في عمومها في بسط مشروعها الذي اعتمد على نقل مسائل الشرع من الخاص إلى العام وتجاوز احتكار المؤسسات الدينية للمعرفة الدينية.
لم يقف دور القرضاوي الفقيه على تبسيط الفقه وتقريبه وتيسير مسائله على أهمية هذا العمل إذا ما وضع في سياقه التاريخي، بل جاوز ذلك إلى السعي لحسم كثير من المسائل الفقهية التي لم يكن يجرؤ على الاقتراب منها والكلام فيها-فضلا عن التيسير بشأنها- غيره من فقهاء الحركة من قبل. فكان من أوائل من تكلموا في قضايا مثل الحكم الشرعي للموسيقى والغناء، فخصص جزءا وافرا من كتابه الأول (الحلال والحرام) لهذا الموضوع وكذلك تطرق له في (فتاوى معاصرة) ثم أصدر كتبا كاملة في الباب نفسه فكتب كتابا عن (الإسلام والفن) وثانيا عن (فقه الغناء والموسيقى في ضوء الكتاب والسنة) وآخر عن (اللهو والترويح). لقد تبنى القرضاوي في هذه القضايا منهج التيسير والإباحة ولم يتوسع في المنع والتحريم كما كان يفعل غيره وكان في وعيه - دائما- حاجة المشروع الإسلامي إلى التيسير باعتباره مشروع أمة وليس مشروعا فرديا يمكن لصاحبه أن يتوسع في المنع إتباعا لقاعدة سد الذرائع.
كما كان من أوائل من تعاطى بقوة مع موضوع الحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة فدعم الأستاذ عبد الحليم أبو شقة في إصدار موسوعته الشهيرة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) التي يمكن أن تعد أهم ما صدر في هذا الباب. وتصدى بجرأة كبيرة لمزاج التشدد والميل للتحريم في مسائل المرأة الذي سيطر على الحركة الإسلامية إبان السبعينيات، بل وذهب في بعض الأحيان إلى مخالفة شيخه ومرشده الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان مثلما فعل في إباحته لعمل المرأة سياسيا والإقرار لها بالحقوق السياسية كاملة (المشاركة في الانتخابات تصويتا وترشيحا) على الرغم من أن البنا كان يذهب إلى عكس ذلك. وللقرضاوي رسالة لطيفة عن (مركز المرأة في الحياة الإسلامية) يمكن أن تلخص رؤيته المتسامحة ومنهجه في التعاطي مع قضايا المرأة.
لقد مكنت القرضاوي جرأته كفقيه على التعاطي مع عدد من الإشكالات الفقهية التي كانت عقبة أمام تطور الحركة في بعض مراحلها؛ بخاصة مسائل الفقه السياسي، فجاء القرضاوي ليفكك للحركة هذه الإشكاليات ويقدم لها المخرج اللازم مثلما فعلت فتواه بجواز نشأة الأحزاب السياسية وتعددها (باعتبار أن الأحزاب في السياسة مذاهب في الفقه) وبحق المرأة في ممارسة السياسة تصويتا وترشيحا.
ولم يكن القرضاوي في حركة الإخوان مجرد فقيه تلجأ إليه في مسائل الفقه الخاصة، كما لم يتوقف دوره عند تلبية حاجات الحركة من الفقه الميسر (بفتح السين) والميسر (بكسرها)، بل كان فيها داعية مبرزا تهتز له أعواد المنابر وتتأثر لخطبه ومواعظه البليغة الفاعليات والملتقيات الإسلامية الخاص منها بأعضاء الحركة ومحازبيها أو المفتوحة لجمهور الصحوة الإسلامية وهو وجه آخر ومهم من وجوه القرضاوي التي أثرث في علاقته بالحركة الإسلامية.
ليست هناك إحصاءات موثقة كما ليس ممكنا الحديث عنها أصلا؛ لكن بالإمكان وبقدر لا بأس به من الثقة القول بأن القرضاوي كان الداعية الأكثر تأثيرا في تاريخ الحركة الإسلامية اعتمادا على كونه صاحب الباع الأكبر في هذا المجال عبر آلاف الخطب والدروس والمحاضرات التي ألقاها في الخاص والعام من عمل الحركة منذ أن عمل بقسم نشر الدعوة في بداية حياته وطوال بأكثر من ستين عاما لم يتوقف فيها عن الخطابة ودروس الوعظ حتى وهو يكتب الكتب أو يقدم برامج إذاعية (نور وهداية) أو برامج التلفاز الشهيرة مثل (الشريعة والحياة) أو (هدي الإسلام).
