الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى.
أما بعد ...
فما لا ريب فيه أن كل المشفقين على مسار الأمة، وكل القوى والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، متفقون على أن أمتنا تعيش في أزمة حقيقية، تعددت أعراضها، وتنوعت آثارها، وإن اختلفوا في تعيين جوهر الأزمة: ما هو؟
أهي أزمة إيمان وأخلاق، كما يصورها دعاة الدين والفضيلة؟
أم هي أزمة فكر ومعرفة كما يصورها رجال الفكر والثقافة؟
أم هي أزمة حرية سياسية وديمقراطية، كما تصورها القوى المعارضة للنظم الحاكمة؟
أم هي أزمة علم وتكنولوجيا، كما يصورها كثير من دعاة الإصلاح، ومن رجال الفكر أنفسهم؟
لقد ردد كثيرون مع شوقي قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا!
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود علق على ذلك بقوله:
لولا خشيتي سوء التأويل لعارضت شاعرنا، لأقول له: وإنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن هم انعدمت علومهم وصناعهم وتقنياتهم، تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف يُضغط على الأزرار ومتى.
وآخرون قالوا: إنما الأمم الأفكار والثقافة.
وغيرهم قالوا: إنما الأمم الحرية لوطنها، والحقوق لشعبها.
والأولى من ذلك أن ندع وحدانية التعليل والتفسير، إلى الشمول والتعدد.
إن «التفسير الواحدي» للتاريخ وللواقع لم يعد مقبولًا، لأنه يبصر الحقيقة من زاوية واحدة، ويغفل زواياها الأخرى، وهو يبسط الأمور المعقدة والمتشابكة. إن نهضة الأمم تؤثر فيها الثقافة، كما تؤثر فيها السياسة والاقتصاد والتشريع والتربية وغيرها.
ومهما يكن الاختلاف في تحديد جوهر الأزمة، فأحسب أنه لا يخالف أحد في أهمية دور الثقافة فيها، وخصوصًا الجانب الفكري والأدبي والفني منها. وذلك لما لها من تأثير في الأخلاق والسلوك، ومن تأثير في السياسة والحكم، وتأثير في توجهات الشعوب إلى التقدم أو التخلف، إلى العلم والعمل، أو إلى الكلام والجدل.
فلو صحت ثقافة أمة واستقامت، وتكلمت وتوازنت وسلمت من عوامل التشويه والتحريف - كما هو الأصل في ثقافتنا - لكان لها أثرها البالغ في صحة توجه الأمة واستقامتها وتكاملها وتوازنها، وإذا حدث العكس كانت النتيجة عكسية، لأن الثمرة من جنس الشجرة. وصدق الله إذ يقول: {وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا} (الأعراف:58) .
أما قضية «الأصالة والمعاصرة» في ثقافتنا فهي قضية قديمة جديدة، فمنذ كنا طلابًا صغارًا، ونحن نقرأ ونسمع ونتابع أنباء صراع فكري أدبي محتدم بين تبارين متعارضين يعبر عن أحدهما بـ «القديم»، ويعبر عن الآخر بـ «الجديد».
ومما قرأناه من آثار هذه الحرب التي تسل فيها الألسنة لا الأسنة، وتشحذ فيها الأقلام لا السيوف: كتاب «تحت راية القرآن» أو «المعركة بين القديم والجديد» لأديب العربي والإسلام مصطفى صادق الرافعي، الذي شن فيه الغارة على الدكتور طه حسين وكتابه عن «الشعر الجاهلي» وفيه سخر الرافعي من هؤلاء «المجددين» الذين يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!
ومما قرأناه شعرًا من آثار هذه المعركة قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة عن «الأزهر» مشيرًا إلى الغلاة من دعاة التجديد، وأعداء القديم:
دع عنك قول عصابة مفتونة يجدون كل قديم أمرٍ منكرًا!
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمرا!
من كل ساعٍ في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصّرا!
وأتى الحضارة بالصناعة رنّةَ والعلم نزرا، والبيان مثرثرا!
كما قرأنا قول «إقبال» عن هؤلاء المجددين: إن جديدهم هو قديم أوروبا. كما ذكّر هؤلاء بأن الكعبة لا تجدد، ولا تستجلب لها حجارة من الغرب! واستمرت هذه المعركة بين التيارين المتضادين، ظاهرة حينًا، وخفية في معظم الأحيان، يشتعل أوراها كلما ظهر كتاب بالغ الجرأة، أو نشرت مقالة كذلك، وتخبو جذوتها كلما مضت الحياة على وتيرتها المعتادة.
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه، وكان يمثل الدفاع عن التيار الأول: رجال الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي، ومن دار في فلكهم في مصر، وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية.
وكان يمثل التيار الآخر: خريجو المدارس والكليات الأجنبية في الداخل، وخريجو الجامعات الغربية والوافدون من الخارج، ومن تتلمذ عليهم، وحطب في حبلهم، ولا ريب أنه وجد غلاة في كلا الفريقين. ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر، وجد الجامدون على كل قديم، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك، وسير التاريخ، شعارهم: ليس في الإمكان أبدع مما كان! وضاع الوسط بينهما.
وقد لخص الموقف علامة الشام محمد كرد علي في بحثه «القديم والحديث» بقوله: ها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، والأمة شطران: شطر هو إلى البلاهة والغباوة، وشطر إلى الحمق والنفرة. وبعبارة أخرى: نسينا القديم، ولم نتعلم الجديد! كانت عناوين النزاع بين التيارين تختلف من فترة لأخرى، ولكن المضمون في النهاية واحد، إلا أن التيار الأول يحمل في الغالب عنوانًا منقرًا مستنكرًا، على حين يحمل التيار الآخر عنوانًا جذابًا مغريًا.
تجد ذلك بيًنًا واضحًا في العناوين التي استخدمت في التعبير عن هذا الصراع: القديم والجديد، التقليد والتجديد، المحافظة والتحديث، الجمود والتحرر، الرجعية والتقدمية، حتى انتهى أخيرًا إلى العنوان السائد اليوم، الذي يحمل ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل، وهي ثنائية التكامل، لا ثنائية التضاد والتقابل، وهو «الأصالة والمعاصرة»، وفي وقت ما عبر عنه بـ «الأصالة والتجديد». وقد قدمت فيه دراسات، ونظمت ندوات وحلقات.
وبحثنا هذا يتحدث عن «ثقافتنا العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة»؛ هكذا حدده لي الإخوة الزملاء في كلية «الإنسانيات والعلوم الاجتماعية» بجامعة قطر، الذين خططوا لهذه الندوة الفكرية العلمية، التي تدور بحوثها حول هذا الموضوع المهم: «الثقافة العربية: الواقع وآفاق المستقبل».
ولا ريب أن قضية «الثقافة العربية» قضية بالغة الأهمية، ولا غرو أن عقدت حولها عدة ندوات، ومؤتمرات في أكثر من بلد، تبحث في جانب أو أكثر من جوانبها المتعددة.
ويبدو أن الإخوة الزملاء أرادوا إرضائي أو إغرائي، فجعلوا عنوان بحثي على وجه الخصوص: «الثقافة العربية الإسلامية» ... إلخ. ولم يكتفوا بوصف العربية وحده، فهل يمكن أن تكون ثقافتها عربية غير إسلامية؟
هذا ما ينبغي أن نبحثه هنا: ماهية ثقافتنا: أهي عربية أم إسلامية؟ أم هما معًا؟
وما مكونات هذه الثقافة وخصائصها؟
وما معنى هاتين الكلمتين اللتين اشتهرتا على الألسنة والأقلام، ورددهما الناس هنا وهناك، دون تحديد بين لمفهومهما: الأصالة والمعاصرة؟
وما المقصود بهما في نظرنا نحن المؤمنين برسالة الإسلام، وخلود دعوته، وبقاء أمته، واستمرار كتابه - بلسانه العربي المبين - محفوظًا، كما وعد الله: {وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (الكهف: 98) .
هذا ما نرجو الله - تباركت أسماؤه - أن يوفقنا بفضله إلى إلقاء شعاع من ضوء، محاولة لإزاحة الضباب والغبش عنه، بقدر جهدنا الكليل، وزادنا القليل. وسنقسم دراستنا هذه إلى أربعة فصول وخاتمة.
{وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (هود: 88)
الدوحة: رمضان سنة 1413هـ ، مارس 1993م
يوسف القرضاوي