يوم 25 مارس هذا الذي تقرر فيه الإفراج عن آخر دفعة من المعتقلين؛ هو نفس اليوم الذي اجتمع فيه مجلس الثورة اجتماعًا استمر خمس ساعات بحث خلالها الموقف الداخلي. وبعد انتهاء الاجتماع خرج الصاغ كمال الدين حسين إلى الصحفيين وأذاع عليهم القرار التاريخي وهذا نصه:
قرر مجلس الثورة بجلسته اليوم 25/3/1954 :
أولًا: يُسمح بقيام أحزاب.
ثانيًا: المجلس لا يؤلف حزبًا.
ثالثًا: لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات.
رابعًا: تُنتخب الجمعية التأسيسية انتخابًا حرًا مباشرًا بدون أن يُعيَّن أي فرد وتكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، وتكون الانتخابات حرة.
خامسًا: حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة.
سادسًا: تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.

المصالحة مع الإخوان
وبعد أن نشرت الصحف هذه القرارات، نشرت ما يأتي:
"تم الإفراج أمس عن الأستاذ حسن الهضيبي من السجن الحربي، كما أُفرج عن باقي أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين. وقد تم اتصال أمس بين المسؤولين وبين السيد حسن الهضيبي المرشد العام قبل الإفراج عنه بشأن عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى نشاطها السابق.
وقد تم الاتفاق معهم على ثلاث نقط:
أولًا: أن تعود الجماعة إلى سابق نشاطها وكيانها بدون أي حد من حرياتها، وإعادة أموالها المصادرة وشُعَبها ومركزها العام.
ثانيًا: الإفراج فورًا عن جميع الإخوان مدنيين أو عسكريين مع إعادة مَن فُصل منهم إلى الخدمة العسكرية.
ثالثًا: أن يُصدر مجلس الثورة بيانًا يوضح فيه حقيقة الأسباب التي اعتبرها داعية إلى حل الإخوان، ويكون هذا البيان بمثابة الختام في هذه المسألة المؤسفة.

وقد صرح السيد حسن الهضيبي للمسؤولين بأن الإخوان سيكونون بعد عودتهم عونًا للحكومة على طرد الإنجليز من منطقة قناة السويس، ورد اعتداءاتهم الوحشية، وفي منتصف ليلة أمس توجه البكباشي جمال عبد الناصر إلى منزل الأستاذ الهضيبي حيث اجتمع به في منزله.

وكانت صحيفة "المصري" الناطقة بلسان حزب الوفد، والتي يصدرها آل أبو الفتح؛ هي الجريدة المعارضة الوحيدة المسموح لها حتى الآن، والتي كانت تنطق بلسان الشعب، وتتبنى مطالبه بقوة، وقد اتسع انتشارها في الآونة الأخيرة لتجاوبها مع الجماهير؛ ولهذا سرعان ما أغلقتها الحكومة.

وكذلك كانت مجلة "روز اليوسف" الأسبوعية، التي كان يرأس تحريرها الكاتب المعروف الأستاذ إحسان عبد القدوس، الذي كتب في هذا الوقت مقالات نارية ضد الثورة، ما زلت أذكر عنوان واحد منها، وهو "الجمعية السرية التي تحكم مصر"؛ مما وضعه عندهم في القائمة السوداء، ولقي جزاءه بعد ذلك.

الإضرابات المصنوعة
وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تستأنف نشاطها من يوم 26 مارس.. واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود.. وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر تنفيذ خطته.. وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل بها في الساعة الواحدة ظهرًا ما عدا الترام، وبعد أن استطاع أن يستميل إليه الصاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، الذي دفع له عبد الناصر أربعة آلاف جنيه، وكانت مبلغًا محترمًا في ذلك الوقت؛ ليعلن إضرابًا شاملًا لمطالب خاصة.. ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.

وخرجت جريدتا الأهرام والأخبار تؤيدان هذا الاتجاه، وتطالبان ببقاء مجلس الثورة.. بينما انفردت جريدة المصري بالوقوف ضد هذا الاتجاه.. ومحاولة الكشف عن المؤامرة التي تدبر للقضاء على الحياة النيابية الدستورية الطبيعية للبلاد.

وبدأت المظاهرات تشتد.. وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي، وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.. وتهتف بسقوط المثقفين! وذهبت إلى مجلس الدولة، فاعتدت على رئيسه القانوني الكبير د.عبد الرزاق السنهوري!

 بيان من الإخوان حول الأزمة
وأصدر المرشد العام بيانًا يوم 28 مارس هذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. لا ريب أن مصر الآن تمر بفترة بالغة الدقة والخطورة في تاريخها، بعيدة الأثر في كيانها ومستقبلها. وهي فترة تقتضي من كل مواطن أن يهب البلاد نفسه، ويبذل لها وجوده، ويؤثرها بالخالص من رأيه ومشورته حتى يأذن الله بانجلاء هذه الغمة، ويبدل الوطن منها حياة أمن واستقرار ووحدة.

