د. يوسف القرضاوي

قبل أن نبين رأينا في الموضوع أود أن أضع أمام القارئ الكريم آراء العلماء والأئمة، حتى يكون على بصيرة من أمره.

نظرة فيما ذكره الحافظ ابن عبد البر:

ذكر الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتابه (الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار) حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فأتاه أناس من نجد، فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة، من أدركها قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه".

[1]

المجمع عليه في الوقوف بعرفة:

قال أبو عمر: لم تختلف الآثار، ولا اختلف العلماء في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعا بعرفة، ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيا الله تعالى، ووقف معه كل من حضره إلى غروب الشمس، وأنه لما استيقن غروبها وبان له ذلك دفع منها إلى المزدلفة.

وأجمعوا على  أنه كذلك سنة الوقوف بعرفة والعمل بها.

وأجمعوا على أنه من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال؛ أنه لا يعتد بوقوفه قبل الزوال، وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك أقل وقوف قبل الفجر فقد فاته الحج.

المختلف فيه في الوقوف بعرفة:

ثم اختلفوا فيما على من وقف في عرفة بعد الزوال مع الإمام، ثم دفع منها قبل غروب الشمس:

انفراد مالك:

فقال مالك: إن دفع منها قبل أن تغيب الشمس فعليه الحج قابلا، وإن دفع منها بعد غروب الشمس قبل الإمام فلا شيء عليه. وعند مالك: أن من دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم عاد إليها قبل الفجر أنه لا دم عليه.

رأي جمهور الفقهاء:

وقال سائر العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام، وإن دفع قبل غروب الشمس، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه إن رجع فوقف ليلا.

فقال الشافعي: إن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فلا شيء عليه، ,إن لم يرجع حتى يطلع الفجر أجزأت حجته وأهرق دما.

[2]

وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري: إذا أفاض من عرفة قبل غروب الشمس أجزأه حجه، وكان عليه لتركه الوقوف إلى غروب الشمس دم، وإن دفع بعد غروب الشمس لم يسقط عنه الدم.

كذلك قال أبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود مثل قول الشافعي.

وبه قال الطبري.

وهو قول عطاء وعامة العلماء في الدم وتمام الحج.

إلا أن الحسن البصري، وابن جريج قالا: لا يجزئه إلا بدنة.

حجة الجمهور:

قال أبو عمر: الحجة لهم في ذلك حديث عروة بن مضرس الطائي، وهو حديث ثابت صحيح رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة ومطرف.

وقد روى أبو عمر الحديث بروايات عدة منها عن طريق النسائي عن عروة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع

[3]

فقلت: هل لي من حج؟ فقال: "من صلى معنا هذه الصلاة، ومن وقف معنا هذا الموقف حتى نفيض، وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا، فقد تم حجه وقضى تفثه ".

[4]

ومن طريق آخر عن عروة: أنه حج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يدرك الناس إلا ليلا، وهو بجمع؛ فانطلق إلى عرفات ليلا، فأفاض منها، ثم رجع إلى جمع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أَعْمَلتُ نفسي (أي أجهدتُها)، وأنصبت راحلتي (أتعبتُها) فهل لي من حج؟ فقال: "من صلى معنا الغداة بجمع، ووقف معنا حتى نفيض، وقد أفاض من عرفات قبل ذلك، ليلا أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تفثه".

[5]

قال أبو عمر: هذا الحديث يقضي بأن من لم يأت عرفات، ولم يفض منها ليلا أو نهارًا فلا حج له، ومن أفاض منها ليلا أو نهارا، فقد تم حجه. وأجمعوا على أن المراد بقوله في هذا الحديث نهارا: لم يُرِد به قبل الزوال، فكان ذلك بيانا شافيا.

[6]

ما رجحه الإمام النووي الشافعي:

وقال الإمام النووي في (المجموع) في بيان مذهبه الشافعي ومذاهب العلماء:

إذا وقف في النهار ودفع قبل غروب الشمس، ولم يعد في نهاره إلى عرفات، هل يلزمه الدم؟ فيه قولان سبقا (الأصح) أنه لا يلزمه، وقال أبو حنيفة وأحمد: يلزمه، فإن قلنا: يلزمه، فعاد في الليل، سقط عندنا وعند مالك.وقال أبو حنيفة وأبو ثور: لا يسقط. وإذا دفع بالنهار ولم يعد، أجزأه وقوفه وحجه صحيح، سواء أوجبنا الدم أم لا، وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد، قال ابن المنذر: وبه قال جميع العلماء إلا مالكا. وقال مالك: المعتمد في الوقوف بعرفة هو الليل، فإن لم يدرك شيئا من الليل، فقد فاته الحج، وهو رواية عن أحمد.واحتج مالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم " وقف حتى غربت الشمس، وقال: لتأخذوا عني مناسككم ".

