السؤال: جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء؛ فصام وأمر بصيامه، فكيف يتفق هذا مع أمره بمخالفة أهل الكتاب في أمور كثيرة؟
جواب سماحة الشيخ:
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
الحديث الذي يشير إليه السائل حديث متفق عليه عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء. فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال: "أنا أحق بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه.
ولا عجب أن يسأل المسلم: كيف وافق النبي اليهود في صيام عاشوراء مع حرصه على مخالفة الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وأمره بذلك في أحاديث شتى "خالفوا اليهود والنصارى.. خالفوا المشركين.. الخ".
ولكن المتتبع للأحاديث المروية في صيام عاشوراء؛ يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم هذا اليوم قبل الهجرة، بل كانت العرب في الجاهلية تصومه وتعظمه، وتكسو فيه الكعبة، وقيل: إنهم تلقوا ذلك من الشرع السالف، وروى عن عكرمة أن قريشًا أذنبت ذنبًَا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يُكفِّر ذلك عنكم.
وإذًا، فالنبي عليه السلام لم يبتدئ صومه في المدينة، ولم يصمه إقتداءً باليهود؛ وإنما قال ما قال: "نحن أحق بموسى منكم" وأمر بما أمر، تقريرًا لتعظيمه وتأكيدًا وتعليمًا لليهود أن دين الله واحد في جميع الأزمان، وأن الأنبياء إخوة وضع كل منهم لبنة في بناء الحق، وأن المسلمين أولى بكل نبي ممن يُدعَوْن أتباعه وقد حرّفوا كتابه وبدَّلوا دينه، فإذا كان يوم عاشوراء يوم هلاك لفرعون وانتصار لموسى فهو كذلك انتصار للحق الذي بعث الله به محمدًا، وإذا صامه موسى شكرًا لله فالمسلمون أحق أن يقتدوا به من اليهود.
هذا إلى أن عاشوراء يوم ميمون تحقق فيه أكثر من انتصار للحق على الباطل، وللإيمان على الكفر، فقد أخرج أحمد عن ابن عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه؛ فصامه نوح شكرًا لله تعالى.
على أن موافقة النبي لليهود في أصل الصيام كانت في أوائل العهد المدني إذ كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه استمالة لهم، وتألفًا لقلوبهم، فلما استقرت الجماعة الإسلامية، وتبيَّنت عداوة أهل الكتاب للإسلام ونبيه وأهله؛ أمر بمخالفتهم في تفاصيل الصوم مع الإبقاء على أصله احتفالًا بالمعنى العظيم الذي ذكرناه، فقال عليه السلام "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يومًا وبعده يومًا" رواه أحمد.
وقد دخل الصحابة أنفسهم -في أواخر العهد المدني- ما داخل السائل من موافقة أهل الكتاب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على تميز أمته عن مخالفيهم في العقيدة، ويتجلى هذا فيما رواه مسلم عن ابن عباس قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والراجح، الذي يُفهم من هذا الجواب ومن الآثار الأخرى أنه عليه السلام لن يقتصر على اليوم العاشر بل يضيف إليه التاسع مخالفة لليهود والنصارى.
قال ابن القيم: فمراتب صومه ثلاث: أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم.