الجويني.. إمام الحرمين بين المؤرخين: الذهبي والسبكي

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه أئمة الهدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.

أما بعد ...

فإن أمتنا أمة غنية بأعلامها المتميزين، وشخصياتها الفذة، التي كان لها أثرها في شتى جوانب الحياة، علمية وعملية، وروحية ومادية، ولا ريب أن التاريخ لهذه الشخصيات المؤثرة في مجال الدين والدنيا هو جزء مهم من التاريخ العام لهذه الأمة، فليس التاريخ هو تاريخ الدول والممالك فحسب، ولا تاريخ الملوك والأمراء رجال الملك والسياسة فقط، كما يتصور الكثيرون أو يصورون. بل تاريخ الأفراد والأفذاذ أيضًا، الذين ماتوا ولم تمت آثارهم، وقد قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه: «مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة».

وقال الشاعر:

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم      وعاش قومٌ وهم في الناس أموات!

ولقد عنيت أمتنا بتاريخ هؤلاء الأموات الأحياء عنايةً بالغةً، فعرفت كتب التراجم والطبقات لمختلف الأصناف والفئات، من: الفقهاء، والأصوليين، والحفاظ، والمحدثين، والقراء، والمفسرين، والنظار، والمتكلمين، والزهاد، والمتصوفين، والحكماء، والمتفلسفين، والنحويين، واللغويين، والشعراء، والأدباء، والخلفاء، والأمراء، والكتاب، والوزراء، والفلكيين، والأطباء، والفيزيائيين، والرياضيين، والكيمائيين، والجغرافيين، وغيرهم من الفئات والأصناف.

بل كثيرًا ما تنوعت كل فئةٍ من هذه إلى طبقات، مثل: الفقهاء، فهناك لكل مذهب طبقات مثل: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم. وهناك من يؤرخ لأهل قرن معين كالمئة السابعة أو الثامنة ... إلخ.

وهناك من كتب كتابًا في سيرة علم واحد، كمَن صنَّف في سيرة عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، أو الحسن البصري، أو أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو ابن حنبل، أو ابن المبارك، أو البخاري.

وهناك مَن يجمع في كتابه أعلامًا من كل التخصصات، وكل الطبقات.

ويلاحظ الدارس لتراثنا العريض: أن كثرة الأعلام والأعيان البارزين في تاريخنا، ينبئ بخصوبة هذه الأمة، وأن أرحامها ولادة للنوابغ.

ومن نظر في القرن الخامس وحده وجد فيه عددًا هائلًا من الأعلام، كما نرى ذلك في كتاب مثل «أعلام النبلاء» للذهبي، فقد ترجم لأعلام القرن الخامس، فكانوا ثمانية وتسعين وثمانمائة (898) في الأجزاء: (17، 18، 19). وهم الذين أفردهم بالترجمة، وقد ذكر في أثناء ترجمة هؤلاء أعلامًا آخرين كثيرين، أشار إليهم إشارةً، ولم يفرض لهم ترجمة.

وعند ابن العماد الحنبلي في كتاب «شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب» عدد أكبر مما ذكره الذهبي بكثير، وهذا رغم ما كانت تعاني منه الأمة من فتن وأزمات في الناحية السياسية وغيرها، مثل حكم العبيديين «المعروفين باسم الفاطميين» في المغرب ومصر، وما لهم من شذوذات وانحرافات كبيرة عن العقيدة الإسلامية، وحكم بني بويه وظهور الباطنية والقرامطة في المشرق وبغداد، مما مهد لحروب الفرنجة، التي عرفت بعد ذلك باسم «الحروب الصليبية». برغم ذلك ظلَّت الأمة تنجب، والمدارس العلمية تخرج، والقافلة تسير.

أقول هذا بمناسبة الحديث عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (419 - 478 هـ) في الصفحات التالية.

ولا بد لمن يؤرخ لشخصية علمية لها وزنها وقدرها أن يرجع إلى ترجمتها في كتب التراجم والطبقات؛ ليتعرف عليها عن كثب، عن طريق قراءة سيرتها ومسيرتها، وشيوخها وتلاميذها، وما أثر فيها من أحداث، وما عاصرت من شجون، وما أثر عنها من مواقف، كما يتعرف عليها من خلال آثارها العلمية المعبرة عن وجهتها وأفكارها.

وإمام الحرمين الذي نحتفي اليوم به في جامعة قطر - بمناسبة مرور ألف عام على مولده - قد عني به أهل التراجم؛ لطول باعه في العلم، وسعة المساحة التي أثر فيها، وكثرة الذين استفادوا منه، وتميز شخصيته في عصره وما بعد عصره في علوم جمعت بين العقل والنقل، مثل: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف.

وإذا كان أبو الطيب المتنبي قد قيل عنه: رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، فكذلك إمام الحرمين، بيد أن المتنبي شغلهم في ميدان الشعر والأدب، وإمام الحرمين شغلهم في ميدان العلم والفكر.

ولقد أحال محقق «سير أعلام النبلاء» للذهبي في هامش ترجمة إمام الحرمين على أكثر من ثلاثين مرجعًا تحدثت عن الرجل، منها المسهب، ومنها المقتصد، ومنها المقتصر، ولكني في هذه العجالة سأكتفي بالتركيز على ترجمتين، أعتقد أنهما متميزتان لهذا الإمام، وإنما اخترتهما لتباينهما في الاتجاه والموقف من هذا الإمام الكبير.

أما الأولى: فهي ترجمة «مؤرخ الإسلام» الحافظ شمس الدين الذهبي «ت748هـ» صاحب التصانيف والموسوعات في علم الرجال والتاريخ، وذلك في كتابه «سير أعلام النبلاء».

والثانية: ترجمة العلامة المتكلم الفقيه الشافعي تاج الدين السبكي (ت771هـ) الذي علق بعنف على ترجمة الذهبي، وذلك في كتابه: «طبقات الشافعية الكبرى».

وسأقارن بين الترجمتين بموضوعية وإنصاف ما استطعت، سائلًا الله تعالى أن يوفقنا لخدمة ديننا، والرقي بأمتنا، والوفاء بحق علمائنا وأعلامنا، وأن يغفر لنا زللنا، ويرزقنا الإخلاص في قولنا وعملنا، وأن يتقبلنا ويقبل منا. إنه سميع مجيب.

 

الدوحة في ذي الحجة 1419هـ                                    الفقير إلى عفو ربه

إبريل 1999م                                                           يوسف القرضاوي