واحتج أصحابنا بحديث عروة من مضرّس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد صلاتنا هذه ـ يعني الصبح ـ وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ".

وهو حديث صحيح (والجواب) عن حديثهم أنه محمول على الاستحباب، أو أن الجمع بين الليل والنهار يجب لكن يحبر بدم، ولا بد من الجمع بين الحديثين، وهذا الذي ذكرناه طريق الجمع، والله أعلم

[7]

. انتهى.

ما نقله المرداوي عن الإمام أحمد:

وقال العلامة الحنبلي المرداوي في كتابه (الإنصاف في الراجح من الخلاف) معلقا على قول صاحب (المقنع): ومن وقف بها (أي بعرفات) ودفع قبل غروب الشمس، فعليه دم. قال المرداوي: هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في (الوجيز) وغيره. وقدمه في (الفروع) وغيره.

وعنه (أي عن  الإمام أحمد): لا دم عليه، كواقف ليلا.

فهذه رواية معتبرة عن الإمام أحمد، وأعتقد أن تعدد الروايات عن هذا الإمام الجليل، أنها كثيرا ما كانت في أوقات مختلفة، وأحوال مختلفة، وربما في أماكن مختلفة، فكان رضي الله عنه يفتي في كل حالة بما يناسبها، ولا يجمد على رأي رآه من قبل.

وقد قال المرداوي هنا: نقل أبو طالب ـ فيمن نسي نفقته بمنى، وهو بعرفة ـ : يخير الإمام، فإذا أذن له ذهب، ولا يرجع.

قال القاضي: فرخص له للعذر.

[8]

انتهى.

وإذا نظرنا إلى أوضاع الحجاج في عصرنا، وجدناها تشكِّل عذرا عاما، يقتضي من أهل الفتوى أن يراعوه، ويرخصوا لهم، وييسروا عليهم، عملا بالتوجيه النبوي: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا " متفق عليه.

تحقيق العلامة الشنقيطي:

وقد تعرض لهذه المسألة من  المعاصرين العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره المعروف (أضواء البيان) وكان مما قاله وأجاد فيه:

"والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا. وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا، وأن من اقتصر على  الليل تدون النهار فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم، وأن من اقتصر على النهار دون الليل، لم يصح وقوفه عند المالكية. وعند جمهور العلماء حجه صحيح، منهم: الشافعي وأبو حنيفة وعطاء والثوري وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد. ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم، فقال أحمد وأبو حنيفة: يلزمه دم، وعن الشافعية قولان: أحدهما: لا دم عليه، وصححه النووي وغيره، والثاني: عليه دم، قيل: وجوبا، وقيل: استنانا، وقيل: ندبا، والأصح أنه سُنَّة على القول به كما جزم به النووي، وأن ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء، خلافا للإمام أحمد رحمه الله، وقد رأيت أدلة الجميع.

قال الشنقيطي رحمه الله: أما مناقتصر في وقوفه على الليل دون النهار، أو النهار من بعد الزوال دون الليل، فأظهر الأقوال فيه دليلا: عدم لزوم الدم، أما  المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يَعمُر الدِّيلي رضي الله عنه الذي قدمناه قريبا وبينا أنه صحيح، وفيه عند أحمد والنسائي: " فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ".

وأما المقتصر على  النهار دون الليل، فلحديث عروة بن مضرس الطائي وقد قدمناه قريبا وبينا أنه صحيح، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "وقد وقف قبل ذلك بعرفة، ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " فقد تم حجه " مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك، والتعبير بلفظ التمام ظاهر في عدم لزوم الجبر بالدم ، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار هو الصحيح من مذهب الشافعي، لدلالة هذا الحديث على ذلك كما ترى. والعلم عند الله تعالى.ا. هـ .

ترجيح العلامة ابن منيع:

وعلق على ذلك صديقنا العلامة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع في بحث مطول عن المسألة، فقال:

ويتضح مما تقدم من النصوص عن أهل العلم ـ فيمن اقتصر وقوفه في  عرفة على النهار دون شيء من الليل ـ أن من القائلين بعدم ترتيب دم عليه من يلي:

1ـ الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه.

[9]

2ـ النووي حيث قال في المجموع: (الأصح أنه لا يلزمه دم).

[10]

3ـ الساعاتي (الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا صاحب (الفتح الرباني)  حيث ذكر أن الجمع في الوقوف بين الليل والنهار في عرفة سنة عند الأئمة الثلاثة.

[11]

4ـ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي حيث قال: (أما من اقتصر وقوفه على الليل دون النهار، أو النهار دون الليل، فأظهر الأقوال فيه دليلا عدم لزوم الدم).

[12]

ونظرا إلى ما يعانيه حجاج بيت الله الحرام من المشقة والضرر البالغ نتيجة منعهم من الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة قبل غروب الشمس؛ ليتحقق أن الحاج وقف بعرفة في النهار وفي جزء من الليل؛ حيث إن كثيرا من الحجاج لا يتيسر لهم الوصول إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل، وقد لا يصل بعضهم إلا بعد طلوع الفجر، حيث يفوت عليه نسك المبيت بمزدلفة، فضلا عما يلاقيه هو ومن في رفقته من النساء والولدان من المشقة والضرر في الانتظار قبل الإفاضة من عرفة، وبعد ذلك في التوقف المتكرر والتعرض لحوادث المرور إلى غير ذلك من أنواع الضرر والمشقات.

وحيث إن المشقة تجلب التيسير، وأن مع العسر يسرا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

ونظرا إلى أن القول بوجوب الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس محل اجتهاد ونظر بين أهل العلم، وليس للقول بوجوبه مستند صريح من قول أو فعل أو تقرير ممن له حق الأمر والنهي والإيجاب والاستحباب، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر على ما ذكر:

فإن من التيسير على حجاج بيت الله الحرام وعلى حكومتنا الرشيدة تمثلها أجهزة الأمن والمرور والرعاية الصحية والغذائية والإعلامية غيرها، لا شك أن من التيسير: الأخذ بقول من قال بجواز إفاضة الحاج من غرفة قبل غروب الشمس؛ إذ هو قول قوي قال بصحته، ودفع الإيراد عليه، وأن الأخذ به لا يرتب على الحاج دما (من ذكره من العلماء المعتبرين).

[13]

خلاصة رأينا في المسألة:

وأحسب أن رأينا في هذه المسألة، قد اتضح للقارئ، بعدما سقناه من أقوال وتحقيقات وترجيحات. وهو يتمثل فيما يلي:

1ـ ركنية الوقوف بعرفة بعد الزوال، وهذا متفق عليه بين المسلمين.

2ـ وسنية وصل النهار بجزء من الليل، بأن يبقى الحاج إلى تيقن غروب الشمس، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخروجا من الخلاف، وأن هذا هو الأفضل لمن تواتيه ظروفه، ولا يشعر بحرج في البقاء إلى الغروب.

3ـ جواز الخروج من عرفة قبل الغروب لمن احتاج ذلك من الحجاج، وأُفَضِّل أن يبدأ ذلك بعد العصر، للدفع إلى مزدلفة، ومزدلفة ليس فيها خيام، فينبغي أن يصل الناس إليها في وقت ملائم، حتى لا يصاب الناس بضربات الشمس.

4ـ من خرج قبل الغروب، فليس عليه دم، وحجه تام، كما دل على ذلك حديث عروة بن مضرس الطائي، الذي اتفقوا على قبوله وصحته.

ولا سيما أن إيجاب الدماء في مخالفات الحج مبني على ما جاء عن ابن عباس: (من ترك نسكا فعليه دم) ولم يَرِد بذلك نص ملزم من كتاب أو سنة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ــــــــ

[1]

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم.

[2]

الأم (2/166).

[3]

وهو بجمع ـ بإسكان الميم ـ : هي المزدلفة.

[4]

وقضى تفثه: قال في النهاية: وهو ما يفعله المحرم بالحج إذا حصل، كقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقا.

[5]

رواه أحمد والطيالسي وأصحاب السنن والطحاوي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم وصححه الأئمة.

[6]

انظر الاستذكار لابن عبد البر (13/28-35).

[7]

المجموع (8/118).

[8]

انظر: الإنصاف (4/30) طبعة السنة المحمدية بتحقيق محمد حامد الفقي.

[9]

الإنصاف (4/30).

[10]

المجموع (8/118).

[11]

الفتح الرباني (12/125).

[12]

أضواء البيان (5/259).

[13]

انظر: كتاب (مجموعة فتاوى وبحوث) للشيخ عبد الله المنيع (3/110-128).