د. محمد الصغير

بني الإسلام على خمسة أركان كما جاء في الحديث المشهور "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) رواه البخاري ومسلم.

هذه أعمدة الإسلام التي يقوم عليها صرحه، وأساسه الذي يحمل باقي ما تتم به صورته، وتعتبر فريضة الزكاة بشروطها وتقسيماتها مما تفرد به الدين الحنيف، وما هُديت البشرية مع تقدمها فيما تنشده من تكافل اجتماعي، وما تسنه لذلك من قوانين وتشريعات إلى ما يقارب الصورة الكاملة التي نزلت قبل أكثر من أربعة عشر قرنا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وقتت الوقت، وحددت الأنصباء، وعينت مصارف المستحقين من المحتاجين والفقراء، بنظام دقيق معجز، وأساس متين محكم، تنزيل من حكيم حميد.

غطت الزكاة الجانب الاجتماعي وجعلت التكافل بين الناس ركنا وفرضا، وليس منة وفضلا: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

مال الزكاة حق الفقير الذي جعله الله في مال الغني، وهو من جملة ما اختبره الله به في نعمة المال (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

لاسيما وأن النفوس جبلت على حب المال، وطبعت على كنزه، مع الشح الذي لا تنجو منه إلا النفوس الكريمة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

وأينما ذُكرت الصلاة قُرنت بها الزكاة لا تنفك عنها، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

لذا قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه قولته المشهورة عند قتال من امتنع عن أدائها: "لا يُنتقص الإسلام وأنا حي، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" وسُميت معاركه مع مانعي الزكاة بحروب الردة، وكم من ردة الآن ولا أبا بكر لها!

مانع الزكاة له يوم القيامة عذاب خاص

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). رواه البخاري.

الزكاة عبادة سنوية كالحج والصوم، لكن يجوز تعجيلها قبل وقتها عند حاجة الناس إليها، لاسيما في أوقات القحط أو زمن الجوائح والطواعين، وعندها يكون التعجيل أعظم أثرا، وأكبر أجرا، قال رسول الله (ﷺ): «العبادة في الهَرْجِ كهجرة إلي». رواه مسلم

قال الإمام النووي: والمراد بالهرج هنا الفتنة وانتشار الخوف، واختلاط أمور الناس.

‏وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة من عمه العباس بن عبد المطلب قبل موعدها بعام لحاجة الناس إليها، وقال لعمر بن الخطاب: "إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام" رواه الترمذي.

فقه الزكاة

وقد تناول الإمام يوسف القرضاوي فقه الزكاة، وما يتعلق بهذه الفريضة من كل جوانبها، واستوعب أبوابها تفصيلا وتحقيقا، واجتهد فيما جَدَّ من صور لم تكن في عصر الأوائل، وأسفر هذا الجهد الكبير، عن سفر عظيم في مجلدين، قال عنه الشيخ محمد الغزالي: "لم يؤلف في الإسلام مثله في موضوعه" وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي: "هذا كتاب القرن الرابع عشر في الفقه الإسلامي" ووصفه الأستاذ محمد المبارك بقوله: ". وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويعتبر حدثا هاما في التأليف الفقهي".

ولا غنى لطالب العلم، أو المتصدر لتعليم الناس عن مطالعته ومدارسته، وسأعرض للمحات سريعة في عبارات مختصرة لشيء مما جاء فيه من باب التعريف والتأليف.

أولا. زكاة الزرع: جمهور الفقهاء على أن الزكاة في الزروع والثمار تكون فقط فيما يقتات ويدخر، أي ما يؤكل ويصلح للتخزين كالقمح والأرز والعدس والبقوليات، واختار الشيخ القرضاوي رأي الإمام أبي حنيفة في أن الزكاة في كل ما أخرجت الأرض لعموم الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ).

لاسيما وأن محصول فدان واحد من الفواكه أو التوابل ربما تزيد غلته على عدة فدادين من القمح أو الشعير.

ثانيا. التجارة: رجح الإمام القرضاوي أن زكاة عروض التجارة تحسب على الربح ورأس المال معا ويُخرج عنهما 2.5 %.

ثالثا. الذهب والفضة: زكاة الفضة حددها الحديث النبوي: "في الرِّقة ربع العشر" ونصابها مائتا درهم أي ما يساوي 595 جرام تقريبا، ويخرج عنها ربع العشر، أما الذهب فنصابه عشرون مثقالا، وهو ما يعادل الآن 85 جرام من الذهب يخرج عنها نصف دينار وهو ربع العشر أي 2.5 %.

ثالثا. المعادن والكنوز المدفونة والنفط: أخذ الإمام القرضاوي فيها جميعا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (في الركاز الخمس) والركاز ما كان في بطن الأرض، وقاس عليه ما يستخرج من البحر كاللؤلؤ، أو ما يصاد من السمك وتبلغ قيمته ما يساوي النصاب .

رابعا. العسل: اختار الشيخ القرضاوي أنه تجب فيه الزكاة، وتكون من صافي إيراد العسل بعد التكاليف، ويقدر نصابه بما يساوي خمسين كيلة من القمح أو الشعير مثل نصاب الزروع.

خامسا. العمارات والمصانع: ذكر فيها الشيخ القرضاوي ثلاثة آراء، ورجح رأي الشيخ محمد أبو زهرة وهو أن الزكاة تؤخذ من إيراد هذه الأشياء بقيمة العشر أو نصف العشر قياسا على الأرض الزراعية مع خصم مقابل الصيانة.

سادسا. الرواتب والمكافآت: للشيخ القرضاوي في هذه المسألة نفس طويل، وبحث كبير لا غنى عن مطالعته، وما استخلصته أن الأطباء والمحامين وأمثالهم يدخل لهم أحيانا من الرواتب أو المكافآت ما يساوي النصاب وهو 85 جرام من الذهب، فيجب عليهم أن يخرجوا عنه الزكاة عند قبضه قياسا على زكاة الزروع والثمار وحماية للفقراء من تصرفات المسرفين (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

وإذا كانت هذه الرواتب لا تبلغ نصابا، تُضم إلى ما عنده من أموال أو تجارة ويزكيها معها عند نهاية الحول.

عند مطالعة "فقه الزكاة" ستدرك أن إنتاج الإمام القرضاوي في التأليف لو اقتصر على هذا السفر الفريد، لحصّل به رتبة الأئمة المجتهدين، والمصلحين المجددين، فما بالك وقد بلغت موسوعة القرضاوي مئة مجلد في شتى صنوف العلم والفقه والفكر ، وقريبا بإذن الله ستكون بين أيدي أهل البحث والدرس، وطلاب العلم والمعرفة، متع الله شيخنا الإمام بالعافية، ونفع بعلومه المسلمين.

.................

- المصدر: الجزيرة مباشر، 10-4-2020