لقد بدأ القرضاوي الخطابة ودروس الوعظ ولم يتحصل بعد على الشهادة الثانوية، فخطب في مسجد قريته ولم يزل ابن السادسة عشرة عاما واشتهر حتى تسمى المسجد باسمه. ثم استمر في الدعوة واعظا وخطيبا في الجامعة الأزهرية وفي صفوف الحركة الإسلامية التي كانت تستعين به في عمل قسم نشر الدعوة، وحتى حين استعانت به في قسم الاتصال في العالم الإسلامي فقد كان دوره دعويا يقوم على إعطاء دروس الوعظ والتعريف بالفكرة الإسلامية خارج القطر (كما يحكي في مذكراته عن رحلته الأولى إلى الشام).. وفي محبسه مع الإخوان في محنتهم الثانية إبان صدامها الأول مع النظام الناصري عام 1954 كان القرضاوي الإمام الذي يصلي بأبناء الحركة والداعية الذي يخطب فيهم.
يذكر له تاريخ الحركة الإسلامية في نشأتها الثانية في عقد السبعينيات في مصر أنه كان الداعية الأكثر تأثيرا في الجماعات الإسلامية التي نشأت في الجامعات المصرية هذه الفترة، وأنه تقاسم مع الشيخ محمد الغزالي الذي كان يسبقه سنا ولم يكن قد غادر البلاد وقت المحنة الناصرية، مهمة التأثير في القطاع الأكبر من هذه الجماعات بما أدى إلى نقلها تدريجيا تيار الإخوان المسلمين ثم تنظيمها.
كان القرضاوي أول خطيب لصلاة العيد الجامعة التي أعادت الجماعات الإسلامية إحياء سنة إقامتها في الخلاء، فخطب أول خطبة صلاة عيد الفطر في الخلاء في ميدان عابدين عام 1976 والتي صارت من بعدها تقليدا ثابتا، كما خطب في العيد التالي في استاد الإسكندرية.
استمر القرضاوي في عمل الداعية حتى بعد أن استقر أستاذا في جامعة قطر، ولم يصرفه العمل البحثي والكتابة عن القيام بعمل الداعية من خطابة ووعظ، بل لم يتوقف عن هذا العمل حتى بعد أن بدأ يحل ضيفا على البرامج الدينية في محطات التلفاز والفضائيات. فرغم أن أكثر من أربعين مليون مسلم عبر العالم يتابعونه عبر برنامج الشريعة والحياة في فضائية الجزيرة ما يزال القرضاوي ملتزما بدور ومهام الداعية في أبسط صورها؛ فلا يتخلف عن خطبة الجمعة في مسجده الشهير بالعاصمة القطرية الدوحة (مسجد عمر بن الخطاب) إلا لسفر أو مرض.
والقرضاوي لدى حركة الإخوان ليس الفقيه والداعية الذي يكتفي بمد الحركة بالزاد الفقهي والدعوي فحسب؛ بل هو بالنسبة لها أيضا المربي والمؤطر التربوي وهو وجه لا يقل أهمية في وجوه القرضاوي، فهو شارك مبكرا في وضع البناء التربوي والثقافي داخل التنظيم عبر سلسلة مقالات مطولة كتبها لهذا الغرض تحت عنوان "ثقافة الداعية" كانت تنشرها مجلة الدعوة التي كانت تصدرها جماعة الإخوان في السبعينيات (وقد صدرت مجمعة فيما بعد في كتاب يحمل العنوان نفسه) ثم وضع كتابا آخر عن (الوقت في حياة المسلم) كان موجها بالأساس لجمهور الدعاة، ثم وضع كتابا ثالثا بالغ الأهمية عن (ظاهرة الغلو في التكفير) كان له تأثير كبير في تحصين الصف الإخواني من هذه الموجة التي ضربت الحالة الإسلامية مدة عقدين. كما وضع القرضاوي تصوره في القضية التربوية للحركة في كتاب مستقل (التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا) يعد من أهم الكتب المعتمدة لدى الحركة في هذا الباب.
