السؤال: يحثُّ الإسلام على العمل، ويدعو القرآن إلى العلم، ولكننا نجد في عصرنا الحاضر من المسلمين على عكس ذلك، بل نحن متأخرون من الناحية العملية والعلمية والابتكار، في حين أن الغرب سبقنا في هذا الميدان، والدليل التقدم العلمي الذي ينعم به الغرب، فما تفسير ذلك؟
جواب سماحة الشيخ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
الذي يسأل عنه هذا الشاب المسلم أمر واقع، وهو أن المسلمين -للأسف- أصبحوا في مؤخرة الأمم، من ناحية الابتكار والاكتشاف والاختراع، وتأخرهم هذا أمر عارض في الحقيقة، ليس لطبيعة الإسلام الذي يدينون به، وليس لطبيعة الأمم التي تدين بالإسلام، بعض الناس يريد أن يأخذ من هذا التأخر حجة أو دليلًا على أن هذا التأخر من الإسلام نفسه، ويريد أن يتهم الإسلام بهذا، هكذا يرى بعض الناس من المستشرقين أو المبشِّرين المتحاملين منهم، وهناك آخرون يريدون أن يجعلوا هذا التأخر طبيعة لهذه الأمم نفسها، وأنها أمم متخلِّفة، وكلا الأمرين غير صحيح.
مقومات الحضارة الإسلامية:
أما الإسلام فهو -كما يقول الأخ- يدعو إلى العمل، ويدعو إلى العلم، ويدعو إلى كل مقومات الحضارة، وكل مقومات النهضة، التي تحتاج إليها الأمم القوية، وتحتاج إليها الحضارات، كل هذه المقومات يدعو إليها الإسلام.
التخصصات العلمية:
إذا كانت الحضارة تحتاج إلى علم؛ فأظن الكلام في أمر اهتمام الإسلام بالعلم معادًا، ويكفي أن نقول: إن أول آية نزلت في القرآن الكريم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)، وليس هناك كتاب مثل القرآن رغَّب في العلم، وحث عليه، وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر:9)، القرآن هو الذي أشاد بالعلم وبالعلماء، وأمر بالنظر والتفكير، وجعل التفكير فريضة وعبادة، أُمرنا به كما أمرنا بالصلاة والصيام، فقد أمرنا بالنظر والتفكرفي آيات كثيرة من القرآن: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)، { أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام:50)، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الأعراف:185)، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (يونس:101).
ولذلك قال العقاد رحمه الله: التفكير فريضة إسلامية. وألف كتابًا بهذا العنوان: "التفكير فريضة إسلامية"، وفعلًا التفكير فريضة إسلامية، فريضة مثل الصلاة والزكاة وبر الوالدين.. إلخ، فالتفكير فريضة من الفرائض، والعلم فريضة.
واتفق علماء المسلمين وفقهاؤهم على أن كل علم نافع لا يستغنى عنه في دنيا المسلمين هو فرض كفاية، كعلم الطب، وعلم الرياضيات، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا والهندسة، وأي علم يحتاج إليه المسلمون في الناحية العمرانية، أو في الناحية العسكرية، أو في أي ناحية من نواحي الحياة، على المسلمين أن يتقنوا هذه العلوم ويتفوقوا فيها، بحيث لا يحتاجون إلى غيرهم.
ومعنى فرض كفاية أي يجب أن يكون هناك عدد كاف من الخبراء والعلماء والمتخصصين المسلمين في كل علم من هذه العلوم، بحيث لا يحتاج المسلمون إلى غيرهم، فيحصل لهم الاكتفاء الذاتي، فموقف الإسلام من العلم أمر معلوم، إذا كان العلم يقوم على النظر والتفكير، فهذا ما دعا إليه القرآن ودعت إليه السنة.
الإحصاء والتخطيط:
إذا كان العلم يقوم على الإحصاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم استخدم الإحصاء، أوَّلَ ما ذهب إلى المدينة بعد الهجرة، فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحصوا لي كم يلفظ الإسلام"(1). يريد أن يعرف قوته البشرية، لكي يستطيع أن يخطط لأموره العسكرية، وأموره الاقتصادية، ومفاوضاته مع أعدائه.. وغير ذلك.
وإذا كان العلم يقوم على التخطيط، فنجد هذا في القرآن الكريم، في قصة يوسف عليه السلام، فقصة يوسف فيها تخطيط لخمسة عشر عامًا، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (يوسف:47-49)، الآن هم يخططون لخمس سنين، أو عشر سنين، هذا أقصى شيء، في قصة يوسف خطة خمس عشرية، وربنا حينما يذكر هذه القصص في القرآن لا يذكرها للتسلية وإنما يذكرها للعبرة والانتفاع بها.
والذي يقرأ قصص القرآن يجد فيها عناية بالعلم, ففي قصة آدم نجد كيف تفوق على الملائكة بالعلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة:31-33)، وفي قصة سليمان، وكيف جاءه عرش بلقيس بواسطة رجل عنده علم من الكتاب: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} (النمل:40).
فما تحتاج إليه النهضة من العلم الإسلام دعا إليه، وحث عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أول من قام بمشروع عملي لمحو الأمية، حين جعل فداء الأسير من أسرى بدر من المشركين أن يعلم الواحد منهم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة، لا يريد منه مالا ولا يريد منه شيئًا غير هذا، فأي تقدير للعلم فوق هذا التقدير؟!
والقرآن الكريم أقسم بالقلم، والقلم هو أداة الكتابة، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1)، ومعنى أداة الكتابة أي أداة التقدم والتعلم.
العقلية العلمية:
وقبل ذلك ومعه يضع الإسلام ركنًا ركينًا من أركان النهضة العلمية والمادية، وهو تكوين العقلية العلمية، فهناك ما يمكن أن نطلق عليه "العقلية العامية" أو "العقلية الخرافية"، وهي التي تصدق كل ما يقال لها، أو يعرض عليها, ولاتضعه موضع امتحان، بل تأخذه قضية مسلَّمة، ولاسيما إذا جاء من قبل من تعظِّمه، مثل الأجداد والآباء، أو السادة والكبراء، فتقول: إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. أو وجدنا سادتنا على ذلك يسيرون.
وفي مقابل هذه العقلية المتَّبِعة، توجد عقلية أخرى مخالفة لها في مواصفاتها وخصائصها، وهي التي عمل القرآن بآياته المشرعة والموجهة على إنشائها، وصياغتها، وإبرازها لتقوم بدورها في الحياة.
ومن المقرر المعلوم: أنه لايمكن أن يزدهر العلم، وتتأصل جذوره، وتمتد فروعه، بل لايمكن أن ينشأ علم صحيح، إلا في مناخ نفسي وفكري يهيئ للعقول أن تفكر، وللأفكار أن تتفتح، وللآراء أن تناقش، ولصاحب الحجة أن يدلي بحجته، وهذا ما يعمل القرآن على إيجاده في الحياة الإسلامية، وبعبارة أخرى: يعمل القرآن بدعوته القوية، وبتوجيهاته المتكررة على تكوين "العقلية العلمية" المتحرِّرة، التي لاينهض علم إلا على عاتقها، فهو يرفض "العقلية الخرافية"، ويرفض "العقلية المقلِّدة"، ويرفض "العقلية المتخرِّصة" ويرفض "العقلية المتبعة للهوى". ومن قرأ القرآن وتدبره بحق وجد مقومات هذه العقلية العلمية مجسَّمة فيه.
وأهم سمات هذه العقلية العلمية أنها ترفض الظن في كل موضع يُطلب فيه اليقين قال عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس:36)، وقال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم:28)، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَاسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام:148).
وحقيقة الخرص كما قال الراغب في "مفردات القرآن": "أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال: خرص، سواء أكان مطابقًا للشيء أو مخالفًا له، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين، كفعل الخارص، فيخرصه، وكل من قال قولًا على هذا النحو قد يسمى كاذبًا، وإن كان قوله مطابقًا للمقول المخبَر عنه"(2).
ومن أسس تكوين العقلية العلمية عدم اتباع الأهواء والعواطف في مجال العلم، فالهوى يُعمي ويُصم، واتباع العواطف قد يضلِّل الإنسان عن الحق، وخصوصًا العواطف الهوج، مثل الحب الشديد، والكره الشديد، والغضب الشديد، ولاغرو أن جاء في الحديث الصحيح: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(3)؛ لأن انفعال الغضب يسد عليه منافذ الإدراك الصحيح لجوانب القضية المختلفة فيظهر حكمه غير سليم.
ولهذا عاب القرآن على المشركين هذين الأمرين: اتباع الظن وهوى الأنفس معًا، فقال في شأن أصنامهم التي اتخذوها آلهة (اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى): {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم:23).
وقال الله تعالى لداود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص:26).
وقال في خطاب رسوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص:50).
ومنها رفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف والكبراء، يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة:170-171).
وقال على لسان أهل النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب:67).
العمل والإنتاج:
ودعا الإسلام إلى ما تحتاج إليه النهضة والحضارة من العمل والإنتاج، فالإسلام دعا إلى العمل الدنيوي، واعتبره عملًا صالحًا وعبادة، إذا صحَّت فيه النية، والتُزمت فيه حدود الله، ورُوعي فيه الإتقان والأمانة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"(4).
فالإسلام اعتبر العمل عبادة، واعتبره في سبيل الله، ولم يرض أبدًا أن يجلس الإنسان ويقعد عن طلب الرزق بدعوى التوكل على الله، أو بدعوى أنه متفرغ للعبادة؛ لأنه لا رهبانية في هذا الدين.
امش في مناكب الأرض، وتحرك في جوانبها، واسْعَ فيها، واطلب رزق الله، وهذا نفسه عبادة، بل جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل"(5). لماذا يغرسها مع أن الساعة قائمة، ولن ينتفع بها، ولن ينتفع بها أحد غيره؟ تقديسًا للعمل في حد ذاته، وأن يظل المسلم عاملا منتجًا إلى النَّفَس الأخير من حياته، إلى أن يودِّع الحياة، يغرس ولو لم يأكل من غرسه أحد. فهل رأيتم دينًا يقدس العمل أكثر من هذا الدين؟
الصناعات المدنية والعسكرية:
نحن متأخرون في الصناعة، مع أن القرآن في طيات آياته يتكلم عن صناعات مختلفة، قال عن داوود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سبأ:10-11)، الصناعة العسكرية، اعمل دروعًا وقدِّر حلقتها، واضبطها جيدًا. وقال الله تعالى عن سليمان: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ:12)، صناعة مدنية هي صناعة التعدين، والقطر: هو النحاس المذاب.
وتحدث القرآن عن صناعة السدود, عن السد العظيم الذي صنعه ذو القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الكهف:96-97)، وبعد أن أتم هذا العمل قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} (الكهف:98)، اعتبر هذا توفيقًا من الله، أن عمل مثل هذا العمل.
وتحدَّث القرآن عن الحديد، الذي هو العنصر الأساس في كل صناعة حربية أو مدنية، بل في القرآن سورة باسم هذا المعدن، معدن الحديد، هي سورة الحديد، يقول الله فيها: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد:25)، ويذكر الحديد مقرونًا بالكتاب والميزان، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد:25)، وأشار إلى المهمتين الأصليتين للحديد، في الناحية السلمية والمدنية، وفي الناحية العسكرية، وأهمية الحديد في الصناعة لا ينكرها أحد.
الصحة العامة:
إذا كانت النهضة تحتاج إلى الصحة العامة، فهل هناك دين دعا إلى العناية بصحة الإنسان وبدنه، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لجسدك عليك حقًّا"(6). وقدم الجناية على البدن جناية على الدين، وتقرر عند المسلمين أن صحة الأبدان مقدَّمة على صحة الأديان، ونهى عن كل ما يؤذي الجسم، من المخدِّرات والمسكرات والمفتِّرات.
وحتى الإرهاق ولو كان من قِبَل العبادة، لا ترهق نفسك حتى بالعبادة؛ لأن الجسم السليم هذا مهم جدًّا ليكون وعاءً للعقل السليم، وليكون مطية للإنسان ليقوم بأعبائه الدينية والدنيوية، فعن أنس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا؟" قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: "حُلُّوه، ليُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا كسل أو فتر قعد"(7).
النظام الاقتصادي الإسلامي:
ومن عُمُد النهضة المال، فماذا كان موقف الإسلام من المال ومن الثروة ومن الاقتصاد؟ لما أسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، أراد النبي أن يبعثه في سرية، فقال له: "إني أريد أن أبعثك على جيش، فيُسلِمك الله ويُغْنِمك، وأزعب لك من المال زعبة صالحة"(8). قال: فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:"يا عمرو، نِعِمَّا بالمال الصالح للمرء الصالح"(9). سيدنا عمرو ظن أن هذا نوع من الاتهام له، يسلمك الله ويُغْنِمك؟! وهل أسلمتُ من أجل المال؟! والله ما أسلمت من أجل المال، إنما أسلمتُ رغبة في الإسلام، وطلبا لما عند الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو، نعمَّا المال الصالح للمرء الصالح".
المال نعمة، وليس نقمة، المال خير، كما سماه الله تعالى في القرآن، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (البقرة:180)، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (البقرة:215)، فالمال خير، وليس شرًّا، المال قوام للحياة، أو كما نقول في عصرنا عصب الحياة، ولذلك أمر الإسلام بالمحافظة على المال، ونهانا أن نعطيه السفهاء، حتى لا يبعثروه ذات اليمين وذات الشمال، {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (النساء:5).
ووضع الإسلام نظامًا اقتصاديًّا هو أعدل الأنظمة وأمثلها، فقد سلم من غلو الرأسماليين، وتطرف الشيوعيين، نظام في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتداول لا يعدله نظام قط، فيه كل ما تحتاج إليه الحياة الفاضلة، الحياة السليمة، الحياة القوية، الحضارة المتكاملة، التي لا تأخذ جانبًا وتنسى جانبًا، ولا تنظر إلى الحياة من جانب واحد.
الحضارة الغربية على الرغم مما وصلت إليه من رفاهية وتكنولجيا، هي حضارة عرجاء عوراء، تمشي برجل واحدة، وتنظر إلى الإنسان وإلى الحياة بعين واحدة، تنظر إلى الجانب المادي، وتنسى الجانب الروحي، ولذلك في الحقيقة هي ليست حضارة المسيح بن مريم، إنما هي حضارة المسيح الدجال، المسيح الدجال أعور، وهذه حضارة عوراء، ليست حضارة متكاملة.
الحضارة الإسلامية حضارة متكاملة:
الحضارة الإسلامية التي يريدها الإسلام حضارة متكاملة, فيها الجانب الرباني، والجانب الإنساني، فيها العلم والإيمان جنبا إلى جنب، الروح والمادة جنبا إلى جنب، المسجد والمصنع جنبا إلى جنب، هذا ما يريده الإسلام.
تأخر المسلمين ناتج عن بعدهم عن الإسلام الصحيح:
فالواقع أن الإسلام ليس هو المسؤول عن تأخر المسلمين، بل الحقيقة أن تأخر المسلمين هو نتيجة البعد عن الإسلام الحقيقي، سوء الفهم للإسلام وسوء التطبيق له، أننا أخذنا من الإسلام قشورًا وتركنا اللباب، لو أخذنا الإسلام متكاملًا كما أخذه سلف هذه الأمة وقرونها الأولى لانتقلنا إلى ما انتقلوا إليه، ولسُدنا العالم، ولقُدنا الحياة من جديد، لكننا لم نفهم الإسلام كما ينبغي.
فلذلك الذين يقولون: إن التأخر بسبب الإسلام هم مخطئون، والتاريخ منذ وجد، امتداد وانكماش, انتصار وانهزام، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} (آل عمران:140)، وكذا كان تاريخ المسلمين ازدهارا وخمولا، ومن يتتبع التاريخ يجد أن الازدهار والنصر والامتداد في حياة المسلمين قرناء للتمسك بالإسلام، وأن الانكماش والخمول والخمود والهزيمة ناتجة للبعد عن الإسلام، وأقصد بالإسلام: الإسلام الصحيح.
فإذا أردنا أن ننهض فلا بد أن نرجع إلى ديننا الحقيقي، ونوعِّي المسلمين بحقيقة الإسلام، وننشر الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي السليم، وننقي عقول أبناء الأمة من الخرافة، وهذا لا بد منه، حتى يتكون فكر صحيح، يكون هو القاعدة العقائدية للأمة، كل أمة تحتاج إلى فكرة، أو -كما يقولون في هذا العصر- إلى أيديولوجية، فما هي عقيدتنا أو فكرتنا أو أيديولوجيتنا؟ الإسلام وحده، فلا بد من فكر إسلامي صحيح.
التخلف ليس طبيعة الأمم المسلمة:
وكذلك ليست طبيعة هذه الأمم التي تنتمي للإسلام التخلف؛ لأن هذه الأمم من قبل نهضت، وأقامت الحضارة الإسلامية الكبيرة المتكاملة، وقبل الإسلام هذه الأمم كانت لها حضارات، حضارة الفراعنة في مصر، وحضارة الأشوريين في بغداد، وحضارة الفينيقيين في سوريا، وحضارة الهند، فشعوب الأمة الإسلامية هي منبع الحضارة في التاريخ كله، فلذلك لا ينقصنا الذكاء، فلسنا أقل ذكاء من غيرنا، ولا أقل قدرة من غيرنا.
المسألة تحتاج إلى فهم وعزم واتحاد، أن نفهم من نحن، وماذا نريد، وإذا صدق العزم ووضح السبيل، ووضع بعضنا يده في يد الآخر، وكنا قوة وكتلة، لا أقول الكتلة الثالثة في العالم، بل نستطيع أن نكون الكتلة الأولى، لأن عندنا والحمد الله من الموارد المادية الاقتصادية ما ليس عند غيرنا، عندنا الطاقة، والموقع، فنحن صرة العالم، عندنا الرصيد التاريخي، والقوة البشرية، مصادر القوة ومنابعها عندنا، لا ينقصنا إلا أن يتحرك الإنسان، أن يعي ويفهم ويريد، ويكون من وراء ذلك الخير إن شاء الله.
.....
(1) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3060)، ومسلم في الإيمان (149)، واللفظ له، عن حذيفة.
(2) المفردات في غريب القرآن (ص 279).
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الأحكام (7158)، ومسلم في الأقضية (1717)، ولفظ البخاري: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان"، عن أبي بكرة.
(4) رواه أبو يعلى (4386)، والطبراني في الأوسط (897)، والبيهقي في الشعب باب الأمانات (5312)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1880)، عن عائشة.
(5) رواه أحمد (12981)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والبخاري في الأدب المفرد باب إصلاح المنازل (479)، وصححه الألباني الصحيحة (9)، عن أنس بن مالك.
(6) متفق عليه: رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، كلاهما في الصيام، عن عبد الله بن عمرو.
(7) متفق عليه: رواه البخاري في التهجد (1150)، ومسلم في صلاة المسافرين (784).
(8) أي: أعطيك دفعة من المال؛ والزعبة: الدفعة من المال. لسان العرب زعب.
(9) رواه أحمد (17763) وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم في البيوع (2/2)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مشكلة الفقر (19).