أحب أن أرجع إلى الوراء أكثر من نصف قرن بعد مضي خمسة أعوام عليّ في جماعة الإخوان لأقف مع نفسي وقفة تأمل ومحاسبة، أريد أن أسأل نفسي: هل كان انضمامي إلى دعوة الإخوان المسلمين خيرا لي في ديني ودنياي؟ وهل استفدت من هذه الدعوة أو لا؟
وأود أن أقول بكل صراحة وجلاء: إنني حققت مكاسب دينية كبيرة، واجتنيت فوائد جمة بانضمامي إلى دعوة الإخوان:
1- أنها وسعت أفقي بفهم الإسلام فهما شاملا، كما شرعه الله تعالى، وكما أنزله في كتابه، وكما دعا إليه رسوله، وكما فهمه أصحابه، فهو دين ودنيا، ودعوة ودولة، وعقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، وقد قال تعالى لرسوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:90) .
وقد قرر جميع الفقهاء: أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، فلا يخرج فعل منها عن حكم شرعي تقرره الشريعة.
فأصبحت أفهم الإسلام بهذا الشمول، ولم يعد مقصورا على أداء الشعائر، كما كنت أتصور من قبل، وكما لا يزال الكثيرون يتصورون إلى اليوم.
2- أسقطت عني فريضة (العمل الجماعي لنصرة الإسلام) فمن المؤكد اليوم: أن نصرة الإسلام بالقول والعمل والدعوة والبذل، حتى يستعيد القيادة التي عزل عنها، ويعود حكم شريعته ليشمل كل جوانب الحياة، والوقوف في وجه التيارات المعادية للإسلام ودعوته وشريعته وحضارته وأمته..
كل ذلك لا يمكن أن يتم بالجهود الفردية المبعثرة، بل لا بد من عمل تقوم به جماعة، تجتمع على أهداف واضحة، ومفاهيم بينة، يجمعها الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والترابط الوثيق، لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية، بعد أن هدمت الخلافة الإسلامية، ولم يعد للأمة خليفة ولا إمام، ولا رباط ولا نظام. ومن المعلوم أن يد الله مع الجماعة، وأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وأن الذئب إنما يأكل من الغنم الشاردة، وأن التعاون على البر والتقوى من فرائض الإسلام.
وإذا كان أعداء الإسلام يعملون مجتمعين مترابطين، فلا يجوز أن نقابلهم منفردين متناثرين، والله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال:62،63) فأشار إلى أن النصر إنما يتحقق بالمؤمنين المترابطين المؤتلفين.
3- انتقلت من مجرد (واعظ ديني) في القرية أو القرى المجاورة إلى (داعية إسلامي) فلم يعد همي محصورا في الحفاظ على التدين الفردي في نفس المسلم، وإن كان هذا ضروريا ولا بد منه، ولكن لا بد من (يقظة إسلامية) عامة، تصحو بها العقول، وتحيا بها القلوب.
الواعظ الديني معني بترقيق القلوب، وتذكير الناس بالموت، واستخدام الرقائق والحكايات وأحاديث الترغيب والترهيب، صحت أم لم تصح، والداعية الإسلامي مهمته أن يثقف الفكر، ويوقظ الشعور، ويشد العزائم، ويعلي الهمم، ويحشد الطاقات، ويجمع القوى، ويوثق الروابط، ويجمع الأمة ما استطاع في ساحة الإسلام.
4- وبانضمامي إلى دعوة الإخوان، انتقلت من الهموم الصغيرة إلى الهموم الكبيرة، ومن المطامح التي تتعلق بشخصي إلى الآمال المتعلقة بأمتي؛ لم يعد كل طموحي أن أتخرج، ثم أتوظف، ثم أتزوج، وأكون لنفسي مستقبلا خاصا، بل أصبح طموحي أعمق وأكبر من ذلك، وغدت آمالي أعرض وأوسع من مجرد المكاسب الشخصية، والمستقبل الفردي.
أصبحت أطمح إلى تحرير وادي النيل وديار العرب والإسلام من كل سلطان أجنبي. وأطمح إلى طرد الأفكار والأنظمة والقوانين الوضعية المستوردة، وإحلال الأفكار والأنظمة والأحكام الإسلامية محلها، وأطمح إلى أن تتقدم الأمة المسلمة، وتأخذ مكانها في ركب العلم والتكنولوجيا، وتخرج من سجن التخلف الرهيب.
وأطمح إلى أن تتوحد الأمة بعد أن فرقتها العصبيات الجاهلية، والمذاهب المستوردة، والأنانيات الحاكمة، ناهيك بالفتن الاستعمارية التي كان شعارها: فرق تسد. وأطمح إلى أن تعود الخلافة الإسلامية، لتقود الأمة تحت راية القرآن، وزعامة محمد صلى الله عليه وسلم. لقد استحالت همومي الصغيرة، إلى هموم كبيرة، هموم أمة كبرى من المحيط إلى المحيط.
5- ومما استفدته من مدرسة الدعوة: الخروج من العزلة التي فرضت على أبناء الأزهر، نتيجة التعليم المزدوج، فكان أبناء مصر طائفتين: (دينية) لمن يتخرج في الأزهر، و(مدنية) لمن يتخرج في التعليم العام، وبين الفريقين حواجز ثقافية ونفسية تفصل بينهما، ولا يكاد يلتقي أحدهما الآخر. فكان من فضل دعوة الإخوان أن أزالت الحواجز، وأذابت الفوارق المتوارثة بين الفئتين، وكانت شعبة الإخوان هي (الخلاط) الذي يمزج الجميع، ويجمع بينهم في رحاب الدعوة.
ولهذا عرفت كثيرا من شباب المدارس الثانوية، واستمعت إليهم، كما استمعوا إلي، واستفاد كل منا من صاحبه، ولم تعد أي عقدة بين أهل (العمائم) وأهل (الطرابيش) أو بين المشايخ والأفندية.
لقد تعرفت إلى كثير من هؤلاء (الأفندية) من رجال الدعوة، يصعب حصرهم، أذكر منهم الأستاذ حسني الزمزمي، وكان رجلا حقوقيا، مثقفا داعية، عالما بالعربية، قارئا مجيدا للقرآن، له نظرات نقدية فيما يقرأ ويسمع، وكان له شيخ أخذ عنه، كثيرا ما يقول: حدثني شيخي الشيخ فهميّ. وللأستاذ الزمزمي حديث أطول سيأتي عندما نتحدث عن (المعتقل) في المرحلة القادمة، بإذن الله.
وكان من الشخصيات التي عرفتها في الإخوان: الأستاذ علي جعفر المدرس الأول للغة العربية في المدرسة الثانوية، وكان رجلا متضلعا في اللغة مع خفة الروح، فكان في أحاديثه الدعوية يمزجها بفوائد لغوية، أثناء حديثه، فيقول: ولن نتزحزح عن موقفنا قِيد شعرة، ولا يقال: قَيد شعرة، ولو قطعونا: إرْبا إرْبا، ولا يقال: إرَبا إرَبا. وسنطلق (العِنان) لشباب الأمة ليحملوا راية الجهاد، ولا يقال: (العَنان) إنما يقال: بلغ عَنان السماء.
ويقول الأستاذ جعفر: اعذروني، فأنا تغلبني مهنة المدرس، على مهنة الداعية.
وقفة نقدية مع الإخوان:
ومع ما اجتنيته من مدرسة الدعوة الإخوانية من ثمرات لا أجحدها، كما اجتناها أمثالي من الشباب الذين التحقوا بموكب هذه الدعوة، والتزموا بموقفها نحو إسلامهم ووطنهم وأمتهم، وتجنبوا ضياع (الشاة المنفردة) التي يلتهمها الذئب إذا بعدت عن القطيع، كما اجتنبوا متاهة الأحزاب التي أغرقت الشباب في دوامة من الصراعات من أجل السلطة، ولم تتعهدهم بأي قدر من التربية والتوجيه الديني.
مع هذا أود أن أقف في هذه المرحلة ـ المرحلة الثانوية بالنسبة لي ـ وقفة نقدية أعاتب فيها الإخوان، على نهج ما يسمونه في عصرنا (النقد الذاتي) أو ما نسميه بلغتنا الإسلامية (محاسبة النفس).
لقد التقطني الإخوان، فوجهوني في نشر الدعوة هنا وهناك، واعتصروني اعتصارا، دون أن يكون لهم أدنى اهتمام لتوجيه مثلي إلى ما يجب أن يقرأه وأن يعده للقاءاته ومحاضراته في البلدان المختلفة. فكنت أنا الذي أختار الموضوع، وأحدد عناصره، وأملأ فراغه بما يتراءى لي، وأقرأ له في إطار ما لدي من كتب وهي محدودة جدا في ذلك الوقت.
صحيح أنه كان عندي من الوسائل والإمكانات الشخصية ما يشد الناس إلي، ولكن كان يمكن أن يكون أدائي أفضل، وإنتاجي أغزر، وموضوعاتي أخصب، لو كان معها التوجيه والتنظيم والإعداد العلمي، ثم التقويم والمراجعة للدعاة وأدائهم وأثرهم في كل مدة من الزمن، كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة.
