د. يوسف القرضاوي

مِن أصحاب الأعذار الذين يلحقون بالمرض مِن وجه وإن خالفوهم مِن وجه آخر؛ الشيخ الكبير الذي وهن العظم منه وبلغ من الكبر عتيًا، ويجهده الصوم ويلحق به مشقة شديدة، ومثله المرأة العجوز التي أضعفها الكبر، فحكمهما واحد بالإجماع.

ويلحق بهما مَن ابتلي بمرض مزمن إذا لحقته بالصوم مشقة، وهو الذي لا يرجى برؤه من مرضه والشفاء منه وفقا لسنة الله الجارية على السباب والمسببات، وإن كانت القدرة الإلهية لا يعجزها شيء.

فهؤلاء لا صوم عليهم بلا خلاف، وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر، ولا يشترط في إباحة الفطر لهؤلاء أن ينتهي أحدهم إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم، بل الشرط الذي يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها. (انظر: المجموع، 6/257-258).

والدليل على إباحة الفطر لهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:78)، وقال في آية الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185).

ثم إن هؤلاء نوع من المرضى، فالشيخوخة مرض، وقد جاء في الحديث: "ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء إلا الهرم"، والأصل في الاستثناء أن يكون متصلًا.

والمريض الذي لا يرجى برؤه مريض على كل حال، إنما فارق المريض العادي بأنهما لا يستطيعان القضاء؛ لأن الشيخ لا يعود شبابًا حتى يمكنه أن يقضي، وذا المرض المزمن لن يجد فرصة للقضاء مادام مرضه ملازما له على الدوام، وإنما عليهما الفدية طعام مسكين.

روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان عن كل يوم مسكينًا.

وروي عن عبد الرزاق أنه يقرؤها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يكلفونه ويتجشمونه بمشقة، وقد قرأت بها عائشة وغيرها من السلف. (المصنف لعبد الرزاق (4/220-224) بتحقيق المحدث حبيب الرحمن الأعظمي)، وجاءت عنه روايات أخرى تفيد أن الآية منسوخة، ولكن حكمها باق بالنسبة للكبير الفاني.

قال ابن كثير: "فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر، ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي، وهو قول مالك وأيده ابن حزم.

والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء: أنه يجب عليه فدية في كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف، على قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} - لعلها يطوقونه - أي يتجشمونه، كما قال ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري". (انظر تفسير ابن كثير (1/215) ط الحلبي).

وقد يلحق بهذا النوع مِن أصحاب الأعذار مَن كان يمتهن الأعمال الشاقة التي لا قدر معها على الصوم، مثل عمال المناجم أو الأفران أو غيرهم ممن لا يستطيعون الصوم ولا يجدون فرصة للقضاء، فهم يفطرون ويفدون.

فإن كانوا يستطيعون القضاء في فصل الشتاء مثلًا حيث يقصر النهار ويبرد الجو ولا يصعب عليهم الصوم جاز لهم الفطر في الحال، ووجب عليهم القضاء في المستقبل.

ومثلهم من يتعيش من عمل قائم على السفر مثل السائق والطيار والبحار إذا لم يجد أحدهم فرصة لقضاء فيفطر ويفدي.

والفدية طعام مسكين؛ قدره بعض الفقهاء بقدار "مد" وهو ربع صاع.

وبعضهم بصاع من تمر أو طعام إلا القمح فجعل منه نصف صاع.

وبعضهم رأى إطعام المسكين ما يشبعه. وهذا عندي هو الأرجح، وهو الذي أفتى به الصحابة وعملوا به مثل أنس فقد أطعم بعدما كبر عاما أو عامين، كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا وأفطر. وروي أنه صنع جفنة من ثريد فجمع ثلاثين مسكينًا فأطعمهم.

وقد استدل ابن عباس بالآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فالأولى الوقوف عند النص، وإطعام المسكين من أوسط ما يطعم الإنسان وأهله اهتداءً بما ذكره القرآن في كفارة اليمين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.

على أني لا أرى بأسًا ببذل القيمة إذا كان فيها مصلحة الفقراء، والقيمة هنا قيمة الطعام، لو أطعمه من أوسط ما يأكل.

وتختلف من شخص لآخر ومن بلد لآخر ومن وقت لآخر.

.....

- المصدر: "فقه الصيام" لسماحة الشيخ.