أحمدك ربي كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، وأصلي وأسلم على خاتم رسلك ، وصفوة خلقك : محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان.. أما بعد:

فهذه هي الحلقة الثانية أو قل: الجزء الثاني من مذكرات ابن القرية والكُتَّاب، وملامح سيرته، غفر الله له.

 

وقد حفزني حسن استقبال الناس للجزء الأول، وحفاوتهم به: أن أبادر بكتابة الجزء الثاني، الذي أقدمه للقراء اليوم. وهو يتضمن مرحلة، أو مراحل مهمة من حياتي: مرحلة تخصص التدريس، ومرحلة السجن الحربي، ومرحلة مابعد الخروج من السجن الحربي، ومافيها من رحلات بحث لها أثرها في حياتي: رحلة البحث عن الدراسات العليا .. رحلة البحث عن عمل أتكسب منه .. رحلة البحث عن بنت الحلال ، ومرحلة الزواج وتكوين الأسرة ، ومرحلة السفر إلى قطر ، والعودة منها ، والاعتقال في مبنى المخابرات المصرية ، ولقاء صلاح نصر ، والعودة إلى قطر ، ومشكلتي مع المشرفين في كلية أصول الدين على رسالتي .. إلخ .

 

وسيرى القارئ الكريم كيف وفقنا الله سبحانه، لنواجه الحياة بوردها وشوكها، وحلوها ومرها ، وسرائها وضرائها . سعدنا بالورد وحمدنا الله عليه، وصبرنا على الشوك، واحتسبنا ما اصابنا من أذاه عند الله، الذي لا يضيع عنده عمل عامل، ولا يظلم مثقال ذرة. وقد روى صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير , وليس ذلك إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خير له . وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له". (رواه مسلم)

 

وقد لا يعلم كثيرون أن للابتلاء حلاوة لا يتذوقها إلا المؤمنون ، وأن في الصبر لذة لا ينعم بها إلا العارفون " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ " (البقرة : 156)

 

لقد عانينا ما عانينا في آتون السجن الحربي ، وعانينا ما عانينا بعد خروجنا في سبيل العيش الحلال وقد سدوا في وجوهنا كل الأبواب ، ولكن هناك بابا لا يستطيعون أن يغلقوه أبدا ، وهو باب فضل الله تعالى ورحمته ، الذي لا يُسد أبدا في وجه أحد.

 

أخى القارئ، هذه سيرتي عرضتها عليك كما وقعت بدون تكلف، فما رأيتَه من خير وفضل وحسن عمل، فهو من صنع الله لي، الذي غمرني بإحسانه وعطائه .. فالحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأله سبحانه أن يجعل قولي وعملي ونيتي خالصة لوجهه.

 

وما وجدتَ فيها من قصور أو تقصير، أو شرود عن الحق، فهو مني ومن الشيطان، والله ورسوله برىء منه، ولا أقول إلا ما قالت امرأة العزيز: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (يوسف:53)

 

وربما كان بيني وبين الله جل جلاله معاصي وذنوب أخفيتها طمعا في عفو ربي ، وليس من اللائق أن يعرض المرء سوءاته للناس ، ويسعنا أن نقول ما قال أبونا آدم وأمنا حواء : "قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف:23) .

 

هذا ولم أقصد في المذكرات أن أسيء إلى أحد كائنا من كان ، حتى من ظلمني وأساء إلي ، أنا متصدق عليه بما نال مني ، ولا أعادي إلا من عادى الإسلام وحاربه ، وكل الناس بعد ذلك إخواني : إما في الدين ، أو في الوطن ، أو في الإنسانية.

 

ولا أريد أن أستجلب عداوة أحد لي ، بل أريد من الناس - كل الناس - أن يدعوا لي،  وأن يسامحوني إذا قصرت أو أخطأت أو تهاونت في حقهم . فما أحوجني إلى الدعاء والمسامحة وأنا في السابعة والسبعين من عمري [عمر الشيخ الآن يقارب 89 عاما ميلاديا ] داعيا الله تعالى بالدعاء المأثور : اللهم اجعل خير عمري أواخره، وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك.

 

"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ" (آل عمران : 8-9)

 

الدوحة

ربيع الأول 1424هـ

مايو 2004م

 

الفقير إلى مولاه

يوسف القرضاوي