ومرد ذلك إلى عيب في الجماعة هو ضعف الجانب الثقافي أو العلمي أو الفكري فيها، حتى شيخنا البهي الخولي عندما وجهنا في (كتيبة الذبيح) كان أكبر همه التوجيه الروحي والسلوكي، وهو مهم ولا شك، ولم يكن همه التكوين العلمي أو الثقافي؛ ولذا لم يوجهنا إلى أي كتاب نقرأه، أو يكلفنا بأي شيء علمي نقوم به.
كانت الفكرة المسيطرة: أن يدربنا على (السمع والطاعة)، فعلينا أن نقول لقادتنا ما قال إسماعيل لأبيه: يا أبت افعل ما تؤمر. فهو يريد جنودا مطيعين، لا دعاة مثقفين. كأنما كان هناك خوف من القراءة والثقافة أن تنشئ العقلية المتمردة، التي تقول في كل أمر: فيم؟ ولم؟ ولا تقول دائما: نعم، سمعا وطاعة.
ربما كان هذا الهاجس هو السبب في وهن الجانب الفكري والعملي لدى الإخوان في تلك الفترة. وربما كان سببه اعتمادهم على مرشدهم ومؤسس حركتهم الأستاذ البنا، فرسائله ومقالاته مصدر تثقيفهم، ودروسه الأسبوعية كل ثلاثاء معين توجيههم. فإذا شغلت الأستاذ البنا الشواغل الكثيرة: الدعوية والوطنية والإسلامية، خوى وفاضهم، ونفدت بضاعتهم، وقل المعروض في سوقهم.
وهو ما شعر به الأستاذ البنا، وجعله يفكر في إصدار مجلة (الشهاب) لتكون مددا ثقافيا مركزا للإخوان، كما ذكرنا من قبل. ولكن المجلة وحدها لا تكفي، فلا بد أن يتخلل ذلك كيان الجماعة، ويدخل مناهجها التثقيفية والتربوية، وأن يقدم العلم على العمل، كما هو منهج القرآن والسنة، فقد نزل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قبل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
ولكن الإخوان شاع لديهم إيثار الجانب العملي والجهادي على الجانب العلمي والفكري، وهذا المناخ هو الذي ولد فيه الاتجاه الثقافي الذي سمي فيما بعد (لجنة الشباب المسلم) التي سعت إلى ترجمة رسائل الأستاذ أبي الأعلى المودودي، ومحاولة تلقيح فكر الإخوان بفكر (الجماعة الإسلامية) في شبه القارة الهندية.
وكنت أتمنى من الإخوان أن يكون لديهم تفكير (إستراتيجي) فيما يتصل بشبابهم، والانتفاع الأقصى بمواهبهم وقدراتهم الخاصة، ومساعدتهم في التوجه إلى أفضل ما ينفعهم وينفع دعوتهم وأمتهم. كان يمكنهم أن يوجهوا مثلي إلى تدريب قلمه على الكتابة، بدل أن تستنفد كل طاقته في الخطاب الشفهي، ولم أكن أكتب إلا عناصر الموضوع الذي أتحدث فيه.
وكان يمكنهم أن يوجهوني إلى تعلم (اللغة الإنجليزية)، وأن يساعدوني ماديا عليها، وقد كان لدي قدرة لغوية غير عادية، ولدي وقت فراغ، خصوصا في عطلات الصيف، ولو تم هذا لكان فيه خير كثير، لي وللدعوة التي نذرت حياتي لخدمتها. ولكنهم لم يفعلوا، بل لم يخطر لهم ذلك ببال.
كان يمكنهم أن يرتبوا لقاءات منهجية لشباب الدعاة من الإخوان في الأقاليم بالأستاذ البنا، ليتعلموا منه، ويستمعوا إليه، ويلقوه وجها لوجه، في دروس معدة ومخططة، ولو في أثناء العُطَل، فيقبسوا من علم الأستاذ وثقافته، وحسن تجربته، ويشربوا من روحه.
وكذلك من يرسخهم الأستاذ البنا من الدعاة والعلماء الذين يراهم أهلا لتوجيه الدعاة، ولكنهم للأسف لم يفعلوا، بل لم يفكروا مجرد تفكير في مثل ذلك، فقد كان الكثيرون تغيب عنهم النظرة الإستراتيجية أو الاستشرافية للمستقبل.
هذا ملاحظة ناقدة سريعة، ولكنها لا تمس جوهر الدعوة وسمو أهدافها، وعظم مجهودها في خدمة الدين والأمة بحال.