الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه، وبعد:
أيها الإخوة الأعزاء من أبناء الديانات الشرقية، خير ما أحييكم به تحية الإسلام، وتحية الإسلام السلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد)
زياراتي للهند:
فقد زرت الهند مرات عدة، وشاركت في الاحتفال بمرور 85 عاما على تأسيس ندوة العلماء بمدينة لكنهو، كما شاركت بالاحتفال بالعيد المئوي لجامعة ديوبند، واستمعت إلى كلمة الافتتاح من الرئيسة أنديرا غاندي، وجئت على رأس وفد لزيارة خاصة لعدد من المكتبات في حيدر آباد وبتنا ونيو دلهي وغيرها، كما زرت جامعة عليكرة، وحاضرت فيها أكثر من مرة، وكذلك الجامعة الملية الإسلامية في دلهي، والجامعة العثمانية في حيدر آباد، التي زرتها عدة مرات، كما زرت كيرالا أكثر من مرة، وحاضرت في جامعاتها، وحضرت احتفال افتتاح جامعتها الإسلامية، كما زرت أعظم كره (دار المصنفين) بها، وحضرت مؤتمر الإسلام والمستشرقين بها.
علاقة العرب والمسلمين بالهند:
وأحب أن أؤكد أن علاقة العرب والمسلمين مع الهند وشعبها علاقة قوية عريقة، قبل الإسلام وبعده، فقد عرف العرب البضائع الهندية ونسبوها إلى الهند، مثل السيف المهند، والمسك الهندي، والعود الهندي، والقُسط الهندي، والثياب الهندية، ومن الأسماء النسائية المشهورة لدى العرب: هند. وفيها يقول الشاعر:
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها سجية نفس كل غانية هند وقد وصل الإسلام الهند في عهد بني أمية، وحكم المسلمون الهند الكبرى عدة قرون، ولهم فيها آثار حضارية تشهد لهم، مثل: القلعة الحمراء، ومنارة قطب الدين، وتاج محل، وغيرها. ولهم فيها جوامع ومدارس وأوقاف كثيرة.
ولقد أقام الإسلام أيام ازدهاره، حضارة ربانية أخلاقية إنسانية عالمية، وسعت كل الملل والنحل، وكل الفلسفات والحضارات، وشاركت في بنائها كل الأمم الثقافات، والديانات، ومنها الأمة الهندية، والملة الهندوسية.
مكانة الهند في العالم:
إن الهند والصين وما حولهما من بلاد الشرق، تُعرف لدى الدارسين في العالم كلِّه بأنها منبع الروحانيات، ومنبت الحضارات، ومهد الحكماء والمتأملين في أسرار الوجود.
وللهند ثقلها في المجتمع العالمي، لعراقتها ومساحتها وكثافتها السكانية، كما أن المسلمين في الهند - حتى بعد التقسيم - لهم وزنهم وقيمتهم، فالهند فيها ثاني أكبر تجمع إسلامي في العالم بعد أندونيسيا، فلا يمكن للأمة الإسلامية أن تنساهم أو أن تتجاهلهم
وإنا لنرجو أن تحافظ الهند على صلتها القوية بالعالم العربي والإسلامي، ومناصرة قضاياه، ومنها قضية فلسطين، ومنها: الوقوف في وجه السيطرة الغربية، كتبني سياسة عدم الانحياز، والتعايش السلمي.
أعلام من الهند:
وقد خرَّجت لنا الهند - نحن المسلمين - أعلاما من العلماء، قدامى ومحدثين، أرخ لهم العلامة مؤرخ الهند الكبير الشريف عبد الحي الحسني، والد العلامة أبي الحسن الندوي، في كتابة الشهير (نزهة الخواطر). وقد قدم ابنه الأكبر الدكتور السيد عبد العلي الحسني بمقدمة ضافية، ذكر فيها عددا كبيرًا من أسماء الأعلام في الهند, من علماء وأدباء وشعراء وحكماء وأمراء وأصناف شتَّى.
كما عرف عدد من رجال العصر الحديث, منهم: مولانا أبو الكلام آزاد, ومحمد إقبال، وشبلي النعماني، وأبو الأعلى المودودي، ووحيد الدين خان، وآخرون من كبار علماء الهند شاركوا, بل قادوا حركة تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، مثل الشيخ محمود الحسن شيخ الهند، والشيخ حسين المدني رئيس جمعية علماء الهند، والشيخ قاسم نانوتوي مؤسس مدرسة دار العلوم في ديوبند، ,الشيخ عبد القادر اللدهيانوي، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، وغيرهم.
جهود علماء الهند في الحديث وعلومه:
ولعلماء الهند المتأخرين من عهد الإمام ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ), فضل على الحديث وعلومه, فقد عنوا به رواية ودراية, بعد أن كانوا محصورين في الفقه وكتبه, فقد جددوا معالمه ونشروا كتبه, وشرحوا كثيرا منها, شروحا مسهبة, كالموطأ وأبي داود والترمذي ومشكاة المصابيح وغيرها.
ولقد شهد لهم بذلك المجدد الكبير السيد محمد رشيد رضا في مجلة (المنار) المعروفة.
العلاقة مع أديان الهند القديمة:
هذا وقد أسَّس الإسلام علاقات وثيقة مع أديان الهند أو أديان الشرق الكبرى, مثل الهندوسية أو البوذية, وذلك منذ دخل الإسلام الهند في القرن الأول الهجري.
