فرحة غامرة

هذا الشباب الصغير السن، كان معلِّما، هذا الشباب صغير السن كان كبيرًا في حجمه، في مقداره، في تعليمه للشعب كله، في الإيثار، في التعاون، في خدمة الآخرين، في الفداء عن حظوظ النفس، الواحد منهم يسهر لينام أخوه، ويتعب ليرتاح أخوه، ويجوع ليشبع أخوه، يؤثره بالبطانية ، بالفراش، بـ(البالطو) الذي يلبسه، وينام هو على الأرض، وبعضهم من أبناء العائلات المرفهة، هنا في هذه الثورة نسي الترفيه ونسي الراحة، وتركها لإخوانه، هذا شباب يستحق النصر فعلا، لم يكن مجرد شباب عادي ومثله كان يجلس على المقاهي وهذه الأشياء. ولكن هذا الشباب أظهر صبرا على أن يحقق آماله.

تحرر هذا الشباب من الخوف، وهذا أهم شيء في نجاح هذه الثورة، فقد كان يُنظر إليهم كأنهم ذباب، مثل راكب الطائرة حينما يرى العمارات والبنايات والسيارات كأنها نمل أو ذباب، كان يُقال لهم ما قال فرعون للسحرة بعد أن آمنوا: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}[طه:71]، قالوا لهذا الشباب: أثرتُم قبل أن نأذن لكم بالثورة.  فلا يجوز للعقول أن تقتنع، ولا للقلوب أن تؤمن، ولا للجوارح أن تتحرك، إلا بإذن فرعون، ثرتم قبل أن آذن لكم بالثورة.

هددهم { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:71-73].

هكذا كان موقف هؤلاء الشباب في ميدان التحرير، وانضم إليهم سائر الشعب، فقد كانت في البداية ثورة الأبناء، ثم انضم إليهم الآباء، فأصبحت ثورة الشعب كله.

يقولون: إن استقلال أمريكا تحقق بحوالي مائتي ألف، وأمريكا كانت حوالي مائتي مليون، يعني أن كل واحد منهم يمثل ألفا. وفي الثلاثاء الثاني للثورة المصرية، قُدر المتظاهرون في أنحاء الجمهورية – كما قدرتها وكالات الأنباء الأجنبية – بثمانية ملايين، يعني أن كل واحد يمثل عشرة، أقول: إن هذه الثورة جمعت الشعب المصري كله، فلا يوجد إلا القليل من الناس التافهين؟؟، ولكن شعب مصر كله كان ثائرا، في الثلاثاء الثاني ثمانية ملايين، وفي آخر جمعة قُدروا بستة عشر مليونا، وقدروا بعشرين مليونا، نعم فالناس كل الناس نزلوا إلى الشارع. فتحيتي وتقديري لهذا الشعب، وتحيتي لهذا الشباب. إنني لا أريد أن أطيل عليكم، فقد سمعتم ما فيه الكفاية، ولكني أريد أن أوجه رسائل شكر.

أول من أشكر، هو الله عز وجل، فنقول: الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب والظالمين وحده.

الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

لك الحمد مولانا على كل نعمة       ومن جملة النعماء قولي لك الحمد

فأول من نحمد ونشكر هو الله عز وجل. ثم أشكر ثانيا: ثورة تونس، فلا بد أن نعلم أن لثورة تونس فضلا، فالفضل للمبتدي وإن أحسن المقتدي، كما يقول العرب،  لقد بدأ إخواننا في تونس بالثورة الأولى على هذا الطاغوت، على هذا الذي كان يمسك البلد بقبضة من حديد، ويظن أنه مخلد فيها، أصبح كثير من التونسيين مشردين في كثير من بلاد العالم، منهم من صار له عشرون سنة، ومنهم ثلاث وعشرين سنة أي من بداية فترة حكم هذا الطاغية.

