د. يوسف القرضاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

وبعد)

فإن الحاكم في نظر الشريعة الإسلامية وكيل أو أجير عند الأمة، يعمل لحسابها، وليس مسلَّطا عليها، وهو مسؤول أمام الله، وأمام الناس عن مصالح الأمة المادية والأدبية، كما قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"(1).

الإسلام يحمِّل الأمة في مجموعها مجاهدة الحاكم الظالم:

فإذا فرَّط الحاكم أو الإمام، أو انحرف عن أداء الأمانة والحكم بالعدل، فإن الأمة مسؤولة أن تنصح له، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتردعه عن ظلمه، وتُغيِّر المنكر الذي ظهر في المجتمع بما تقدر عليه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن رأى منكم منكرا فليغيِّره بيده، فمَن لم يستطع فبلسانه، فمَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (2) .

وروى مسلم أيضا، عن ابن مسعود مرفوعا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسنَّته، ويتقيَّدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل" (3). ومن هنا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مقاومة الحاكم الظالم من الشعب بما استطاع: (جهادا) في سبيل الله.

ومن هنا حمَّل الإسلام الأمة في مجموعها مسؤولية تقويم الحاكم، ومجاهدة الظالم؛ ليرتدع عن انحرافه وظلمه، وتغيير ما يمارسه من منكر، باليد أو اللسان أو القلب، حسب قدرته واستطاعته، وإلا نزل عقاب الله تعالى بالأمة كلِّها، الظالم والساكت على الظلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].

وروى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده"(4).

ولقد علمنا القرآن أن أعوان الظالم شركاؤه في الإثم، ولهذا جعل القرآن جنود فرعون مع فرعون، يؤثَّمون كما يؤثَّم، ويعاقبون كما يُعاقب، في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:40-42].

ولقد ظلم الحاكم في مصر، وطغى على الشعب، وضيَّع حقوقه، وأهدر حرماته، حتى تخرَّج الملايين ولم يجدوا لهم عملا يتعيشون منه، ولا يجد الشاب شقَّة يسكن ويتزوَّج فيها، في حين نرى فئات من الناس نهبوا أرض مصر، وسرقوا ثرواتها، لمجرَّد انتمائهم إلى الحزب الحاكم، أو قرابتهم من الحاكم، أو مصاهرتهم للحاكم، أو اشتغالهم في بلاط الحاكم.

كما زور الحاكم الفرعوني في مصر الانتخابات على كل مستوى: من مجلس الشعب، ومجلس الشورى والمحليات، إلى الانتخابات الرئاسية، وقد شاهد الناس التزوير على المكشوف في الانتخابات الأخيرة على أعلى مستوى.

ومكن جهاز أمن الدولة في مصر من التسلُّط على الشعب، فاختطف الناس من بيوتهم، وعُذِّبوا حتى مات منهم مَن مات تحت التعذيب، وحُوكم المدنيون محاكمة عسكرية، وعُوقب مَن عوقب بلا بينة، وقضوا في سجون الظلمة سنوات طوالا، وبعضهم حوكم أكثر من مرة، وسجنوا أكثر من مرة، وما سرقوا ولا قتلوا، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8، 9].

ولقد بلغ من عدوان هذا النظام وعتوِّه: أنه استعان بعتاة البلطجية والمجرمين في إفساد الانتخابات، ومنع الناخبين من الوصول إلى لجان الانتخابات، يضربون الناس بالسكاكين، ولا يبالون بمَن جرحوا أو قتلوا، فظهورهم محمية، كما استخدمهم في تخريب البلاد والممتلكات العامة والخاصة، أيام ثورة الشباب السلمية الرائعة، ثورة 25 يناير، حتى إنه سلط هؤلاء البلطجية المتمرسين بالإجرام على المواطنين المتظاهرين الشرفاء في ميدان التحرير، ليصطدم بعضهم ببعض، ويقتل بعضهم بعضا، وهذا دليل واضح على إفلاس النظام، الذي لا يبالي في سبيل بقائه أن يسفك الشعب بعضه دماء بعض.

إن المظالم والمنكرات والجرائم التي ارتكبها النظام الحاكم في مصر، قد طفح بها الكيل، وانتهت إلى انتفاضة الشعب المصري، التي تحوَّلت إلى ثورة عارمة، ثورة تاريخية لا مثيل لها، تسجَّل مع الثورات الكبرى في تاريخ الشعوب، اشترك فيها أبناء الشعب بكلِّ فئاته وأطيافه: الجماهير والنُّخَب، وأهل الريف والمدن، والرجال والنساء، والمسلمون والمسيحيون.

تشديد الإسلام في الخروج المسلح:

إن الإسلام يشدد في الخروج المسلح على الحاكم، ويشترط له شروطا، وذلك حتى لا يؤدي الخروج بالسلاح إلى فتنة عمياء، تسفك فيها الدماء، ولا يتحرر الناس من الحاكم الظالم.

أما ما دون ذلك من وسائل المقاومة فالإسلام يشرعها، بل يرحب بها، بل يوجبها على مَن يستطيعها، حتى تظل الأمة حية الضمير، قوية العزم، قادرة على أن تقول: لا. بملء فيها. وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (5) ، "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله"(6).

وسائل عصرية في المقاومة:

ولقد ابتكر عصرنا وسائل سلمية لمقاومة الحكَّام المستبدِّين والمتسلِّطين على شعوبهم، ومنها هذه الوسيلة الفعالة: وسيلة التظاهر السلمي، تقوم به الجماهير بالنزول إلى الشارع، والهتاف بمطالبها المشروعة، دون لجوء إلى أي عنف، وهي وسيلة ضغط معروفة في العالم كلِّه، وكثيرا ما تؤدِّي إلى سقوط الحكم الدكتاتوري رغم أنفه، دون طلقة نار، ولا سيَّما إذا تكاثر المتظاهرون وتكاتفوا.

ومن هنا ننادي جماهيرنا المؤمنة في مصر: أن تنزل بكثافة إلى الشارع في يوم الجمعة القادم (جمعة الحسم) والمسيرة الملايينية (4 فبراير 2011م)، للانضمام إلى سائر شعب مصر الغاضب، ليشارك في تكثيف الضغط على الرئيس المصري حسني مبارك، الذي فقد شرعيته، حيث ينادي أكثر من (90%) من شعب مصر بسقوطه، وكلَّما كثُر المتظاهرون كان ذلك أولى، لإجبار الرئيس على النزول مُكرَها على حكم الشعب.

النزول إلى الشارع يوم الجمعة واجب شرعا على كل قادر لا عذر له:

ولهذا كان النزول إلى الشارع - وخصوصا يوم الجمعة - للمشاركة في الاحتجاج: واجبا شرعا على كلِّ قادر على الوصول إلى أماكن التجمُّع، وليس له عذر يمنعه؛ لأن هذه وسيلة إلى التخلُّص من الفرعون، دون مزيد من الخسائر في الأرواح، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

النداء الأخير إلى الرئيس مبارك:

إننا لا نزال ندعو الرئيس حسني مبارك: أن يَدَع الغرور والكبرياء والمكابرة، ويستجيب لصيحات الشعب، ولا يعرِّض وطنه لمزيد من الاضطراب والخراب، وسفك الدماء: أكثر من (150) شهيدا، وأربعة آلاف جريح، وعدد من المفقودين أو المختفين. ويكفي الرئيس ثلاثون عاما من الحكم والتسلُّط والسلب والنهب، وإذلال الشعب، ولا داعي للألاعيب المكشوفة، مثل تسيير المظاهرات التي نراها تتكوَّن من عشرات الأفراد، أكثرهم من الشرطة السرية والمأجورين، في مقابلة المسيرات المليونية.

الجيش بيده سفينة الإنقاذ:

وإني لأحيي موقف الجيش المصري الباسل النبيل، الذي أثبت حقا أنه درع مصر، وحارسها وفخرها، والذي وقف في هذه المحنة موقفا سيكتبه له التاريخ بمداد من ذهب، مناديا بمبادئ ستة كلها مرضية عند الشعب، منها: أن حرية التعبير السلمي في الاحتجاج حقٌّ لكلِّ مصري، وأنه يتفهَّم مطالب الشعب المشروعة، وأنه لم ولن يستخدم القوة ضدَّ شعب مصر العظيم، وأنه يراقب الموقف حتى يستقر.

ولقد استقرَّ موقف الشعب على المناداة برحيل الرئيس، وأجمعت على ذلك المسيرات الشعبية الحاشدة، التي قدَّرتها بعض الجهات الأجنبية بثمانية ملايين في أنحاء مصر.

وإني لأرى أن الجيش هو الذي يستطيع أن ينقذ الموقف الآن، بتعيين رئيس مؤقَّت هو رئيس المحكمة الدستورية، حيث إن رئيس مجلس الشعب لا يصلح، لإجماع الشعب المصري، على أنه مجلس مزوَّر، على أعلى مستويات التزوير. وعلى الرئيس الجديد أن يكوِّن حكومة إنقاذ مختارة من سائر القوى تمثل اتجاه الأمة الجديد، كما تختار لجنة حكماء تضع مسودة دستور، إلى أن تنتخب جمعية تأسيسية.

نداء إلى علماء الأزهر وعلى رأسهم شيخ الأزهر:

وإني أنادي إخواني وأبنائي من علماء مصر، من خريجي الأزهر ودار العلوم وغيرهم: أن يشاركوا في مسيرات الاحتجاج في كلِّ محافظة بعمائمهم وزيِّهم، ويقودوا المسيرة السلمية، متمسِّكين بالوحدة الوطنية، داعين إلى حماية الكنيسة، من غيِّ الماكرين، الذين قد يلعبون على الفتنة الطائفية.

وإني أنادي كبار العلماء، وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية، على رأسهم فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وفضيلة مفتي الجمهورية: أن ينضمُّوا إلى الاحتجاجات السلميَّة، حتى لا يعدُّهم الناس ممَّن يسمِّيهم الناس: علماء السلطة، أو عملاء الشرطة! وليس يجوز في فقه الموازنات الشرعية: أن تجامل فردًا على حساب شعب، لا سيما وهو أقرب إلى الأموات منه إلى الأحياء.

وأنادي إخواني وأبنائي من خطباء المساجد في القاهرة وسائر المحافظات: أن يقودوا المصلِّين بعد الفراغ من صلاة الجمعة إلى أماكن تجمُّع المسيرات الشعبية، تضامنا مع إخوانهم، وشدِّ أزرهم، ويد الله مع الجماعة.

كما أنادي الجماهير العربية والإسلامية وأحرار العالم في كلِّ مكان: أن يُظهروا تضامنهم مع الشعب المصري المظلوم.

إني أحيي الشعب المصري العظيم، على وقفته الباسلة ضد الظلم والطغيان، وثورته المجيدة على علو فرعون وهامان.

وندائي إلى أبناء مصر الأحرار الأطهار، شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير: أن يثبتوا في مواقفهم، ولا يبالوا بما يدبِّر لهم النظام من مكايد ومؤامرات، وما يُرسل إليهم من بلطجية وشرطة سرية، يحملون أسلحة محرَّمة ... ولكنكم يا أبناء مصر قد خرجتم في مسيرتكم لإحدى الحسنيين: أن تعيشوا كرماء، أو تموتوا شهداء.

وسنَّة الله أن العاقبة للمتقين، وأن الهلاك والدمار للظالمين، ولكلِّ امرئ ما اكتسب من الإثم، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء:227].

إن أمتنا اليوم تكتب تاريخا جديدا، بل تصنع تاريخا جديدا، وطوبى لمَن أسهم معها بجهد، وويل لمَن تخلَّف عنها، أو وقف في سبيلها، وإن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟

(2 فبراير 2011م)

------------------------------

(*) نشر في صحف مصر، وفي صحف قطر، وغيرها.

(1) متفق عليه: رواه البخاري في الاستقراض (2409)، ومسلم في الإمارة (1829) كما رواه أحمد (4495)، وأبو داود في الخراج (2928)، عن ابن عمر.

(2) رواه مسلم في الإيمان (49)، وأحمد (11150)، وأبو داود في الصلاة (1140)، عن أبي سعيد الخدري.

(3) رواه مسلم في الإيمان (50) وأحمد (4379)، والبيهقي في الشعب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (7560)، عن ابن مسعود.

(4) رواه أحمد (29) وقال مخرجوه: إسناده على شرط الشخين، وأبو داود في الملاحم (4338)، والترمذي في الفتن (2168) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1973)، عن أبي بكر.

(5) رواه أبو داود (4344) والترمذي (2174) وابن ماجه (4011) ثلاثتهم في الفتن، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1100)، عن أبي سعيد الخدري.

(6) رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/195)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورده الذهبي بقوله: الصفار لا يدرى من هو. وصححه الألباني في الصحيحة (374)، عن جابر.