كما كان من أبرز من شاركوا في عملية التأطير والتكوين لأبناء الجماعة داخل محاضنها التربوية الخاصة، مثل لقاءات الأسر والكتائب وهي لقاءات مغلقة على أطر الحركة، وقد ظل يقوم بذلك منذ عرف داخل الحركة إلى فترة تبدو قريبة حتى ما قبل انشغاله. ثم هو قضى فترة داخل الجماعة يقوم بمهام التربية والتكوين للإخوان من خارج القطر المصري أثناء عمله ضمن قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، كما يروي في مذكراته عن رحلته إلى سورية والأردن ولبنان.
ثم هو الذي تعمد دوما متابعة الحركة في مراحل نموها بالنصح والتوجيه وسعى إلى إرشادها إلى الوجهة الصواب فكتب عدة رسائل مهمة كانت كلها تدور حول ترشيد الحركة من أهمها: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ومن أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة... إلى غيرها من مؤلفات ناصحة للحركة لكن من داخلها؛ قد تحمل نقدا ولكنه بروح المحب الحادب عليها.
ووجوه القرضاوي في حركة الإخوان تتجاوز الشيخ أو العالم الأزهري إلى المحرض السياسي الذي يقدم الوقود الديني لقضايا الحركة السياسية ومعاركها سواء أكانت معارك خاصة بالحركة أو كانت تتصل بالقضايا العامة أو "قضايا الأمة" التي احتلت قمة أولوياته فيما بعد حين كفّ عن دخول السياسة من باب الحركة الإسلامية الخاص. وحين انتقل إلى خارج البلاد وتراجعت أعماله التنظيمية تدريجيا قام القرضاوي بهذا الدور في قضايا الأمة التي كان أبرز من تولوا الدفاع عنها وتحريض الناس من أجلها.. فاحتلت قضية فلسطين مبكرا اهتمامه.
وربما لم تتفجر قضية تهم الأمة أو الحركة الإسلامية إلا ووقف فيها القرضاوي محرضا يقدم وقود المعركة، فعل ذلك في أثناء الغزو والاحتلال السوفيتي لأفغانستان واستمر في حشد التأييد للمجاهدين حتى انسحاب السوفيت منها. وفعل ذلك في الغزو الأميركي للعراق فكان أعلى الأصوات وأكثرها تأثيرا في رفض الحملة الأميركية على أراضيه فأفتى بوجوب الجهاد لمقاومة الغزو الأميركي ثم لمقاومة هذا الاحتلال، وجر موقفه هذا عليه حملات إعلامية من بعض المنابر الإعلامية التي اتهمته بدعم الإرهاب.
تكرر الأمر في أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم فوقف القرضاوي محرضا للشارع المسلم على الغضب احتجاجا على إهانة الرسول الأعظم وقاد معركة الاحتجاج ضد الدنمارك.
أما الوجه الذي لم يغب دائما للقرضاوي وكان شريكا في كل وجوهه الأخرى وكان حاضرا في كل أدواره داخل الحركة الإسلامية فهو وجه الشاعر، فمنذ شرخ شبابه وشعر القرضاوي حاضرا بين أبناء حركة الإخوان، كتب مبكرا ولم يزل طالبا في المرحلة الثانوية مسرحيته الشهير (عالم وطاغية) التي يمجد فيها من مقاومة العلماء – في نموذج سعيد بن جبير- لظلم الحكام الطغاة – في نموذج الحجاج بين يوسف، فكان أبناء الحركة الإسلامية خاصة في أوساط الشباب الجامعي يؤدون هذه المسرحية في مناسباتهم وفاعلياتهم. كما اشتهرت قصيدته النونية التي كتبها في السجن الحربي يصف فيها الأهوال التي عاناها مع معتقلي الإخوان في هذا السجن المرعب، وتعد - مع قصيدة أبتاه للشاعر هاشم الرفاعي- من أهم قصائد السجون التي اشتهرت بين أبناء الحركة الإسلامية في نصف القرن الأخير.
وللقرضاوي ديوانان من الشعر (نفحات ولفحات، والمسلمون قادمون) مثلت قصائدهما وقودا لشباب الحركة الإسلامية يبثه روح الثورة والرغبة في الانعتاق من الظلم ويلهمه معاني التضحية والفداء من أجل أمته.