وقد فوجئ الإخوان المسلمون غداة خروجهم من السجون والمعتقلات بتوالي الأحداث الخطيرة التي تتعرض لها البلاد في حدة وسرعة لم يتيسر معها معرفة أسبابها والعوامل التي تؤثر فيها، ثم تحديد وسائل العلاج التي تلائمها.

من أجل ذلك بادر الإخوان المسلمون إلى العمل على أداء واجبهم في التماس المخرج من هذه الأزمة؛ فبدا لهم أن من العسير أن ترسم الخطط الصالحة، ويوضع العلاج لهذه المشاكل، وتسمع المشورة الصادقة المستقلة في جو الغضب والانفعال، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله ألا يستجيب له وهو غضبان.

لهذا لم يكن بد من الإسراع بلقاء المسؤولين والاتصال بطرفي الخلاف للدعوة إلى اتخاذ مهلة تُتجنب فيها المضاعفات، وتنتهي فيها حالة التوتر القائمة حتى يتيسر لأولي الرأي والإخلاص أن يتقدموا للمسؤولين من الأمة بخطة كاملة مدروسة تكشف عن البلاد هذه الشدة، وتضع الحلول الكفيلة بوقاية البلاد من أن تتعرض لمثلها في أية مناسبة.

وعلى هذا الأساس قام وفد من الإخوان المسلمين برياسة المرشد العام بلقاء البكباشي جمال عبد الناصر في الليلة الماضية ثم بزيارة اللواء محمد نجيب لانشغاله في هذه الليلة بالاجتماع بجلالة الملك سعود ضيف مصر الكبير، الذي آثر مشكورًا بكريم وساطته في علاج هذا الموقف العصيب.

وما زال الإخوان المسلمون يواصلون خطواتهم في إقناع المسؤولين باتخاذ مهلة، مع قيامهم في الوقت نفسه بدراسة خطة العلاج الشاملة، آملين أن يستجيب المسؤولون إلى ندائهم، فتتغلب الحكمة والوطنية على بواعث الخلاف والفرقة، ويلتقي الجميع بإذن الله على كلمة سواء.

وإذا كانت الجهود تتوالى في العمل على جمع الكلمة وحل الأزمة؛ فإننا نناشد شعب مصر الكريم أن يعتصم بالهدوء والسكينة ورباطة الجأش، وأن ينصرف أبناؤه جميعًا إلى أعمالهم في انتظام وطمأنينة، مع التوجه إلى الله العلي الكبير أن يحفظ البلاد من كل سوء، وأن يُعين الساعين، ويجمع المسؤولين على الحل الكامل السليم الذي يخرج بالبلاد من المأزق الحاضر، ويحفظ وحدة الأمة، ويصون حقوق الشعب وحرياته، ويحقق الاستقرار المنشود، في ظل حياة نيابية نظيفة محوطة بالضمانات التي تُجنِّبها مساوئ الماضي، وتوفر الجهود لتخليص الوطن من الغاصب المستعمر، ولمتابعة حركة الإصلاحات الإيجابية التي تستكمل البلاد بها نهضتها والله ولي التوفيق".أ.هـ

وأُذيع هذا البيان الذي طلبه عبد الناصر من المرشد بعد اتفاق الاثنين على أن توقف المظاهرات لحين انتهاء زيارة الملك سعود، وإيجاد حل للأزمة ـ ونُشر البيان يوم 29 مارس نفس يوم مغادرة الملك سعود مصر.

 ما بعد إفراج مارس 1954
بعد هذا الإفراج عدت إلى حياتي العادية: عدت إلى القرية ليراني الأهل والأقارب والأحبة وأراهم، وعدت إلى الخطابة في مسجد آل طه بالمحلة كالمعتاد، بل بصوت أجهر، ونشاط أظهر، ووجدت مكتبتي، ولكن لم أجد فيها المبلغ الذي كان فيها، فقد نبهتهم عليه، فاستحلوا أخذه ولم يعترف أحد منهم بذلك، واستعضته عند الله، وهو مبلغ بسيط -أكثر من خمسين جنيهًا- ولكنه كان في ذلك الوقت يعتبر ثروة بالنسبة لمثلي.

ومما أذكره في تلك الفترة: أننا أردنا أن نبني دارًا للإخوان في قريتنا صفط تراب، وذلك في مكان ليس مملوكًا لأحد، إنما هو ملك عام، كان مقابر قديمة جدًا. وجهزنا الحجارة، وأحضرنا الطين اللازم للبناء، وأعددنا العدة لذلك، ولم نعلن عنها، إلا قبلها بقليل، وكان البناؤون والمساعدون لهم جاهزين، فبدأنا في الليل، ولكن شيخ الخفراء وخفراءه جاءوا واصطدموا بنا، وكانوا قد بلَّغوا مركز المحلة الكبرى؛ فجاءت الشرطة، وكنا تفرقنا، فأخذونا من بيوتنا، وذهبوا بنا إلى حجز مركز الشرطة بالمحلة، وبتنا به ليلة، وقد حققوا معنا ثم أفرجوا عنا، وعدنا إلى القرية يهتف الشباب بحماس: الله أكبر ولله الحمد، إخوان مسلمون ولو كره المجرمون، وكانت هذه الحادثة في بداية التوترات بعد الإفراج في مارس.

 شركة الأخوّة الإسلامية بالمحلة
وكان مما فكر فيه إخوان المحلة أمام المد الإخواني: أن يُنشئوا شركة تجارية عامة، تساهم فيها الجماعة، كما يساهم فيها الإخوان بأموالهم الخاصة، ويكون جزء من أرباحها للدعوة، وقد أنشئت بالفعل باسم "شركة الأخوّة الإسلامية" وساهمت فيها بكل ما أملك مما ادخرته من راتبي.

ولم تكد الشركة تجري سفينتها باسم الله مجراها ومرساها، وجرت بهم بريح طيبة؛ حتى جاءتها ريح عاصف، فأحاط بها الموج من كل مكان، وكانت المحنة مع الثورة، فصودرت الشركة وأُغلقت، واستطاع أحد الأخوان ـ وهو الحاج سليمان مطاوع ـ أن يشتريها من الحكومة بطريقة خاصة، ويحولها إلى شركة خاصة باسم "شركة الشرق" وهي لا تزال تعمل إلى اليوم، المهم أن الذين دفعوا أموالهم فيها أولًا خسروا نقودهم وعوضهم على الله.

وليست هذه أول مرة يخسر الإخوان فيها شركاتهم، فقد جربوا ذلك في عهد الملكية، فقد كان من رأي الإمام البنا أن يُثبت الإخوان شمول دعوتهم عمليًا، كما أثبتوا شمولها نظريًا، فإذا قالوا: الإسلام نظام اقتصادي أسسوا شركات اقتصادية ليؤكدوا مصداقيتهم بأعمالهم.

ومن هنا أنشئوا أيام الشهيد البنا: شركة المعاملات الإسلامية، وشركة المناجم والمحاجر، وشركة الصحافة وغيرها، فلما حُلَّت الجماعة حُلَّت معها هذه الشركات، واعتبرت من ممتلكات الجماعة، فصودرت مع كل ما تملكه من دور ومؤسسات.

والذي أراه أن الشمول النظري لا يستلزم الشمول العملي، وأن مهمة الدعوة أن تربي أبناءها على هذا الشمول، وأن تطلقهم في ميادين الحياة يطبقونه بالفعل، كل فيما يحسنه ويختص به، فهذا ينشئ وحده أو مع آخرين شركة تجارية، وآخر يؤسس مع آخرين مصرفًا إسلاميًا، وثالث يقيم مدارس إسلامية، وآخرون يقيمون مصنعًا، وهكذا، وبهذا لا يكون من السهل أن تُصادر الحكومة كل هذه المؤسسات لأنها ستصطدم بحقوق الأفراد.                                     

الرجوع إلى القاهرة

ثم عدت إلى القاهرة لأصل ما انقطع من دروس ومحاضرات في قسم إجازة التدريس؛ استعدادًا لامتحان السنة الأولى في أوائل الصيف، وعكفت على ما فاتني من محاضرات في المقررات المختلفة، قارئًا لكتبها، ومستعينًا ببعض الزملاء فيما عندهم من مذكرات شارحة عند اللزوم.

ومن فضل الله تعالى علي أن وفقني في الامتحان توفيقًا عظيمًا، كان عوضًا من الله جل جلاله عما فاتنا وما أصابنا في تلك المرحلة {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ} (هود:88)، كما كنت أمارس نشاطي المعتاد في الإخوان، سواء في قسم الطلاب أم في قسم نشر الدعوة أم في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وخصوصًا بعد الإفراج وإعلان عبد الناصر ورجال الثورة الصلح مع الإخوان، وزيارة جمال عبد الناصر للأستاذ المرشد حسن الهضيبي في بيته.

 لقاء مع "سيد قطب"
تحدثت عن الأستاذ سيد قطب في المرحلة السابقة باعتباره الكاتب الإسلامي المرموق، صاحب القلم السيال، والأسلوب الرفيع، والذي دخل الساحة الإسلامية بقوة، بكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وما بعده، واقترب من الإخوان، وإن لم يصبح واحدًا منهم.

واليوم أتحدث عن سيد قطب بعد أن اندمج في الإخوان، وأصبح واحدًا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة "قسم نشر الدعوة" في الجماعة، كما أُسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان.

وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلِّف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أُسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصًا شباب الدعاة المرجوِّين أمثالك.
قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوة في نشر الدعوة بطريقة علمية.
قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يُقدَّم أحد الإخوان الدعاة ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة مثل الإخوان.
لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددًا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرًا، يُلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يُتَّفَق معه عليه، ويُحضِّر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علمًا وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نِعم الرأي هذا.
قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدًا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟
قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله.
قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبًا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله.
قلت: وهو موعد مناسب لي، وأسأل الله التوفيق.

ولكن الأمور تغيرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون.

وكانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردًا به. أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنت مشغولًا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأن بإضاعة الأزهر يضيع خير كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديمًا قالوا:  يا أيها العلماء يا ملح البلد  **  ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟!

ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطولة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجعني تشجيعًا سرني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة، وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافًا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها.

إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبين مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حرفت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية.

ولم يقدر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أُفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أُسلِّم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراة في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان؛ ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال.