د. يوسف القرضاوي

وهنا ملاحظة كان ذكرها أحد المفسِّرين في العصر الحديث، وهو الأستاذ: عبد الحميد الخطيب[1]، وكان سفير المملكة العربية السعودية في باكستان وبنجلادش وله تفسير، (تفسير الخطيب المكي) هذا التفسير قال فيه: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مَنْ يشاء الضلالة يضلُّه، ومَنْ يشاء الهداية يَهْديه.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا، ومَن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصَّنا بخير كتاب أُنزل، وأكرمنا بخير نبي أُرسل، وأتمَّ علينا النعمة بأعظم منهاج شُرع، منهاج الإسلام، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، وجعلنا الله بالإسلام خير أمة أُخرجت للناس، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله.

وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلِّمنا محمدًا عبد الله ورسوله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فمَن يطع الله ورسوله فقد رَشَد، ومَن يعصِ الله ورسوله فلا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئًا، فمَن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومَن كفر فإن ربِّي غني كريم.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم، ذي الخلق العظيم، وعلى آله وصحابته، وأحينا اللهم على سُنَّته، وأَمِتنا على ملَّته، واحشرنا في زُمرته مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.

(أما بعد)

أمة الإسلام: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57-58]، زهق الباطل وظهر الحقُّ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].

أوجِّه في خطبتي هذه عدَّة رسائل:

1.   رسالة إلى الأمة الإسلامية.

2.   ورسالة إلى شباب مصر، الشباب المؤمن الحر الأصيل.

3.   وإلى حكام مصر، فراعنة مصر.

4.   وإلى شرطة مصر.

5.   وإلى الجيش في مصر.

كلمتي الأولى إلى الأمة الإسلامية:

أما كلمتي إلى الأمة الإسلامية فهي: أن الحاكم في هذه الأمة ليس فرعونًا، الحاكم وكيل عن الأمة، وأجير عندها، كما قال أبو مسلم الخولاني - وهو من أئمة التابعين - عندما دخل على معاوية رضي الله عنه فقال: السلام عليك أيها الأجير. فثار من حوله، وقالوا: قُل أيها الأمير.

فقال: بل أيها الأجير. قالوا: قل أيها الأمير.

قال: بل السلام عليك أيها الأجير. فقال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول[1].

الحاكم في الإسلام أجير عند الأمة، هي التي تُوليه، وهي التي تُعطيه أجره، وهي التي تراقبه وتحاسبه، وتعزله إذا استحقَّ العزل، هكذا شأن الحاكم مع الأمة.

حينما وُلِّي أبو بكر رضي الله عنه، أول خليفة في الإسلام، قال للناس كلمات موجزة مضيئة: أيها الناس، إني وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم[2]. هكذا كان الخليفة الأول.

وكذلك كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي قال للناس: مَن رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمني. فقال له أحد الرعية: والله لو رأينا فيك عوجًا يا ابن الخطاب لقوَّمناه بسيوفنا. لم يقُل اقبضوا على هذا الرجل، وانظروا ما عنده من سيوف، وانظروا من معه، ولكن قال: الحمد لله الذي جعل في رعيَّة عمر مَن يقوِّم اعوجاجه بحدِّ سيفه.

ولما قيل له: اتَّقِ الله، يا أمير المؤمنين في كذا وكذا. أنكر بعض أصحابه على القائل، قال: دعه، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.

وحينما وُلِّي الخلافة عمر بن عبد العزيز قال للناس: أيها الناس، إنما أنا واحد منكم، ولكن الله حمَّله الأمانة فأصبح أكثر الناس حملاً. لأنه مسؤول.

"الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"[3]. مسؤول أمام الله، مسؤول أمام الشعب، مسؤول أمام ضميره، مسؤول في الدنيا، مسؤول في الآخرة.

هذا هو الحاكم المسلم، ليس الحاكم المسلم جبَّارًا في الأرض، ليس فرعونًا من الفراعين، وإنما هو واحد من الناس، شأنه شأن الرعيَّة، يصلِّي معهم، ويعيش معهم، ويحسُّ بآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم. هذا هو الحاكم الذي أراده الإسلام، وهو حاكم يحبُّه الناس ويحبُّونه، إذا كان حاكمًا مسلمًا حقيقيًّا.

روى الإمام مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم"، يعني تدعون لهم ويدعون لكم، هذه الصلة: حبٌّ ودعاء متبادل. "وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"[4]، هذا هو الحاكم المكروه المبغوض الملعون عند الناس، والملعون عند الله، والملعون عند الملائكة.

هذا ما يريده الإسلام: أن يكون الحاكم حاكمًا عادلاً، يعامل الناس كما يعامل أولاده، يشفق على صغيرهم، ويرعى كبيرهم، ويهتمُّ بمصالحهم.

هذه كلمتي أوجهها إلى الأمة؛ لتعلم من هو الحاكم المطلوب الذي يحكم الأمة، وهكذا كانت أمَّتنا حين كان الحكم راشدًا، يدخل الإنسان الحكم ويتحمَّل مسؤوليته، لا يستفيد منه شيئًا.

أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يستفيدوا من الحكم شيئًا، بل خرجوا منه خفافًا كفافًا، لا لهم ولا عليهم.

قيل لعمر بن الخطاب: ألا تستخلف ابنك عبد الله؟ وعبد الله بن عمر عالم من علماء الصحابة، ومجاهد من مجاهدي الصحابة، رجل قوي في دين الله وفي طاعته، فقال لهم: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم واحد.

وقال: والله لوددتُ أن أخرج منها كفافًا لا عليَّ ولا لِي.

هذا هو عمر بن الخطاب، لكنا أصبحنا في زمن يدخل الناس الحكم فقراء، ويخرجون منه أغنياء، لا يؤتمن على أموال الناس، بل يسرقها، أصبح الناس يقولون: حاميها حراميها. الحاكم الذي يُفترض أن يرعى الناس، هو الذي يفترسهم، كما قال الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

هذه كلمتي الأولى.

كلمتي الثانية إلى شباب مصر الأبرار:

أما كلمتي الثانية إلى شباب مصر الأحرار الأطهار الشرفاء، الذين خرجوا من بيوتهم ليقولوا كلمة الحقِّ، وليطالبوا بحقِّهم، وهذا أمر يقرُّه الإسلام، ويقرُّه العالَم كلُّه، تقرُّه منظَّمات حقوق الإنسان، ومواثيق حقوق الإنسان، وأصبح شيئًا معروفا، متداولا لا ينكره أحد. فلا خلاف بين أحد من العالم مسلمًا كان أم يهوديًّا أم نصرانيًّا أم ملحدًا، على الحقوق الإنسانية الطبيعية، من الحرية، والكرامة، والعزَّة، وكفالة العيش الكريم للإنسان.

والإسلام هو الذي قال خليفته: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمَّهاتهم أحرارًا[5]. هذا هو الإسلام.

أنا قلتُ مرارًا على هذا المنبر وفي برنامج الشريعة والحياة: إن الحرية مُقدَّمة على تطبيق الشريعة الإسلامية، بل الحرية هي جزء أساسي من تطبيق الشريعة الإسلامية، بل الحرية هي ثمرة حقيقيَّة لتطبيق الشريعة الإسلامية. الناس يقولون: أعطونا حريَّتنا طالما انتهجتم هذه الحرية، أعيدوا لنا حقوقنا.

هؤلاء الشباب خرجوا ينادون بالحرية والكرامة، وأن يكون لهم حقُّهم في عيش كريم، لا يجوز أن يضع بعض الناس أيديهم على بطونهم يشكون من عضَّة الجوع، يئنون أنين الملسوع، وأناس آخرون يضعون أيديهم على بطونهم يشكون من زحمة التخمة، من كثرة ما أكلوا حتى إنهم يريدون المهضمات. كُلْ على قدرك ولا تأكل حقَّ الناس، إنما جاع الفقير لأن الغني أكل حقَّه.

أربعين بالمائة (40%) من أبناء مصر تحت خطِّ الفقر، وهناك آخرون يلعبون بالملايين، ناس لا يجدون الملاليم، وآخرون يلعبون بالملايين، وهذه الملايين كثيرًا ما كسبوها من أموال المجتمع، من أموال الدولة، نهبوا أموال الدولة، وأراضي الدولة، أصحاب مشروع (مدينتي) وغيرها. أخذوا هذه الأراضي بما يشبه المجانية، الناس كانوا ينادون في شوارع القاهرة والمدن المختلفة: (كيلو الطماطم بعشرة جنيه، ومتر مدينتي بنصف جنيه). خمسون قرشًا.

الحزب الوطني الذي كوَّن حكومة من رجال الأعمال نهبوا ثروات البلد، كيف يؤتمن رجال الأعمال على ثروة الوطن، وعلى حُرُمات الوطن، وعلى دماء الوطن، وعلى شباب الوطن، هم لا يحرصون إلا على مصالحهم.

ما الذي حرَّك هؤلاء الشباب ليطلبوا بحقوقهم؟ حرَّكهم إحساسهم بالظلم، والإنسان قد يصبر على الظلم يومًا ويومين، وشهرًا وشهرين، وسنة وسنتين، ولكن بعد ثلاثين سنة لا بدَّ للناس أن يتحرَّكوا، هناك قانون طبيعي في العلوم يقول: شدَّة الضغط تولد الانفجار. وقد اشتدَّ الضغط عليهم، الجوع آذاهم وآلمهم فانفجروا، ولكنهم انفجروا انفجارًا عاقلاً، خرجوا ومعظمهم من الشباب المتعلِّم، ومعظمهم شباب، خرجوا من يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير، في هبَّة شعبية لم يحرِّكها أحد، لا من الداخل ولا من الخارج. الآن يقولون هناك محرِّكات خارجية، ومحرِّكات داخلية، والإخوان المسلمون.

إن كلمة الإخوان المسلمين - أيها الإخوة - إنما يقصدون بها تخويف الناس في الغرب، في أمريكا وأوروبا، (البُعْبع) الإسلامي، التيار الإسلامي، الإخوان المسلمين، وأنا أقول: الإخوان المسلمون موجودون كفئة من الشعب، ربما لا يزيدون عن عشرة بالمائة. أما هؤلاء الشباب فمن كلِّ الفئات، وبعضهم غير مُسيَّسين إطلاقًا، لا ينتسبون إلى حزب من الأحزاب، ولا إلى هيئة من الهيئات.

أبناء مصر خرجوا ثائرين ثورة شعبية حقيقية، ما رأيتُ أعظم منها، ولا أطهر منها، ولا أشرف من هذه الثورة، خرجوا يطالبون بحقوقهم، ليس معهم سكين، ولا مِطواة، ولا قنبلة، ولا مسدس، ولا أي شيء، إلا مَن كان يحمل سبحة في يده، أو مصحفًا يتلو فيه.

خرج هؤلاء الشباب البرآء الشرفاء يطالبون بحقِّهم، ولكنهم للأسف ضُربوا وقمعوا.

كنتُ في مصر في ذلك الوقت، وكنتُ راجعًا من اجتماع في الأزهر الشريف، فكلَّما جئنا إلى مكان نجد الأمن المركزي قد أغلق الطريق، نرجع وندور ونذهب إلى طريق آخر، فنجد الأمن المركزي قد أغلق الطريق، ظللنا أكثر من ساعة نلف وندور، حتى رجعنا إلى الفندق، لماذا، لماذا لا تتركون هذا الشباب يعبِّرون عن أنفسهم؟ هم لا يسيئون إلى أحد، يقولون: أعطونا حقَّنا. ولما قُمعوا نادوا إخوانهم أن يؤيِّدوهم، فزاد عددهم أكثر فأكثر.

ثم ازداد قمعهم، وسقط منهم مَن سقط من الشهداء، فنادوا الأمة، وطبيعة الحال أن تحسَّ الأمة بأبنائها، وما يجري عليهم، فانضمَّ إليهم الكثيرون، انضمَّ إليهم جيل الآباء، من العلماء والقضاة والمحامين والصحفيين والأطباء والمهندسين والمعلِّمين والفنانين وغير هؤلاء، انضمَّ الكثيرون إليهم، وهذا طبيعي. ولكن الحكام الذين طمس على بصائرهم، قالوا: الإخوان دخلوا؛ بدليل أنهم أصبحوا يصلُّون جماعات. كأن الشعب المصري لا يعرف الصلاة، ولا الجماعة، والإخوان فقط هم الذين يصلُّون!!

الشعب المصري ثمانون بالمائة (80%) أو أكثر يؤدُّون الصلاة، فإذا كانوا في ميدان يؤدُّونها فيه، يصلُّون في جماعة، ولكن منذ رأَوا أول جماعة تصلِّي سلَّطوا عليها خراطيم المياه، عندما سجدوا لله، عندما سجد الناس لله سلَّطوا عليهم الخراطيم، هؤلاء لا يعرفون الله، لا يعرفون الآخرة، لا يعرفون حُرمة لأحد.

وجزى الله قناة الجزيرة خيرًا، أنها تقوم برسالة عظيمة، فهي التي توعِّي الناس، هؤلاء الناس لا يعقلون، عتَّموا على الشعب المصري، التلفزيون المصري يبث صورا وأخبارا كأن الأمور عادية ولا شيء يحدث في العالم، الجزيرة قامت بمهمَّتها في أداء الأمانة، أدَّت الأمانة، وعرَّفت الناس بالحقائق، فأغلقوها وسحبوا ترخيص مراسيلها، ولكنها لا تزال تؤدِّي رسالتها.

في يوم الجمعة الماضي كان هناك غليان، وتجمع الملايين من الناس، ولكنهم للأسف عاملوهم بمنتهى القسوة، سقط شهداء من المتظاهرين المسالمين، وقُدِّروا بمائة وخمسين شهيدًا، وحوالي أربعمائة جريح، من النساء والأطفال والرجال، فلم يكن أمام هؤلاء الشباب إلا أن يقرِّروا ثلاثاء الغضب.

وكان هذا الثلاثاء الذي خرج فيه حسب تقدير وكالة الأنباء الألمانية - على ما أظن - ثمانية ملايين في أنحاء مصر، خرجوا يحتجُّون على ما حدث في يوم الجمعة الماضي، حدث يوم الجمعة أن وزارة الداخلية سحبت كلَّ رجالها من مصر، وأصبحت مصر بقية هذا اليوم ويوم السبت وما بعده، أصبحت بلا شرطة، حتى شرطة المرور، وتركوا الأمن للناس، وأطلقوا البلطجية، وأخرجوا ناسًا من السجون، رجال الأمن هم الذين أخرجوا المجرمين من السجون؛ ليظهروا أن هؤلاء هم الذين تسبَّبوا في الفوضى، وهم الذين فعلوها.

ولكن هذا الشباب - شباب مصر الرائع - أقام اللجان الشعبية ليحرس البلد؛ لأنهم سرَّحوا رجال الشرطة، وبدءوا يحرقون السيارات في الشوارع، وينهبون المنازل، ويسرقون المحلات، ويرتكبون من الجرائم والخطايا ما لا يعلمه إلا الله، ولم يحقَّق في ذلك بعد. هؤلاء الشباب أصبحوا حرَّاس مصر، خصوصًا المنشآت الحساسة، (المتحف المصري) الذي فيه آثار لا تقدر بأثمان، لا بالمليارات ولا بالتريليونات، هؤلاء أرادوا أن ينهبوه، أو أن يتركوه للنهب.

هؤلاء الشباب هم الذين حرسوا المتحف، وحرسوا مصر من كلِّ شرٍّ، ومن كلِّ أذى، هؤلاء الشباب أحيِّيهم، وأدعو لهم نهاري وليلي، وأسألكم أن تدْعوا لهم - أيها الإخوة - في صلواتكم وخلواتكم وأسحاركم، ادعوا لهؤلاء الشباب أن ينتصروا، فانتصارهم انتصار للحقِّ، وانتصار للعدل، وانتصار للخير.

أوجِّه رسالتي الثانية إليهم: أن يثبتوا، وألا يفرُّوا من الميدان، الله قدَّر عليهم هذه المسئولية: أن يدافعوا عن مصر، وأن يذودوا عن حماها، وأن يطالبوا بحقِّ الجياع والمهضومين المظلومين.

اثبتوا أيها الشباب، لا تستمعوا إلى المثبِّطين، ولا أولئك الخانعين الضائعين، لا تستمعوا إلى هؤلاء، للأسف وجدنا مَن يثبِّط الشباب، وبعضهم يرتدي زيَّ العلماء، لا تسمعوا لهؤلاء العلماء، فكثير منهم إما ملبَّس عليه، التبس عليهم الحقُّ بالباطل، ولم يرَوا الأمر على حقيقته، ولعل الله ينير بصائرهم، وكثير منهم ممَّن يسمِّيهم الناس علماء السلطة وعملاء الشرطة، هم لا يعملون للدين، دائمًا يعملون للدنيا.

اثبتوا أيها الشباب، إنكم تقومون بفرض كفاية عن أمة مصر، وعن شعب مصر، شعب مصر لا بد أن يكون فيه مَن يتحرَّك لإحقاق الحقِّ وإبطال الباطل، أنتم الذين قمتم بهذا الأمر نيابة عن شعب مصر، وانضمَّ الشعب إليكم.

أنا أرى أن الشعب المصري هو مع هؤلاء الـ (8) مليون، هؤلاء يمثِّلون ثمانون مليونًا؛ لأن وراءهم أناس، الذي خرج وترك أباه في البيت وأمه وأولاده الصغار، كم مع كل واحد من هؤلاء، أناس كثيرون معهم بقلوبهم، ولكن لا يستطيعون الخروج، ما عندهم هذه القدرة، كما قال شوقي في رواية مجنون ليلى:

أحب الحسين ولكنمـا          لســاني عليه وقلبـي معـه

إذا الفتنة اضطربت في البلاد            ورمت النجـاة فكن إمّعة

هناك أناس من هذه الإمَّعات، لا يحبُّون النظام ولا يؤيِّدونه، ولكن يخاف على نفسه، يخاف من خياله، فهؤلاء هم ضدَّ هذه المظالم.

أوصي الشباب أن يثبت، وأوصي بقية الشعب أن يؤيِّد أولئك الشباب. أنا ناديت أبناء مصر في بيان لي: على كلِّ قادر على الخروج يجب أن يخرج، يخرج لتقوية الشباب الفضلاء الأطهار، يخرج لمقاومة الظلم، كلُّ قادر ليس له عذر يجب أن ينضمَّ إلى هؤلاء الشباب، إنه بذلك ينصر الحقَّ ويخذل الباطل.

الإسلام يفرض مجاهدة الظالمين، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[6]. هؤلاء الشباب يغيِّرون باللسان، يهتفون، لا يمدُّون أيديهم إلى أحد بأذىً أو بسوء.

في حديث مسلم، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من نبيٍّ قبلي، إلا كان له من أمَّته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسُنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل"[7].

الجهاد باليد لمَن قدر عليه، ومَن يقدر على الجهاد باليد الآن إلا القوات المسلحة المصرية، "ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن"، وهذا ما يفعله الشباب، يهتفون بلسانهم فقط، يطالبون بحقوقهم.

ثم أدنى شيء الذي يغيِّر ويجاهد بقلبه، ومعنى الجهاد بالقلب أن يكره الظلم، ويكره أهله، ويتمنَّى زوالهم، ويدعو الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وليس معناه أن يكون سلبيًّا بالكليَّة، لا، وإلا ما سمَّاه تغييرًا بالقلب وجهادًا بالقلب، أن يكون عندك شحنة نفسيَّة وفعالية ضدَّ الظلم والباطل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر"[8]. أفضل الجهاد، لماذا؟ لأنك إذا جاهدت الفساد في الداخل، تُغلق الباب على الاستعمار أو الاحتلال أو الغزو من الخارج.

"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"[9]. لا بدَّ من تضحيات، ولكن هذا الشهيد منزلته بجوار حمزة بن عبد المطلب.

ناديتُ أبناء مصر أن يخرجوا ليقودوا هؤلاء، فإنهم إذا كثُر عددهم كان الضغط على النظام الحاكم أكثر فسلَّم، إنه نظام يركب رأسه، نظام عنيد عتيد، فكلما كان الضغط عليه أكثر سَلَّمَ بخسائر أقل، وإلا فلا يعلم إلا الله مدى الخسائر والأرواح التي سيضحِّي بها الشعب المصري، ولا يبالي حُكَّامه بما يضيع من مصالح، وما يقتل من الناس، وما يسفك من دماء، وما يزهق من أرواح. أنا وليخرب العالم، وأنا وبعدي الطوفان.

أنادي هؤلاء الشباب: أن يثبتوا.

أنادي شعب مصر: أن يقفوا بجوارهم.

وأنادي هؤلاء الشباب: أن يحذروا ممَّن يندسون في صفوفهم، هناك أناس يندسُّون وسط هؤلاء الشباب، ليرتكبوا جرائم تنسب إلى هؤلاء الشباب، والشباب واعون، ولكن أريد أن يزدادوا يقظة وحذرًا، فلا يسمحون لأحد أن يهتف هتافات غير مقبولة لا يريدونها هم.

