أحمد بلح- موقع القرضاوي / 2 أكتوبر 2005

 تناقلت وكالات الأنباء خبرا مفاده: أن كسوفا جزئيا للشمس سيحدث يوم الاثنين القادم 29 شعبان 1426هـ الموافق 3/10/2005م، حيث من المتوقع أن يستمر من الثانية عشرة ظهرا حتى الثالثة عصرا، وسيكون من الممكن رؤية ولادة الهلال في منطقة الخليج بواسطة نظارات خاصة، وفي ليبيا والسودان سيكون هناك كسوف كلي حلقي يمكن معه رؤية الهلال بصورة أوضح؟

وفى هذا الإطار، يسأل الأستاذ عبد الله مهران فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي قائلاً: هل تعتبر هذه الرؤية التي تتم في وضح النهار رؤية شرعية يثبت بها دخول شهر رمضان المبارك، ويصوم الناس على أساسها، أم أن تحري الهلال لا بد أن يكون بعد المغرب ؟

وقد أجاب فضيلة الشيخ على الأخ السائل بقوله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن أتبع هداه.

(أما بعد)

فقد فرض على المسلمين صيام شهر رمضان من كل عام، وعدّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أركان الإسلام، وإنما يجب الصيام على المسلم ويلزمه، إذا علم بدخول الشهر علم يقين، أو على الأقل بظن راجح، كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 185). والمراد بشهود الشهر هنا: العلم به.

وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته – أي الهلال- وأفطروا لرؤيته"[1].

ورويا أيضا: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له"[2].

فربط دخول الشهر برؤية الهلال، لأنها كانت العلامة المقدورة والميسرة لجميع الناس، ولم يربطه بحساب الفلك، أو تقدير منازل القمر، مما لا يعلمه إلا القليل – بل النادر- من الناس في ذلك الوقت، وقد كانوا من غير المسلمين.

إلا أن العبارة النبوية " فإن غم عليكم فاقدروا له" فتحت بابا لأهل الاجتهاد والاستنباط، فقد أخذ بعض علماء السلف ومنهم الإمام أبو العباس بن سريج أن عبارة " فاقدروا له": خطاب لأهل العلم بالحساب الفلكي، وهو ما قال به بعض التابعين مثل: مطرف بن عبد الله، وقال به قتادة. ولذا قال من قال في المذاهب الثلاثة: الشافعية والمالكية والحنفية، باعتبار الحساب الذي نبغ فيه المسلمون أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، وتقدم في عصرنا تقدما هائلا، على أساسه وصل الإنسان إلى القمر، وحاول غزو الكواكب الأخرى كالمريخ.

ورأينا: أن نعتمد الحساب في عصرنا ـ على الأقل ـ في النفي لا في الإثبات. على معنى أن لا نناقض الحساب إذا نفى إمكان الرؤية. فإن هذا النفي قائم على قواعد علمية رياضية قطعية، ولم يجئ الشرع أبدا بمناقضة القطعيات، وقد فصلنا هذا في مقام آخر. فليرجع إليه.[3]

وإذا كانت الرؤية هي المعتمدة بالإجماع فإن المعتاد في الهلال أن تكون رؤيته بعد غروب الشمس، لأن سطوع الشمس بالنهار، يحول دون التمكن من رؤية الهلال.

وإذا رُئي الهلال بعد الغروب، فهو بداهة لليوم القادم.

ولكن ما الحكم إذا رئي الهلال في النهار، كما في الواقعة المسؤول عنها، حين يرى الهلال نهارا، بسبب كسوف الشمس ووجود الظلمة التي يؤكدها الكسوف الجزئي أو الكلي؟

لقد ذكر الفقهاء هذه القضية، واختلفوا فيها على عدة أقوال:

1- قول من لا يعتد بالرؤية إلا إذا كانت بعد الغروب، وهو مروي عن أبي حنيفة ومحمد، وما رئي بالنهار لا عبرة له.[4] وكذلك نقل عن الشافعية: أنهم قالوا: لا تكفي رؤيته نهارا عن رؤيته ليلة الثلاثين.

2- وقول من يعتمد بالرؤية النهارية، ولكنه يفرق بين ما رئي قبل الزوال، وما رئي بعده، فما كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وما رئي بعد الزوال، فهو لليلة المقبلة، لأن ما بعد الزوال ملحق بما بعد الغروب، فهو أقرب إليه.

وقد جاء ذلك عن علي وعائشة، وهو رواية عن عمر أيضا. [5]

3- وقول من يرى: أن الرؤية في النهار معتبرة شرعا، وأن ما رؤي في النهار فهو لليلة القادمة، سواء كان قبل الزوال أم بعده. وهو رواية أخرى عن عمر، كما نقل عن ابنه عبد الله، وعن ابن مسعود وعن أنس: أن رؤية الهلال بالنهار لليلة القادمة، وهو المعتمد عند الجمهور: قال في الدر المختار: رؤيته بالنهار لليلة الماضية الآتية مطلقا على المذهب قال في الحاشية: سواء قبل الزوال أو بعده[6].

وعن مالك في المدونة: من رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر، ويتم صيام يومه ذلك فإنما هو هلال الليلة التي تأتي. [7]

وهذا الذي نرجحه؛ لأن ما قبل رؤية الهلال لا يكون من الشهر، إذ بها يعد الشهر، فكيف يعتبر من رمضان فيصام، إن كان هلال رمضان؟ أو يعتبر من شوال فيفطر ويحرم فيه الصوم قبل ثبوت الشهر ؟

وقد لخص الإمام ابن قدامة فقه المسألة في كتابه ( المغني) فأحسن، حين شرح قول العلامة الخرقي في مختصره: ( وإذا رئي الهلال نهارا ، قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المقبلة) قال رحمه الله:

وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد: أن الهلال إذا رئي نهارا، قبل الزوال أو بعده، وكان ذلك في آخر رمضان، لم يفطروا برؤيته. وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس والأوزاعي ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي حنيفة.

وقال الثوري وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.[رواه سعيد]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقد رأوه فيجب الصوم والفطر، ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد.

قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو وائل، قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين[8]، أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية[9].

ولأنه قول ابن مسعود وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم ( أي المخالفين) محمول على ما إذا رئي عشية، بدليل ما لو رئي بعد الزوال.

ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد، بدليل ما لو رآه عشية.

فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا أنه لليلة المقبلة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي.

وعن أحمد رواية أخرى أنه للماضية، فيلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطا للعبادة، والأول أصح، لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره، فهو لها في أوله، كما لو رئي بعد العصر. [10]

وبهذا يتضح لنا: أنه إذا كانت رؤية الهلال بعد منتصف النهار، وبتعبير آخر: بعد زوال الشمس، فقد اتفق جمهور الفقهاء على أنه يعتبر لليلة القادمة، ولا صيام على الناس في ذلك اليوم- أعني بقية النهار- إن كان هلال رمضان. كما لا فطر عليهم في ذلك اليوم وإعلان العيد، إن كان هلال شوال. وذلك بالإجماع المتيقن، كما قال الإمام ابن حزم.

وإنما أجمعوا على ذلك؛ لاتفاق الروايات عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم باعتبار رؤية الهلال بعد الزوال لليلة القادمة[11].

وبما أن الواقعة المسؤول عنها: أن الكسوف سيكون بعد الثانية عشرة والنصف، أي بعد الزوال، فمعنى هذا: أن الهلال الذي يرى حينئذ هو لليلة المقبلة باتفاق. وعليه يكون ابتداء شهر رمضان- إذا ثبتت هذه الرؤية- يوم الثلاثاء الموافق الرابع من أكتوبر 2006م.

يؤكد هذا أن يوم الاثنين الذي يرى فيه الهلال، هو اليوم التاسع والعشرون من شعبان، ولا يتصور أن يكون الهلال لليلة الماضية، ويكون يوم الاثنين من رمضان؛ لأن معناه: أن الشهر يكون ثمانية وعشرين يوما، وهو منافٍ لما هو ثابت شرعا: من أن الشهر إما ثلاثون أو تسعة وعشرون يوما، كما هو ثابت في الأحاديث الصحاح.

وبالله التوفيق.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

.....................

[1] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (656) رواه البخاري في الصوم (1909) ومسلم في الصيام (1081) عن أبي هريرة.

[2] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (653) رواه البخاري في الصوم (1906) ومسلم في الصيام (1080) عن ابن عمر.

[3] فصلنا هذا في كتابنا ( كيف نتعامل مع السنة النبوية) وفي كتابنا (فقه الصيام).

[4] انظر: حاشية ابن عابدين على الدر المختار (6/ 251) بتحقيق د. حسام الدين فرفور.

[5] راجع المحلى لابن حزم (3/540 – 543) والاستذكار لابن عبد البر (4/9- 11).

[6] انظر: المرجعين السابقين.

[7] انظر: المدونة ( 1/ 175).

[8] بلدة من نواحي السواد، في طريق همذان من بغداد.

[9] رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/213) وعبد الرزاق ( 4/ 162، 163) وابن أبي شيبة (3/ 67).

[10] انظر: المغني ( 4/ 431، 432) طبعة هجر.

[11] راجع المحلى لابن حزم (3/540 – 543) والاستذكار لابن عبد البر (4/9- 11).