حركة موازية تتكامل ولا تتعارض
لا تفهم خصوصية العلاقة الفريدة بين الشيخ يوسف وحركة الإخوان المسلمين إلا بالتوقف عند ملمح مهم وهو اتساع خريطة أفكار الشيخ القرضاوي واهتماماته ونشاطاته وتطابقها مع مثيلتها لدى الحركة حتى يكاد يمثل وحده حركة موازية لها دون تعارض معها.
لقد اشتغل القرضاوي في قضايا الدعوة والتربية، وقضايا الفقه والتفسير، وقضايا الاقتصاد والتنمية، وقضايا الثقافة والفكر، وفي العمل الخيري والإغاثي، وفي قضايا السياسة... وكان في كل حركته يتقاطع فكرا ومنهجا مع حركة الإخوان إن لم يتطابق معها.. ليس هذا فحسب، بل إن كتاباته تأتي دائما إما لتقدم الأساس الفكري والشرعي لعمل الحركة أو لتفكك قضايا الالتباس ومساحات التوتر التي تعوق حركتها.
إبان الحقبة الناصرية في الستينيات وحين كانت الحركة تواجه تحديا على مستوى مشروعها الإسلامي الذي صار موضوعا للنقد والتحدي من قبل أنصار المشروع الاشتراكي كان اهتمام القرضاوي بالدفاع عن هذا المشروع وحمايته من موجة النقد التي كادت تعصف به فكتب وقتها سلسلته الشهيرة عن حتمية الحل الإسلامي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة، الحلول المستوردة وماذا جنت على أمتنا، بينات الحل الإسلامي، أعداء الحل الإسلامي..).
وفي إبان انبعاث الصحوة الإسلامية في السبعينيات انصب جهد القرضاوي على قضية ترشيد الصحوة الوليدة فكتب سلسلة رسائل وكتب مهمة في هذا الموضوع: ظاهرة الغلو في التكفير، أين الخلل؟، فقه الأولويات، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ومن أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة.
ثم لما تعددت تيارات الصحوة والجماعات العاملة لها بما فتح باب التنافس بينها والتصادم في بعض الأحيان حاول القرضاوي وضع أسس للتعاون بين جماعات الدعوة والعاملين في حقلها، فكتب عن: شمول الإسلام، والمرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، وموقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى ومن التمائم والكهانة والرقى، والسياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، وكيف نتعامل مع التراث والاختلاف والتمذهب... وكانت كتاباته في هذا الموضوع- في مجملها- شرحا وتطويرا للأصول العشرين التي وضعها الإمام حسن البنا كأصول للمشروع الإسلامي الحركي الأول (الإخوان المسلمين)، ولكن بصياغة جديدة وأكثر مناسبة للتعددية التي صارت إليها الصحوة الإسلامية.
ثم لما صارت الحركة الإسلامية في تحدي سؤال الدولة؛ سواء نظريا أو واقعيا كما جرى في بعض البلدان التي تولت فيها الحركة السلطة اتجه القرضاوي إلى بيان شكل الدولة "الإسلامية" التي يتصورها، وسعى للإجابة على إشكالات هذه المرحلة فكتب: ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده، وشريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، الأقليات الدينية والحل الإسلامي، جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة.
ولما انفتحت الحركة على سؤال العولمة والانفتاح على الآخر كان له سبق الاشتباك مع أسئلة اللحظة، فكتب: المسلمون والعولمة، خطابنا الديني في عصر العولمة، الإسلام والمسلمون وعلوم المستقبل على أعتاب القرن القادم، المسلمون والتخلف العلمي، ورعاية البيئة في شريعة الإسلام، وحقوق المسنين من منظور إسلامي، الغرب والإسلام ، وربما افتقدت بعض كتاباته في هذه في قضايا مثل العولمة وحوار الأديان والحضارات الإحاطة اللازمة بموضوعاتها نظرا لطبيعتها الفكرية المعقدة والسن الذي بلغه الشيخ (كتب في ذلك بعد السبعين) إلا أنه كان رائدا في توجيه الحركة والاتجاهات الإسلامية إلى أهمية الاشتباك مع مثل هذه القضايا.
كما نوّع الشيخ القرضاوي في بناء مشروعه بين الجهد الفردي وبناء المؤسسات؛ حتى بدا أقرب إلى مؤسسة متكاملة. فقد نجح القرضاوي في بناء شبكة عالمية تتصل بكل أنشطته واهتماماته وتغطيها حتى يكاد لا يستثني مؤسسة من مؤسسات العمل الإسلامي بتخصصاته المختلفة في أنحاء العالم تقريبا منها إلا كان له بها صلة وثيقة.
تجاوز التنظيم دون الصدام معه
امتلك القرضاوي المفاتيح السابقة ولكنه لم ينفرد بها بل ربما شاركه فيها آخرون بقدر يزيد وينقص، أما المفتاح الذي انفرد به فهو القدرة على صياغة علاقة فريدة مع التنظيم تتجاوزه دون أن تصطدم به. وقد نجح القرضاوي في ذلك بسبب توفره على جملة صفات خاصة وبسبب استراتيجيته التي اتبعها في علاقته مع تنظيم الإخوان.
لقد حسم القرضاوي أمره مبكرا وطوال علاقته بالحركة بالانتماء للخط العام في الحركة والولاء لقيادتها الشرعية المجمع عليها دون الارتباط في مشروعات جانبية يمكن النظر إليها باعتبارها تمثل "جيوبا" تنظيمية أو تيارات مخالفة للجماعة، التزم القرضاوي بهذا الانتماء مهما كان تقديره لكفاءة هذه القيادة مادامت شرعية ومجمعا عليها، ولم يتورط في مشروعات جانبية مهما كان اتفاقه مع أفكارها وتقديره لها.
لقد التزم القرضاوي هذا حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954 واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، فرغم أن القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ والأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته (يمثله الشيوخ محمد الغزالي وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..) فلم يصل الأمر بالقرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم القرضاوي ما انتهت إليه القيادة الممسكة بدفة التنظيم، وعاش معها فترة السجن والتزم بأوامرها وتكليفاتها دون أن يعلن خلافه معها أو رفضه لقيادتها رغم وقع السجن وهول التعذيب وسعي جمال عبد الناصر ونظامه لضرب وحدة الإخوان التنظيمية.
تكرر الأمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني، فرغم أن القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة – جيل الوسط؛ ورغم أن أصحاب المشروع الحزب أكدوا في ورقته المذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي ( جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري) إلا أن القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع خاصة بعدما انتقل من محاولة تجديدية إلى خصومة تنظيمية مع جماعة الإخوان والقيادة الشرعية لتنظيمها الشرعي.
مثلما حسم القرضاوي انتماءه وولاءه للخط العام الحركي للإخوان فقد وضح حسم انتمائه أيضا للتيار العام الفكري الوسطي للحركة والذي أسسه مؤسس الجماعة، وهو التيار الذي يعرف بالتيار البناوي (نسبة للشيخ حسن البنا). ولم يعرف عن القرضاوي ارتباطه بأي اتجاهات فكرية أخرى فرعية تخرج به عن هذا التيار، بل لقد خاض مبكرا مواجهات "فكرية" ضد هذه التيارات خاصة المتشدد منها وكان من أبرز من تصدّوا لها خاصة المتشدد منها.
برز ذلك في خروج آخر ولكنه أكبر وأشد تأثيرا على التيار البناوي في الجماعة، وهو التيار القطبي (نسبة إلى الشهيد سيد قطب). لقد تأثرت جماعة الإخوان بدءا من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
ربما وباستثناء رسالة (دعاة لا قضاة) التي تنسب للمرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي لم تقدم الجماعة نقدا جديا مؤسسيا لأفكار سيد قطب، بل كان الغالب أنها استحضرت أفكاره وكتاباته في بنيتها الفكرية والتربوية في مراحل مختلفة، خاصة بعد إعدامه وتحوله رمزا للحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم وأكاد أجزم بأن الشيخ القرضاوي كان من أوائل من تجرؤا على نقد سيد قطب وسعوا إلى استعادة الإخوان للمنهج البناوي.
في الثمانينيات من القرن الفائت وأثناء علو الخطاب القطبي وسطوته كتب القرضاوي مقالة في جريدة الشعب المصرية القريبة من الحركة الإسلامية في كانت الأولى في نقد بعض أفكار سيد قطب. ثم خصص فيما بعد مساحات كبيرة في الجزء الثالث من مذكراته لاستكمال هذا النقد بما أثار عليه ثائرة عدد كبير من الكتاب والقيادات الحركية الإسلامية حتى من داخل جماعة الإخوان نفسها.. فكانت واحدة من المعارك الفكرية الإسلامية المهمة في الأعوام الأخيرة.
ومثلما جسد القرضاوي للحركة خط الدفاع عن تيارها العام في مواجهة أفكار وافدة تمددت في فراغ غياب المؤسس مثلما حدث مع سيد قطب، فقد جسد القدرة على تمثيل الخط العام للحركة فكريا وفقهيا لكن من دون الجمود عليه بل مع إعطائه طاقة تجديدية، فرغم أنه صار يمثل امتدادا فقهيا وفكريا وتربويا للإمام المؤسس للبنا إلا أنه لم يكن امتداد المقلد المتبع بل المجدد القادر على مخالفة إمامه ولكن خلاف التلميذ مع شيخه وليس خروجا عليه تماما كما فعل في رفضه لما ذهب إليه البنا من منع المرأة من حقوقها السياسية، أو رفضه لموقف البنا الرافض للأحزاب والحزبية، أو خلافه مع ما ذهب إليه البنا من إمكان تلبس الجن بجسد الإنسان. والقرضاوي يسوق اجتهاداته في هذا الصدد في سياق المجتهد الذي يكمل على خطى شيخه ولكنه يخالفه في بعض اجتهاداته دون أن يمنعه ذلك من الإقرار له بالفضل والتقدمة.
إدراكه لموقعه في الحركة
أما أكثر ما تميز القرضاوي به في سياق صياغته لعلاقته مع الإخوان فهو قدرته المذهلة على تحديد موقعه المناسب له في الحركة وتطوير هذا الموقع وفق تطوره الشخصي وبحيث يتناسب مشروعه الخاص مع مشروع الحركة العام.
ثم للرجل قدرة تثير الإعجاب على أن يحدد وبدقة متى يبدأ التنظيم والعمل التنظيمي ومتى ينتهي في حياته وأين يلتقي معه وأين يبتعد عنه، وهو قادر على استشعار التغيرات التي تطرأ أو التي يجب أن تتم على علاقته بالتنظيم حضورا وغيابا قربا وبعدا.
لذا لم يتردد الرجل الذي بدأ حياته في جماعة الإخوان واعتقل بسببها مرتين أن يرفض منصب المرشد العام مرتين إحداها وهو في مقتبل حياته الدعوية وقبل أن يسطع نجمه. لقد رفض القرضاوي- حتى قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس- منصب المرشد حين عرض عليه عام 1976 الذي كان قد خلا بعد وفاة المرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي، وبقيت الجماعة مدة عامين من دون مرشد..
ثم عاد وجدد الرفض مرة ثانية عام بعد وفاة المرشد الخامس مصطفى مشهور حين عرض عليه المأمون الهضيبي التنازل عن المنصب له إذا ما قبل قيادة الجماعة، ولم يكن القرضاوي يقارب الأمر من منطق براجماتي بقدر ما كان يقدر بدقة موقعه المفترض من الجماعة ويستشعر التغيرات التي تطرأ عليه وتلزمه.
وقد استطاع القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة لكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي، لذا فقد ظل الجميع يعرفون القرضاوي كواحد من جماعة الإخوان دون أن يسألوا عن موقعه التنظيمي أو وضعيته قبولا ورفضا من قيادة التنظيم.. ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة.. لذلك تحول القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
كما امتلك القرضاوي كذلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته ولكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع انجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام، لذلك لم يعرف عنه خروج تنظيمي رغم أنه حدث، ولم يتطرق جمهور الإخوان إلى السؤال عن علاقته بالتنظيم رغم أنه خارج التنظيم فعلا، بل وربما اكتشف الإخوان- فيما بعد- أنه من الأفضل عدم إثارة هذا السؤال الذي يسيء لمن يطرحه ولن يترتب عليه أي فعل أو موقف من الرجل إيجابا ولا سلبا.
ـــــــــــــ
* نقلاً عن صحيفة الغد الأردنية
** باحث مصري متخصص في الحركات الإسلامية