هؤلاء الشباب شباب مهذبون، شباب تربَّوا تربية إيمانية في معظمهم، وإن كان أكثرهم عاديين، لكن الشباب العادي في مصر مؤمنون، علَّمهم دينهم، فينبغي ألا يسمحوا بأيِّ هتاف خارج عما يريدونه، أو يرتكبوا أشياء كان يرمي أحدهم حجرًا، أو غيره.

أنا أنصح هؤلاء الشباب: أن يكونوا على غاية من الحذر، من اندساس هؤلاء الذين هم أُجَراء الحكومة، وأُجَراء رجال الأمن، أو هم من رجال الأمن أنفسهم، يلبسون لباسًا مدنيًّا.

فهذه كلمتي إلى هذا الشباب، وأدعو الله لهم أن ينصرهم، وأن يردَّ كيد الكائدين في نحورهم، ويعيد سهامهم المسمومة إلى صدورهم، وأنا واثق بأن الله ناصرهم؛ لأن من سنن الله عزَّ وجلَّ أن ينصر الحقَّ، ولكن بعد تضحيات، وبعد أن يبتلى الناس، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].

كلمتي الثالثة إلى رجال الشرطة:

وكلمة أوجِّهها لرجال الشرطة، لرجال الأمن الذين ارتكبوا ما ارتكبوا، أقول: إنهم مهما فعلوا هم مصريون، وهم مسلمون، أو حتى مسيحيون أصحاب دين، لا ينبغي أن يستجيبوا لأمر آمر يأمرهم بقتل الناس. لا يجوز أن يقتلوا إخوانهم المصريين مثلهم، بعضهم يقول: أنا عبد المأمور. لا أنت عبدٌ مأمورٌ لله، الله الذي يأمرك وأنت تطيعه. أما أن يأمرك إنسان مثلك أن تقتل شخصًا بريئًا، وأنت تعلم أنه بريء، ولم يقتل إنسانًا، ولم يرتكب جريمة، تقتله! توجِّه إليه الرصاص الحيَّ إلى صدره، لأن أحد الضباط قال لك: اقتل. لا، قل له: لا، أنا لا أقتل.

إن قتل المؤمن جريمة لا تقبل السماح، "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دما حراما"[10]. تضيق عليه الدنيا بما رحُبت، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حقٍّ"[11]. بل غير المسلم: "مَن قتل معاهدًا لم يَرَح رائحة الجنة - لو قتله بغير حقٍّ لم يَرَح رائحة الجنة - وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"[12]، {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].

إن الإسلام لا يسمح بقتل هِرَّة بغير حقٍّ، علَّمنا النبي صلى الله أن امرأة دخلت النار -  فُتحت لها أبواب جهنم - من أجل هِرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض[13].

فما بالك بالإنسان المكرَّم الذي استخلفه الله في الأرض، أقول لهؤلاء الشرطة: لن ينفعكم ضبَّاطكم، ولن ينفعكم حكَّامكم يوم القيامة، يوم تجدون جهنم مفتوحة لكم، لا يجوز لإنسان أن يقتل إنسانًا بأمر إنسان، إلا إذا حكم القضاء بقتله، لا يملك ضابط أن يقول: اضرب النار في الناس. هو ليس إلهًا يصدر أمره للخلق، فيأتمرون به.

فأنا أحذِّر هؤلاء الشرطة، أحذِّرهم أن يقتلوا إخوانهم، أو يؤذوا إخوانهم، وأحذِّر البلطجية والمستأجَرين، الذين استخدمهم هذا النظام ليفعلوا ما فعلوا في ميدان التحرير، من أجل جنيهات، بعضهم خمسين جنيها، وبعضهم مائة جنيه، والآخر مائتين، وبعضهم خمسمائة، على حسب ما يؤدَّي صاحب الجمل والخيل يأخذ خمسمائة، والآخر مائتين،  ويذهب ليقتل البرآء.

ولما قبض الشباب على بعض هؤلاء الناس، وسألوا بعضهم لماذا تقتلوننا، ونحن ما خرجنا إلا من أجلكم؟! نحن ما خرجنا إلا من أجل إنصاف المظلومين، ليس لنا أي شيء في هذا الأمر إلا أننا ندافع عن شعبنا، ونطالب بحقِّنا، فلماذا تقتلنا؟ ولماذا تضربنا بالمولوتوف؟ لماذا تقتلوننا من فوق سطوح الفنادق والعمارات؟!

بكى هؤلاء الشباب وقالوا: والله ما كنا نعرفكم، قالوا لنا: إن هؤلاء مجرمون يريدون تخريب البلد، فصدَّقناهم ففعلنا ما فعلنا.

أنا أنادي هؤلاء الشباب المغرَّر بهم، والمخدوعين: أن ينتبهوا ويعلموا أنهم إنما يقتلون أهلهم وإخوانهم.

يا شباب، يا شرطة، يا مستأجرون: حرام عليكم أن تقتلوا أبناء بلدكم، أن تقتلوا هؤلاء الأطهار الشرفاء، الذين خرجوا من بيوتهم، وصار لهم عشرة أيام يبيتون في الميدان، في البرد الشديد، أحيانًا لا يجدون طعامًا، ويصاب مَن يصاب منهم، ولا يجدون دواء، والمسؤولون يمنعون الإسعاف أن يصل إليهم، بل يصادرون مواد الإسعاف الأوليَّة.

أنادي هؤلاء الشباب، وإن كانوا من البلطجية، ومن المستأجرين، هم مصريون، هم أناس لهم قلوب، ولهم عقول، أناديهم ولا أيأس منهم.

كلمتي الرابعة إلى حكام مصر:

والكلمة الأخيرة، أنادي أخيرًا حكَّام مصر، أقول لهم: يا حكَّام مصر، أما آن لكم أن تفهموا؟! فمن عادة الأنظمة المستبدَّة أنها ليس لها عقل يفهم، ولا قلب يرحم، هذه الأنظمة صمَّاء لا تسمع، عمياء لا ترى، غبيَّة لا تفهم، بليدة لا تحس، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف:179]. عطَّلوا أجهزة المعرفة عندهم، فلم يعودوا يعون شيئًا، لا يخشون خالقًا ولا يرحمون مخلوقًا، هؤلاء لا يفهمون منطق الإسلام الذي يقوم على الشورى، والذي يريد للحاكم أن يكون محبوبًا عند الناس؟ يدعو لهم ويدعون له، والواجب إذا أحس الحاكم أن الناس يكرهونه أن يرحل، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا يتسبب في قتل إنسان واحد، ليس مئات الناس وآلاف الجرحى، هؤلاء لا يفهمون منطق الإسلام.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شِبرًا - يعني لا يقبل الله عملاً صالحًا لهم، أول هؤلاء الثلاثة  - رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون ..."[14]. صلَّى بالناس والناس يكرهون أن يصلُّوا وراءه، دعهم يختارون غيرك، فكيف بالأمانة الكبرى، أن يقود الناس وهم له كارهون.

إنهم لا يفهمون منطق الشرع، ولا منطق العصر، العصر يقول كما قال شوقي حينما اكتُشف قبر توت عنخ آمون، وكان فيه كنوز أذهلت العالم، أنشأ شوقي قصيدة معروفة قال فيها يخاطب الفرعون:

زمان الفرد يا فرعونُ ولَّى            ودالت دولة المتجبرينا

وأصبحتِ الرُّعاة بكل أرضٍ           على حكم الرعية نازلينا

هذا ما قاله شوقي قبل ما يقرب من ثمانين سنة، زمان الفرد انتهى، ولكن هؤلاء لا يعرفون منطق العصر، ولا منطق الشرع، أرادوا أن يستمرُّوا رغم أنف الشعب، لو كان حسني مبارك أبًا للشعب كما يقول، ما رضي أن يقتل أولاده، ما رضي أن يبقى وملايين منهم يقولون له: لا. لو أقل من ذلك يكفي لأن يخرج ولا يتسبب في أذى أحد. لقد خرج ثمانية ملايين يوم الثلاثاء الماضي يقولون: لا.

هذه الثورة تطوَّرت فقد كانت انتفاضة يوم خمس وعشرين يناير، ثم أصبحت ثورة دخلها الشعب المصري كله. كانوا ينادون أول الأمر بالعيش الكريم والعزَّة والكرامة والحرية، ولما قُتل منهم مَن قُتل أصبحوا يقولون: لا حلَّ إلا رحيل مبارك. ما دام هذا الرجل باقيًا فلن تستقرَّ مصر أبدًا، إذا كان مبارك أبًا فليرحم الأب أولاده ويرحل، ألا يتعلَّم من الدرس القريب، ألا يتعلَّم من درس تونس، ألا يتعلَّم من زين العابدين بن علي.

كان زين العابدين بن علي أعقل منه، وأذكى منه، حينما رأى الأمر ذهب بنفسه، وهو رجل عسكريٌّ مثله، كان متمكِّنًا أكثر منه، ولكنه كان أعقل من مبارك، لماذا لا ترحل يا مبارك، والناس يقولون: نريد الرحيل. واليوم يسمُّون هذه الجمعة جمعة الرحيل، إن كان عندك ذرَّة من رحمة في قلبك، أو ذرَّة من عقل في رأسك ارحل وارحم البلد. أنت مسؤول عن القتلى الذين قتلوا من أول يوم إلى آخر يوم، بالأمس وأول أمس قُتل عشرة بيد القناصة، وجرح ألفا وخمسمائة أو أكثر، ولا ندري ماذا يحدث اليوم، ألستَ مسؤولاً يا مبارك، عن هذه الدماء التي سالت؟

إن عثمان بن عفان كان الثائرون حول داره يهدِّدونه بالقتل، وذهب عدد من الصحابة يطلبون منه أن يدافعوا عنه، فقال لهم: إذا كان لي طاعة عليكم لا تمسُّوا أحدًا، دعوني ودعوهم، أنا وشأني. وأصرَّ على ذلك حتى قُتل شهيدًا، وقال: أريد أن لا يسفك قطرة دم بسببي. فهذا هو الحاكم الأب فعلاً.

إذا كنتَ أبًا فلا تكون سببًا في مزيد من القتلى والشهداء والمجروحين.

مبارك هو المسئول عن كلِّ ما جرى، الذي جرى أمس وأول أمس شيء لا يُصدَّق، رئيس الوزراء نفسه قال: هذا شيء لا يصدق. وسمَّاها مهزلة، وسمَّاها مأساة. الذين جاءوا إلى ميدان التحرير من عند الهرم أو نَزْلة السمَّان، ثمانية عشر كيلو أو أكثر جاءوا يركبون الجمال والخيول، ومعهم أسلحة بيضاء ومطاوي وسكاكين وزجاجات مولوتوف وكرات ناريَّة، دخلوا على هؤلاء الشباب الذي ظلَّ تسعة أيام، لم يُصَب أحد لا من الشرطة ولا غيرهم، الشهداء كلُّهم من الشباب المتظاهرين، الشرطة لم يصبهم شيء؛ لأن الشباب لم يُطلق رصاصة، لم يرمِ حجرًا، حتى جاء هؤلاء البلطجية كما يسمُّونهم، الذين يستأجرهم الأمن، أمن الدولة ووزارة الداخلية، يستأجرونهم في إفساد الانتخابات، ومنع المرشَّحين، ومنع المنتخبين أن يصلوا إلى الصناديق، تصوَّروا حاكما يستعين بالبلطجية ليقتل شعبه، أيُّ حكم هذا؟ أيوجد حكم يستعين بالمجرمين؟ كما قال سيدنا موسى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17]. هؤلاء يظاهرون المجرمين، ويستظهرون بهم، ويستعينون بهم.

هذا النظام هو المسئول عن هذا، رئيس الوزراء يقول: لا أدري كيف حدث هذا، ولا أعرف كيف جاءوا، ومن المسئول. لا بد أن يُحاكموا، الحكومة هي المسئولة، ومبارك هو المسئول، وأقول كما قال الشاعر:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظمُ

أنتم المسئولون، وأنتم الذين صنعتم هؤلاء المجرمين، وأنتم الذين تقبِّضونهم في أيديهم الفلوس.

أنا أدعو حسني مبارك أن يختم حياته بالرحيل، ليكون الرئيس السابق بدلاً من أن يكون الرئيس المخلوع، استعمل العقل يا مبارك، الناس لهم عقول يفكِّرون بها، ويفقهون بها، ليس من الحكمة أن تعرِّض الشعب إلى الخطر من أجل بقاءك، وبقاؤك ستة أشهر، أو سبعة أشهر، تعرَّض البلد لهذا الخراب وهذا الدمار، وهذا القتل من أجل سبعة أشهر، يا أخي استرح، ألم يكفك ثلاثون سنة؟! إن كان الحكم غُرمًا فيكفيك غرمًا، وإن كان غُنمًا فيكفيك غنمًا، ثلاثون سنة، استرح، حرام عليك يا مبارك، حرام عليك وأنت فوق الثمانين، اثنتين وثمانون سنة، حرام عليك، كفاية كما قال الشعب منذ سنين، كحركة كفاية، كفاية خلاص، فأنا أنادي مبارك وأنادي نظامه بالرحيل.

كلمتي الخامسة إلى الشعب المصري:

وأنادي أخيرًا الجيش المصري، الجيش المصري الذي هو درع مصر وفخرها، والمدافع عن حِماها، والذي دخل من أجلها عدَّة حروب للدفاع عن مصر وللدفاع عن فلسطين من سنة (1948م)، دخل الجيش المصري في عهد فاروق ليدافع عن فلسطين، قالوا: الأسلحة الفاسدة وكذا ... وكذا ... وإنما دخل الجيش المصري وقاتل في بعض المعارك، وكاد يكسب بعض المعارك، وأُسر منهم من أُسر من ضبَّاطه وجنوده، فنحن نفخر بالجيش المصري ونعتزُّ به، وأرى أن سفينة الإنقاذ بيده.

لقد رأى الجيش ما رأى، وشهد لهؤلاء الشباب أنهم كانوا مثالا للانضباط - باللغة العسكرية - ومثالا للأخلاق، ومثالا للاعتزاز بالوطن، والحبُّ له، والدفاع عنه، ولكنه بالأمس وأول أمس ترك هؤلاء البلطجية يقتلون الشباب، ويوجِّهون إليهم الحجارة والملوتوف والكرات النارية والرصاص، فقُتل عشرات، وجُرح أكثر من ألف وخمسمائة، وبعضهم جراحه خطيرة، الذي ذهبت عينه، والذي انكسرت رجله، والذي أُصيب في قلبه، وأصيب في رأسه، وبعضهم يكاد يموت، أي يعتبر في عداد الموتى.

أنا أطلب من جيش مصر الباسل الجيش الشريف، الذي دخل المعارك وراء المعارك من أجل مصر، أريد من هذا الجيش: أن يفضَّ هذا الاشتباك ويتحمَّل المسئولية، ويعيِّن رئيس المحكمة الدستورية، فلم يعُد يكفي أن يُعيَّن نائب الرئيس؛ لأن نائب الرئيس هو من الرئيس، بل هو الرئيس عينه، والشعب رافض هذا النظام، ونحن نرفض هذا النظام، ونحرص على الدولة، هناك فرق بين الدولة والنظام، النظام يذهب والدولة باقية، والجيش هو من أول مؤسَّسات الدولة، وهو الذي ينبغي أن يحمي مصر عند اللزوم والضرورة.

أنا لا أقول للجيش: تحمَّل مسئولية الحكم. لا، لا أريد أن يحكمنا الجيش مرَّة أخرى، ولكن أريد أن يظلَّ الجيش حاميًا للأمة، وحاميًا لحقوق الشعب، والذي نستطيع أن نقوله الآن: إن على الجيش أن يتسلَّم الأمر، ليسلِّمه إلى المدنيين، لا أن يُسلَّم إلى نائب الرئيس؛ لأنه من الرئيس، ولا نستطيع أن يُسلِّمه إلى رئيس مجلس الشعب؛ لأن مجلس الشعب مزوَّر، كلُّ الشعب يعرف أنه مزوَّر، حتى حسني مبارك نفسه قال: يجب أن تنظر محكمة النقض في الطعون.

وكانوا قبل ذلك لا يبالون بالطعون، ولا يبالون بشيء، القضاء يقضي وهم يقولون: المجلس سيد قراره.

أريد من الجيش أن يعيِّن رئيس المحكمة الدستورية، ويكون هو الرئيس المؤقَّت للجمهورية، ويتولَّى الإجراءات بعد ذلك بتكليف حكومة انتقالية، وعمل لجنة حكماء لوضع دستور مؤقَّت، إلى أن ينتخب مجلس تأسيسي يضع دستورا، ويقرُّه تمامًا، وتستمر الإجراءات بعد ذلك. هذا ما أرجوه من الجيش المصري.

وأنا أدعو الله عزَّ وجلَّ، أدعوه من كلِّ قلبي أن ينقذ مصر، وأن يكتب الخلاص لها، وأن يجعل خلاص مصر أقرب ما يكون، اللهم إنا نسألك يا ربَّ العالمين، ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم أنقذ مصر، اللهم أنقذ مصر من كلِّ خطر، ومن كلِّ سوء.

اللهم انصر هذا الشباب، شباب مصر البرآء الشرفاء، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، واهدهم صراطًا مستقيمًا، وانصرهم نصرًا عزيزًا، وأتمَّ عليهم نعمتك، وأنزل في قلوبهم سكينتك، وانشر عليهم فضلك ورحمتك.

اللهم عليك بالحكَّام الظالمين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا نسألك يا ربَّ العالمين، يا مَن أهلت ثمود بالطاغية، وأهلكت عادًا بريح صرير عاتية، خُذ هؤلاء الحاكمين الظالمين أخذة رابية، ولا تُبقي لهم من باقية.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم آمين.

ادعوا الله يستجب لكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبِّح له ما في السموات وما في الأرض، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير.

وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصبحه، ومَن دعا بدعوته واهتدى بسُنَّته وجاهد جاهده إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فيا أيها الأخوة المسلمون: يجب علينا عدة أمور:

الأمر الأول: دعوة إلى قنوت النوازل:

أدعو المسلمين، وخصوصًا أئمة المساجد أن يقنتوا قنوت النوازل، هناك قنوت معروف اسمه قنوت النوازل، حينما تنزل بالأمة نازلة، يدعون ربهم سبحانه وتعالى أن يكشف الغمَّة، ويفرِّج الكُربة، وينصر الأمة. فعلى أئمة المساجد أن يدعو الله، وعلى الأفراد المسلمين أنفسهم، وخصوصًا في الصلوات الجهرية، بعد الركعة الأخيرة يقف ويدعو الله عزَّ وجلَّ.

الأمر الثاني: صلاة الغائب على أرواح الشهداء:

إننا سنصلِّي صلاة الغائب على أرواح الشهداء، الذين سقطوا في معركة الحقِّ ضدَّ الباطل، والعدل ضدَّ الظلم في مصر وفي تونس، للأسف لم نصلِّ على شهداء تونس، ولكن الصلاة باقية، نصلِّي على شهداء مصر، وعلى شهداء تونس صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة.

ترحيب بتلاميذ القرضاوي:

ثم نبدأ اليوم ملتقى تلاميذ القرضاوي، هؤلاء التلاميذ الذين جاءوا من بلاد شتَّى، إلا إخواننا في مصر لم يستطيعوا أن يأتوا؛ لأن سفارة قطر التي يأخذون منها التأشيرة أغلقت أبوابها من عدَّة أيام، لأنها في منطقة ساخنة، عند مسجد مصطفى محمود، فالشباب معظمهم لم يستطيعوا أن يأتوا، فأنا أُحيِّي هؤلاء الشباب، وهم علماء، لا تظنُّوا أنهم شباب، هم أساتذة جامعات، ومؤلِّفين، وعلماء، ودعاة، أُرحِّب بهم، وسنبدأ اليوم في المساء حفلة الافتتاح في مركز التعريف بالإسلام (فنار).

مهرجان نصرة الثورة المصرية:

الأمر الأخير: بعد الصلاة هناك مهرجان خطابي، يتحدَّث فيه بعض الأخوة عن أحداث مصر وقضية مصر، أسأل الله تبارك وتعالى أن يؤيِّد مصر وأهلها برُوح من عنده، اللهم أيِّديهم برُوح من عندك، اللهم أمدَّهم بجند من جندك، اللهم احرسهم بعينك التي لا تنام، واكلأهم في كنفك الذي لا يُضام، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، واهدهم صراطًا مستقيمًا، وانصرهم نصرًا عزيزًا.

اللهم خذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تمهلهم، اللهم لا تمهلهم، اللهم إنك أمليت لهم ما أمليت، فخذهم الآن أخذًا أليمًا شديدًا، اللهم خذهم أخذًا أليمًا شديدًا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

اللهم يا كاشف الكربات، ويا مجيب الدعوات، ويا منزِّل الرحمات، ويا سميع الأصوات، نسألك أن تُعزَّ الإسلام والمسلمين، وأن تؤيِّد الحقَّ، ودعاة الحقِّ، اللهم آمين يا رب العالمين.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