وقد كان حكمه امتدادًا لحكم طاغية آخر، هو أبو رقيبة، فمنذ خمسين سنة كانت تونس في عبودية، فبدأت تونس، وبدأها هذا الشاب: محمد أبو عزيزي في منطقة (سيدي أبو زيد)، وهي منطقة بني هلال، فأبو زيد هذا هو أبو زيد الهلالي. وكان محمد بو عزيزي هذا هو الذي أشعل الثورة في تونس.

ثم انتقلت الثورة إلى مصر بحجم أكبر، ومنهج ونمط جديد وغريب، نمط هذا الشباب المثالي، الذي علَّم الدنيا، كيف تكون الثورات، فشكري بعد شكر الله تعالى كيف تكون الثورات، فشكري بعد شكر الله تعالى إلى إخوتنا في شعب تونس.

ثم شكري الثالث: إلى هذا الشباب الطاهر النظيف القوي الجميل، الذي أصر على أن يحقق ما أراد، والإصرار هذا هو المهم، فالذي أنجح ثورة تونس ثم ثورة تونس هو إصرار الشباب، رغم أن هناك أناسا أرادوا أن يضلوهم، بعضهم من كبار مشايخ الدين، وبعضهم من كبار القيادات، فأحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا على إسكاتهم؛ لأن معنا الحق ومعهم الباطل.

كانوا يريدون أن يعود الشباب بدعوى أنها فتنة (والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها)، نحن مع الاستقرار وليس مع الفوضى. وهؤلاء الشباب لم يُحدثوا فوضى، إنهم كانوا في غاية من النظام الرائع، ولم يحملوا لا عصا ولا حجرا ولا أي شيء، كل ما فعلوه أنهم خرجوا يسيرون ويهتفون، لإزالة المنكر باللسان، وهو درجة من درجات تغيير المنكر، كما حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن رأى منكم منكرا فليغيِّره بيده، فمَن لم يستطع فبلسانه، فمَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[1]. فهم يغيرون بأوسط الإيمان.

لم يتأثر هذا الشباب بفتاوى الشيوخ وخطب الشيوخ، وإن كان كثير من الخطاباء لم يستجب لوزارة الأوقاف التي أمرت الخطباء أن يحثوا الآباء ان يمنعوا أبناءهم من النزول إلى الشوارع، ولكن بعض المشايخ لم يستجب، والشباب لم يستجب لهذا الأمر، فهذا شكري للشباب.

وشكري الرابع إلى شعب مصر، الذي وقف بجوار هذا الشباب، وشد أزرهم.

ثم شكري الخامس إلى جيش مصر، الذي وقف بجوار المتظاهرين من أول الأمر، وقال الناطق الرسمي باسم الجيش: إن حرية التعبير السلمي مكفولة لكل مصري، وأعلن أنه لم ولن يمد يده بسوء لأي أحد من المتظاهرين، ,انه يتفهم مطالب الشباب. وكان موقفه موقفا جيدا، واستمر كذلك إلى أن نحَّى فرعون مصر عن عرشه، ففرعون مصر لم يتنحى، ولا تصدقوا أنه تنحى، إنه نُحي، والذي نحاه الجيش، ولكنهم أناس يستعملون الأدب وهذا الرجل كان حاكما لمدة طويلة، فهو لم يتنحَّ بإرادته..

وخرج الجيش ليطمئن الشعب بقوله: إنه ليس البديل الشرعي عن الذي يريده الشباب والشعب، لست بديلا عما يريده الشعب المصري، فطمأننا وبدأ ينفذ، صحيح أن هناك أشياء نطلبها منه، مثل الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، والإفراج عن المسجونين السياسيين، الذين حاكمتهم محاكمات عسكرية ظالمة، المحاكم العسكرية التي حكمت على المدنيين بسنين طويلة، بعضها عشرة، وبعضها خمسة عشر، وبعضها أكثر، فيجب أن تلغى هذه المحاكم ويفرج عن هؤلاء المسجونين، وهذا في يد الجيش، فما الذي يمنعه؟ فهؤلاء حوكموا ظلما، وكل يوم يبقوا في السجون سيسأل الله الجيش عنهم.

كما يجب إلغاء الطوارئ، وقد قال الجيش: بمجرد أن تنتهي هذه الظروف، سيُلغى قانون الطوارئ، وقد انتهت الظروف، ورجع الشباب إلى بيوتهم. فإالغاء الطوارئ التي كلَّفت الشعب المصري ما كلفت طوال ثلاثين سنة، ونريد –كما قال بعض الإخوة المتحدثون- نريد أن تبدأ محاكمة هذا النظام، لا بد أن يحاكم هذا النظام الفاسد، ويرى الناس جرائمهم، يرى الناس بأعينهم ماذا كان يفعل حبيب العادلي، وغرفة جهنم، كما قيل، وتعذيب الناس تحت الأرض، وموتهم تحت التعذيب وغير ذلك.

نشكر أيضا الجيش على اللجنة التي كلفها لتعديل الدستور، برئاسة أخينا العزيز المستشار: طارق البشري، فنشكر الجيش على كل ما يقوم به.

ثم أقدم شكري السادس، وهو شكر خاص أيها الإخوة لدولة قطر، وقناة الجزيرة، فلقد قامت هذه القناة بدور كبير، دور جوهري في إنجاح هذه الثورة، فلقد كان الإعلام المصري؛ المقروء والمسموع والمرئي، وخاصة المرئي والمسموع منه، أما المقروء فقد كان هناك بعض الصحف خاصة الغير قومية، تقول كلمة الحق، أما الصحف القومية، ظلت تنشر الأكاذيب إلى يوم 10 فبراير، وفي ثاني يوم خرجت تقول: أسقطنا النظام. انتصرنا. وعجبا فمن الذي انتصر؟!! انقلبوا 180 درجة.

أما قناة الجزيرة، فقد قامت بدور كبير، ولا أكتمكم، فبعد أن علمتُ بنجاح الثورة، اتصلت على أمير قطر، أهنئه وأشكره، فقال لي: لقد كان دورك أساسيا وقياديا، قلت له: ولكن لولا قناة الجزيرة ما وصل صوتي إلى الناس، فالذي أوصل صوتي إلى الميدان والناس في مصر، أوصل خطبي وبياناتي وكلماتي، كانت قناة الجزيرة، ولذلك فهي تستحق منا غاية الشكر.

هذه كلمات شكر أوجهها إلى كل هذه الجهات، وأشكر كل العرب الذين استطاعوا أن يعبروا عن فرحهم، فهناك من لم يستطع أن يعبر عن فرحته، في كثير من البلاد، في ليبيا، في سوريا، في بعض بلاد الخليج.

وفي رام الله -تصوروا- لم تخرج فيها مسيرة تهنئ مصر، على حين خرجت مسيرات بالآلاف في غزة ورفح وخان يونس، ومن حقهم؛ لأن مبارك هو الذي ساهم في حصارهم وخنقهم، فلم يسمح بفتح معبر رفح، فعمل لهم جدارا فولاذيا وجدارا حديديا وجدارات كثيرة، وكلما فتحوا منفذا، أو نفقا هدموه، فلذلك كانت فرحتهم غامرة.

ونحن نسأل الله لثورة مصر أن تحقق آمالها، ,ان تستمر حتى تحقق كل هذه الآمال، ونحن معها، ونحن نشد أزرها، ونسند ظهرها، وندعو الله تبارك وتعالى أن يكون يومها خيرا من أمسها، وغدها خيرا من يومها، وأن يتم نعمته علينا بثورات وثورات، وأعظم ما أسأله تعالى أن يقر أعيننا به -وخصوصا أنا قبل أن أرحل من هذه الدنيا- أن يقر الله عيني وأعينكم بفتح القدس، وندخلها آمنين مكبرين مهللين، الله أكبر الله أكبر الله أكبر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

------------

-         الأربعاء 16 فبراير 2011م.


[1] - رواه مسلم في الإيمان (49)، وأحمد (11150)، وأبو داود في الصلاة (1140) عن أبي سعيد الخدري.