فقد عاملهم معاملة أهل الكتاب, وأقرهم على البقاء على دينهم, مع دفع مبلغ زهيد, مقابل أن يتكفل المسلمون بالدفاع عنهم , وكفالة عيش كريم لهم, ما داموا في ظل دولة الإسلام, ولم يكلفهم من الأعباء والواجبات ما له طابع ديني، مثل الجهاد والزكاة، وهو يحرم الاعتداء عليهم في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم أو أعراضهم من الداخل أوالخارج, وهم بهذا لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين, وفي هذه الحالة لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين, إلا ما اقتضاه الاختلاف الديني والعقدي.
لقد حكم المسلمون الهند الكبرى قرونا عدة، وكانت الأكثرية حولهم من الهندوس على طبقاتهم المتوارثة، من (البراهمة) وهم الطبقة العليا، إلى المنبوذين الذين هم في الطبقة السفلى، وفق التقسيم القدري المفروض عليهم، والملازم لهم من المهد إلى اللحد.
ولم يفكر المسلمون - خلال عهود حكمهم وسيطرتهم على الهند – وهم أصحاب القوة والسلطان: أن يكرهوا فئة أو فردا على تغيير دينه بالقوة، كما فعل كثيرون من أصحاب الأديان. وكيف والله تعالى يقول في قرآنه العظيم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، وعاتب رسوله قائلا: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
بل أعلن القرآن أن الله تعالى هو الذي شاء للناس أن يختلفوا في دينهم، ولو شاء سبحانه لطبعهم على دين التوحيد وطاعة الله تعالى كالملائكة، الذين وصفهم القرآن بقوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
ولا غرو أن قال القرآن الكريم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - أي جمعهم على الإيمان والتوحيد - وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119]، قال كثير من المفسرين: أي للاختلاف خلقهم، لأنه خلق لكل منهم عقلا يفكر به، وإرادة يرجح بها، وحاطه بمؤثرات شتى، تؤثر في اتجاهه وموقفه، فلا عجب أن تتغاير مواقفهم وأديانهم وسلوكياتهم.
دعوة الإسلام إلى السلم دعوة عالمية:
وأحب أن أقرر هنا: دعوة الإسلام إلى السلم دعوة عالمية عامة، تشمل الوثنيين على اختلاف مِللهم ونِحلهم، كما شملت أهل الكتاب. وأساس ذلك من مصادر الإسلام وتعاليمه:
أن الله تعالى أرسل نبيه محمد {رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وليس رحمة لأهل الكتاب دون غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فلا بد أن تشملهم هذه الرحمة العامة، كما شملت غيرهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
أن النصوص القرآنية والنبوية التي وضعت أُسس العَلاقات بين المسلمين وغيرهم جاءت عامة، لم تخصًّص بأهل الكتاب، بل الأصل فيها: أنها - غالبا - جاءت في شأن المشركين من العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام. كما يبدو ذلك واضحا في الآيتين الكريمتين اللتين وضعتا ما سمَّيناه في كتابنا (الحلال والحرام في الإسلام): دستور العَلاقة مع غير المسلمين، وأعني بهما قوله تعالى في سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9،8]، فهاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين من قريش ومَن والاهم، الذي عادوا الرسول والمؤمنين، وأخرجوهم من ديارهم، كما بيَّن ذلك أول السورة، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة:1].
وفي هذا السياق جاءت الآيتان المذكورتان في شأن هؤلاء المشركين. وقد صحَّ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تسأله عن أمها التي قدمت عليها من مكة بعد صلح الحديبية، وهي مشركة: أَتَصِلُها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم، صليها". وفيها وفي أمثالها نزلت الآية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ}.
ومن هنا نرى أن القرآن الكريم صنَّف غير المسلمين - وإن كانوا وثنيين - إلى قسمين:
مسالمين للمسلمين، لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم.
وغير مسالمين، بل قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا - أي عاونوا - على إخراجهم.
فالأوَّلون لهم حكمهم، وهو البرُّ لهم والأقساط إليهم، كما قال تعالى: {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، والبرُّ هو الإحسان وبذل المعروف للآخرين، والإقساط هو العدل. وقد اختار القرآن كلمة: {تَبَرُّوهُمْ}؛ لأن البرَّ يعبَّر به في الإسلام عن أقدس الحقوق بعد حقِّ الله تعالى، وهو برُّ الوالدين.
وإنما جاء تقرير هذا المبدأ بصيغة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}؛ لأن بعض الناس قد يتصوَّر أن الدين لا يقبل أن تعامل بالحسنى مَن يخالفك في الدين، فأراد النصُّ القرآني أن ينفي هذا الوهم من أذهان الناس، وأن هذا ليس موضع نهي.
وأما الصنف الآخر - الذين قاتلوا المسلمين في الدين وأخرجوهم من ديارهم ... إلخ - فهم الذين نهى الله تعالى عن الولاء لهم، إذ كيف يوالي المرء عدوَّه وعدوَّ دينه وعدوَّ أمته، ولذا قال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
أنني سعيد بهذه الندوة النافعة، التي تثبت علاقة التفاهم والتعارف والحوار والمودة بين أبناء الشرق، على اختلاف مللهم ونحلهم، وإني لأرجو لهذه العلاقة أن تنمو وتورق وتؤتي ثمارها وأكلها كل حين بإذن ربها.
وإننا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لنبارك هذا التوجه الإيجابي، ليعيش الجميع في رحاب إنسانية متآخية متواصية بالحق والصبر، متعاونة على البر والتقوى، تجاهد في سبيل الخير والسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أ. د. يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين