السؤال: قبل خمس سنين، وحينما كنت في فترة طيش وغرور بالنفس، ولحبي أن أتكلم عن مغامرات كنت أفخر أن يصفني الناس بها، ظلمت إنسانة عفيفة شريفة وبريئة، بقول فسوق، وطعنتها في شرفها وعرضها؛ حيث حدثت أحد أصدقائي بأنني استطعت أن أصل إلى هذه الفتاة، وأن أنال منها بفاحشة الزنا، وقولي ذلك كان كذبا وظلما وبهتانا؛ إذ أنني لم أصل إليها، ولم أتكلم معها ولم أزن بها.

صديق توفي ولم يبح بهذا الكلام، والآن بعد أن توفي صديقي أصبح محالا لي أن أكذب نفسي وقولي ذاك عنده، والفتاة لا أستطيع أن أتكلم معها لأبين لها حقيقة كذبي، وأطلب منها السماح، علما بأن هذا السر ظل سرا بيني وبين صديقي ولم يصل إلى شخص ثالث إلى هذا اليوم.

الحقيقة أن هذا الأمر يعذبني لعظمه عند الله، وما ينتظرني من سوء عذاب أليم يوم القيامة، فماذا أفعل لأمحو إثم ذلك البهتان الذي رميت به محصنة عفيفة شريفة؟ لأن وكما ذكرت مسألة الوصول إلى مكالمتها مستحيلة، ومسألة مصارحتها بذلك أعظم استحالة، فهل يجزيني أن أكفر بكفارة أو أتصدق بصدقة تمحو عني إثم ذلك؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

من أعظم المحرمات في الإسلام، ومن أكبر الكبائر عند الله: رمي المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنى وارتكاب الفاحشة، ظلما وزورا، كما في ذلك من تلويث سمعة الإنسان البرئ، وما فيه من تجرئ الناس على المعصية وإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، ولا سيما إذا كان رامي المحصنة يعلم أنه كاذب مزور فيما يقول، وليس مبنيا على سوء ظن، أو نحو ذلك.

والرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر رمي المحصنات الغافلات المؤمنات: من "الموبقات السبع" التي حذر الأمة منها، و"الموبقات" أي المهلكات، فهي مهلكات للفرد، ومهلكات للجماعة، مهلكات في الدنيا، ومهلكات في الآخرة.

يقول الصلاة والسلام: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف" (1)، وفي القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور:23-25).

وقد جاءت هذه الآيات المتضمنة لهذا الوعيد الهائل بالعنة في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم عند الله، وشهادة جوارحهم عليهم، في سياق "حديث الإفك" الذي افتراه المفترون على الصديقة بنت الصديق، عائشة أم المؤمنين، وأحب إنسانة إليه بعد خديجة، وقد برأها الله جل شأنه من فوق سبع سموات، ونزل فيها قرآن يتلى إلى ما شاء الله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النور:12-13) إلى آخر الآيات من سور النور.

وقد فرض الله عقوبة، -بل عقوبات ثلاث- للقاذف: عقوبة بدنية، وهي: الجلد، وعقوبة أدبية، هي: إسقاط الشهادة، وعقوبة دينية وهي: رميه بالفسق.. إلا أن يتوب ويصلح ما أفسده. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:4-5). .

وهذا الاستثناء في الآية الكريمة: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} هو الذي يفتح الباب لأخينا "النادم ابن الندم" الذي افترى على هذه المرأة الشريفة العفيفة بالباطل والزور، مظاهرا بالبطولة الزائفة في المغامرات المحرمة، ولو صحت لم تكن بطولة، وإنما هي ضعف وانحلال، واتباع لخطوات الشيطان، وخضوع لسلطان الغريزة الحيوانية، فكيف وهي مكذوبة مختلقة من أساسها؟

إن مما يخفف عن هذا السائل: أنه لم يشع هذه المقولة الخبيثة بين كثيرين، وأن صديقه حفظ سره فلم يبح به لثالث، وأن هذا السر مات ودفن مع صديقه؛ فليحمد الله على ذلك، وإلا، لو شاع هذا القول المفترى، وانتشر بين الناس، لكانت المصيبة كبيرة، والبلوى عظيمة.

ولا يطلب من الأخ النادم أن يكذب نفسه عند تلك المرأة التي ظلمها وافترى عليها، مع أنه لم يكلمها مجرد كلام، حتى لو أتيح له ذلك، لأنه سينغص عليها عيشها، ويكدر صفوها، بدون ضرورة ولا مسوغ، وقد يترتب على ذلك من العواقب ما لا يعلمه إلا الله.

ولا توجد هنا "كفارة معينة" لتلك المعصية، إنما توجد "مكفرات عامة" لمن وقع في المعاصي والكبائر، ويريد أن يتطهر منها.

من هذه المكفرات:

1.التوبة النصوح، فإنها تغسل الإنسان من الذنوب، كما يغسل الماء الوسخ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222).

2. الاستغفار، بصيغه المختلفة التي وردت في القرآن والسنة، وقد قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء:110).

3. الأعمال الصالحة: من الوضوء، الصلاة، الصيام، والصدقة، والحج، والعمرة، وبر الوالدين، والذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وفعل الخير، والجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114)، وقال صلى الله عليه وسلم: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" (2).

ومما ينفع الأخ هنا: ما ذكره من التصدق بصدقة، فإنها تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وخصوصا صدقة السر، كما يمكنه أن يعتمر عمرة لله تعالى، قاصدا بها أن يكفر الله عنه هذه الخطيئة، ويصلي في المسجد الحرام ما يسر الله له، من أجل ذلك.

كما عليه أمر آخر مهم، وهو: أن يستغفر لهذه المرأة المفترى عليها، كلما تذكر ذلك الذنب العظيم.

وقد قال تعالى لرسوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).

.................

(1) متفق عليه: اللؤلؤ والمرجان (56) عن أبي هريرة.

(2) الترمذي: (1987) عن أبي ذر، وقال: حسن صحيح.