د. وصفي عاشور أبو زيد

صدرت مؤخرًا موسوعة الأعمال الكاملة لشيخنا الإمام يوسف القرضاوي في 105 مجلدات كبيرة، تضمنت حصاد الإنتاج العلمي والمنجز الشرعي والفكري والدعوي الذي خلَّفه الشيخ الإمام، وتعب عليه طوال عمره، وأفنى فيه حياته، وإن ما أنشأه من مؤسسات وهيئات ومجالس واتحادات وجمعيات لا يقل عن هذا العمل العظيم الذي أطل على الدنيا الآن، وأشرقت بنوره، وهو به يَصفُّ نفسَه مع العلماء أصحاب المؤلفات الكبرى في تاريخ الأمة، من أمثال: ابن الجوزي، وابن القيم، والسيوطي، والشوكاني، واللكنوي، وغيرهم.

ولقد آتى الله إمامنا القرضاوي موهبة الكتابة والخطابة معًا، فهو يكتب كما يخطب، وكم أشبع المكتبات بالكتب، كما هزَّ أعواد المنابر وقلوب الناس بالخطب؛ حيث إن الناس في هذا المعنى أنواع وأصناف: فمنهم من آتاه الله موهبة الكتابة لكنه لا يحسن الخطابة، ومنهم من آتاه الله الخطابة ولا يحسن الكتابة، ومنهم من لا يكتب ولا يخطب، ومنهم من جمع الله له بين الميزتين، وقد جمع الله للإمام القرضاوي هاتين الخصلتين كما تجتمع للعلماء القليلين على مرّ تاريخنا.

محاور الموسوعة

وقد توزّعت موسوعة الأعمال الكاملة على 13 مجالا:

    الأول: التعريف العام بالإسلام، وفيه: ستة مجلدات.

    الثاني: العقيدة، وفيه: أربعة مجلدات.

    الثالث: الفقه وأصوله، وهو أكبرها كما هو معلوم ومفهوم، وفيه: ثلاثون مجلدا.

    الرابع: في الفتاوى، وفيه: سبعة مجلدات.

    الخامس: في القرآن وعلومه وتفسيره، وفيه: ثمانية مجلدات.

    السادس: في السنة النبوية وعلومها، وفيه: ستة مجلدات.

    السابع: في فقه الأمة ودعوتها وصحوتها وحركتها الإسلامية، وفيه: سبعة مجلدات.

    الثامن: في التاريخ والشخصيات الإسلامية، وفيه: أربعة مجلدات.

    التاسع: في الشعر والأدب والحوار، وفيه: ثمانية مجلدات.

    العاشر: في سلسلة "نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام"، وهي شرح الأصول العشرين للإمام حسن البنا، وفيه: مجلدان.

    الحادي عشر: في خطب الجمعة، وفيه: 13 مجلدا.

    الثاني عشر: في المحاضرات، وفيه ثمانية مجلدات.

    الثالث عشر: في رسائل ترشيد الصحوة، وفيه: مجلدان..

فيكون المجموع 105 مجلدات كبيرة، جاءت في 72 ألف صفحة!! بحيث لو وُزعت على عمر الإمام من أوله إلى آخره لكان الإنجاز كل يوم ثلاث صفحات!

ملمح الموسوعية

إنّ المتأمل في عناوين هذه المحاور فقط -العناوين فقط، ولا أقول عناوين الكتب داخلها ولا مضامين هذه الكتب- لا يخامره شك في أن الإمام القرضاوي كان موسوعيًّا بيقين. تأمل فقط العناوين، واسأل نفسك: هل هناك مجال في الإسلام لم يكتب فيه القرضاوي؟ بالتأكيد لا، العقيدة والشريعة والأخلاق والاقتصاد والسياسة والفقه والأصول والفتوى والمقاصد والقرآن والسنة والتاريخ والحضارة والتراجم والصحوة والدعوة والحركة والفكر الإسلامي واللغة والأدب والخطب والمحاضرات؛ فضلا عن التعريف العام بالإسلام الذي جاء وحده في ستة مجلدات؛ كتب القرضاوي في هذا كله بحيث تجد فيه رؤية شاملة للإسلام، وتجد في كل محور منها: إقامةَ الحجة، وبيانَ الدعوة، ودفعَ الشبهة، بما يمثل مشروعًا فكريًّا إصلاحيًّا تغييريًّا تجديديًّا وسطيًّا شاملاً، للإسلام في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، أو العشرين والحادي والعشرين الميلاديين.

وقد يجنح العالِم -إذا كتب في أكثر من مجال- إلى السطحية في التناول والخفة في الأفكار، ويتميز في جانب أو اثنين فقط دون بقية ما كتب فيه، أما ما كتبه الإمام القرضاوي في هذه المحاور جميعا؛ فهو يعبر عن عمق في التناول، وتجديد في الأفكار، والتحام بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، واستقاء منها مباشرة، بحيث إذا قرأه الأستاذ المتخصص ظن أن الشيخ أحد أساتذة هذا المجال، وأنه لم يتفرغ في حياته لغيره، مع قوة في الفكرة، وأدب شائق في العرض، وبسط في العبارة، وجمال في الأسلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الآفاق المرجوّة والمشروعات المأمولة

وأمام هذا العمل التاريخي الذي لا نعرف له نظيرا في القرن الماضي لعالِم من علماء الأمة، لا ينبغي أن يمرّ هذا الحدث مرور الكرام، بل لا بد أن تكون هناك أفكار تُطرح لاستثمار هذا العمل الجليل، وبيان أوجه الإفادة منه وتعظيم قدره وقيمته، لتعميم نفعه على العلماء بوجه أخص، وطلبة العلم خاصة، والمسلمين عامة، ومما أقترحه في هذه السبيل الآتي:

أولا: عقد احتفالية كبرى يحضرها رموز الأمة في الفكر والعلم والدعوة والتاريخ والحضارة، ويدعى لها بعض رموز السياسة من الزعماء والأمراء والوزراء، وقادة الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية التي استفادت من الشيخ فكريًّا وميدانيًّا.

ثانيا: إقامة ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاشية متخصصة حول كل محور من محاور الموسوعة؛ لبيان ما تضمنته من أفكار، وما حملته من جديد، وما يؤخذ عليها من أمور، فالعلم يتجدد بتناوله وبيانه ونقده.

ثالثا: إقامة حلقات فضائية عن الموسوعة ومحاورها، كل محور يتحدث فيه المختصون فيه وأساتذته، ويكون هناك حشد تلفزيوني كبير في قنوات مؤثرة متنوعة، بحيث يصل صدى هذا العمل الجليل إلى المشارق والمغارب.

رابعا: إصدار الموسوعة بأكثر من صيغة بعدما صدرت ورقيًّا بحمد الله؛ فلتعميم النفع بها ينبغي أن تصدر بصيغة "بي دي إف" (PDF)، وبصيغة المكتبة الشاملة المطابقة للمطبوع، وبصيغة برنامج "قرص مدمج" أيضا مطابق للمطبوع، ويُصنَّف بشكل موضوعي ونصي، ويتاح فيه البحث بإمكاناته المختلفة؛ ليعمّ بها النفع، وتتاح للجماهير التي تتوق إليها، ولا سيما في البلاد التي تَمنع تراث القرضاوي وسيرة القرضاوي.

خامسا: استخلاص موضوعات لدراسات الماجستير والدكتوراه والبحوث المحكمة من كل محور من محاور الموسوعة؛ فما أكثر ما كُتب عن الإمام القرضاوي، وما أكثر ما تحتاجه هذه الموسوعة من كتابات ورسائل وأبحاث.

سادسا: ترجمة الموسوعة للغات الدنيا الحية؛ كي يتاح للبشرية أن تطالع هذا التراث العظيم، وهذا الإنتاج الوفير، فترجمته تُعظّم الفائدة منه، وتضاعف أوجه النفع والانتفاع به.

سابعا: العمل على تهذيب واختصار الموسوعة؛ فمن المعلوم لقارئ كتب الإمام القرضاوي أنه يبسط في العبارة بسطًا ملحوظًا، قد يكون طويلاً في بعض الأحيان، وهو أديب شاعر، كما أنه يُكرر ما يقول في بعض المواضع بما يقتضيه المقام، فهذا كله يحتاج إلى تهذيب واختصار؛ تقليلا لهذا الحجم الكبير، وأملا في أن يكون أكثر إتاحة للعلماء وطلبة العلم، من حيث الحجم ومن حيث السعر.

ثامنا: عقد دورات تدريبية وتعريفية بالموسوعة ومحاورها، وطرق الإفادة بها ومنها، وتنشر هذه الدورات على المنصات الإعلامية المختلفة؛ تعريفا بها، وبيانا لطرق الإفادة منها والانتفاع بها، وتشويقا لها، وتسويقا لمضامينها؛ وذلك لمزيد من الإقبال عليها وقراءتها والبحث فيها.

تاسعا: إقامة مسابقة بحثية عالمية في تراث الشيخ الإمام، كل عام تتناول موضوعا، تُرصد لها أعلى الجوائز المالية، وبهذا تظل الموسوعة حاضرة وفاعلة، ومحل بحث واهتمام من الباحثين والعلماء.

عاشرا: إنشاء جامعة عالمية، وإطلاق معهد عالمي لإعداد الدعاة، كلاهما "أونلاين"؛ لتدريس كتب الشيخ الإمام في المجالات الإسلامية المختلفة التي تمثلها الموسوعة ومحاورها؛ توريثا للأجيال، وتجديدا للمفاهيم، وتعميقا للفكر، وترسيخا للوعي الذي تمثله هذه الموسوعة الكبرى.

تلك عشرة كاملة، تستحقها هذه الموسوعة، وأكثر منها، بوصفها عملا فريدًا، يمكن أن نسميه "عمل القرن" أو "موسوعة القرن"، وهي بعض الوفاء للشيخ الإمام، قيامًا بحقه على تلاميذه وعلى الأجيال التي يجب أن تتعرف إلى مسيرة القرضاوي، والمنجز الفكري للقرضاوي. رحم الله إمامنا، ونفعنا والأمة والإنسانية بعلومه، ورفعه مقاما عليًّا.

.....

- المصدر: الجزيرة نت، 4-7-2023