الاجتهاد في الشريعة الإسلامية

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

أما بعد.

ففي مفاهيمنا الإسلامية الأصيلة: كلمتان مشتقتان من مادة واحدة، لهما أكبر الأثر في الحياة الإسلامية، وفي مسيرة الأمة الإسلامية على امتداد التاريخ.

هاتان الكلمتان هما الاجتهاد والجهاد، وقد اشتقتا من مادة (ج هـ د) بمعنى بذل الجُهد (بضم الجيم) أي الطاقة، أو تحمل الجَهد (بفتح الجيم) أي المشقة.

والكلمة الأولى هدفها: معرفة الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسوله، والأخرى هدفها: حمايته والدفاع عنه.

الأولى ميدانها: الفكر والنظر، والأخرى ميدانها: العمل والسلوك.

وعند التأمل نجد أن كلا المفهومين يكمل الآخر ويخدمه، فالاجتهاد إنما هو لون من الجهاد العلمي، والجهاد إنما هو نوع من الاجتهاد العملي.

وثمرات الاجتهاد يمكن أن تضيع: إذا لم تجد من أهل القوة من يتبنى تنفيذها، كما أن مكاسب الجهاد يمكن أن تضيع: إذا لم تجد من أهل العلم من يضيء لها الطريق.

وفي عصورنا الإسلامية الزاهرة مضى هذان الأمران جنبا إلى جنب: الاجتهاد والجهاد، فسعدت الأمة بوفرة المجتهدين من حملة القلم، ووفرة المجاهدين من حملة السيف. الأولون لفهم ما أنزل الله من الكتاب والميزان، والآخرون لحمايته بالحديد ذي البأس الشديد، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}[الحديد:25].

وفي بعض العصور: وجد الجهاد لكن لم يصحبه الاجتهاد، فجمدت الحياة الإسلامية وتحجرت، على حين كانت المجتمعات غير المسلمة قد بدأت في اليقظة والتفتح والنهوض.

ثم تلت عصور أخرى فقد المسلمون فيها الاجتهاد والجهاد معا، فغزوا في عقر دارهم، وفقدوا سيادتهم واستقلالهم ووحدتهم.

ثم نادى منادي الجهاد لتحرير الأرض، وحصل المسلمون على استقلالهم، ولكنه كان استقلالا ناقصا قاصرا، إذ الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من آثار الاستعمار التشريعي والثقافي والاجتماعي، إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي ويعودوا إلى ذاتيتهم الأصيلة، وهذا لا يكون إلا إذا كانت شريعة الإسلام أساس حياتهم كلها: الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، التشريعية والتربوية، الفكرية والعملية.

الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع التي تحمل الهداية الإلهية للبشر, وقد خصها الله بالعموم والخلود والشمول، فهي رحمة الله للعالمين، من كل الأجناس، وفي كل البيئات، وكل الأعصار، إلى أن تقوم الساعة، وفي كل مجالات الحياة المتنوعة، لهذا أودع الله فيها من الأصول والأحكام: ما يجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الإنسانية المتجددة على امتداد الزمان، واتساع المكان، وتطور الإنسان.

وإنما كانت كذلك بما جعل الله فيها من عوامل السعة والمرونة، وما شرع لعلمائها من حق الاجتهاد فيما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام، أما ما كان فيه دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو فيهما معا، أو ما ليس فيه نص ولا دليل، فهو المجال الرحب للاجتهاد، وبهذا تتسع الشريعة لمواجهة كل مستحدث، وتملك القدرة على توجيه كل تطور إلى ما هو أقوم. ومعالجة كل داء جديد بدواء من صيدلية الإسلام نفسه، لا بالتسول من الغرب أو الشرق.

إن «الاجتهاد» هو الذي يعطي الشريعة خصوبتها وثراءها، ويمكنها من قيادة زمام الحياة إلى ما يحب الله ويرضى، دون تفريط في حدود الله، ولا تضييع لحقوق الإنسان، وذلك إذا كان اجتهادا صحيحا مستوفيا لشروطه صادرا من أهله في محله.

وهذا ما حاولت أن أوضحه في هذا البحث الذي كتبته في الأصل : لملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر، المنعقد في جمهورية الجزائر الشقيقة في مدينة الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس «قسنطينة» في شهر شوال سنة 1403هـ، يوليو سنة 1983م وكان موضوع الملتقى هو «الاجتهاد».

وقد أعملت فيه يد التهذيب: بالإضافة أو التنقيح أو التوضيح، كما أضفت إليه بعض الفصول، استكمالا للموضوع بقدر الإمكان، وبخاصة ما يتعلق بالاجتهاد المعاصر.

وهذا الموضوع, من الموضوعات التي تدرس في (علم أصول الفقه)، ولا يخلو كتاب أصولي من التعرض له، فهو من «اللواحق» المهمة للعلم.

وقد أتيح لي: أن أدرس هذا الموضوع لطلاب كلية الشريعة بجامعة قطر وطالباتها، أكثر من مرة؛ وكان هذا من أسباب إثرائه عن طريق المناقشة والسؤال والجواب، فهو يمثل حاجة أكاديمية خاصة، وحاجة ثقافية عامة، وهذا ما دعاني إلى محاولة (تبسيط) عبارته وتيسير تناوله، وتقريبه إلى فهم المثقف العادي، حتى يستطيع أن يهضمه، ويستفيد منه.

وقد قسمت هذا الكتاب إلى قسمين رئيسين:

الأول: يتناول الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وشروطه ومجالاته وحكمه واستمراره إلى آخره.

والثاني: يتناول الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط, وكيف نصل إلى اجتهاد معاصر قويم بيّن المعالم، واضح الضوابط.

أرجو أن أكون بهذا البحث: قد ألقيت الضوء على هذا الموضوع الذي يمثل ضرورة لحياتنا الإسلامية اليوم، عسى أن يهيئ الله لنا العودة إلى الإسلام كله: عقيدة وعبادة وخلقا ومنهاج حياة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

 

يوسف القرضاوي