السؤال: يختلف العلماء في أمور كثيرة، خاصة في مسائل الطلاق، فإذا اختلفوا في مسألة من المسائل هذا يقول: الطلاق لا يقع. وهذا يقول: الطلاق واقع. فما الحل في هذه الحالة؟ هل الأصل أن نُبْقي على الزواج؟ أو الأصل أن نقول بالاحتياط ونوقع الطلاق؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

الاختلاف بين الأئمة من ميزات هذا الدين، والخلاف قد وُجِد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرَّه ولم ينكره، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة، وهي مشهورة، وفي غيرها من القضايا.

يقول حكيم الإسلام الدهلوي في «الحجة البالغة»:

"إن أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء، لا سيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة، في الجانبَيْن كتكبيرات التشريق، وتكبيرات العيدين، ونكاح المحرم، وتشهُّد ابن عباس وابن مسعود، والإخفاء بالبسملة وبآمين، والإشفاع والإيتار في الإقامة.. ونحو ذلك إنما هو في ترجيح أحد القولين، وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية، وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين، ونظيره اختلاف القراء في وجوه القراءة، وقد عللوا كثيرا من هذا الباب بأن الصحابة مختلفون، وأنهم جميعًا على الهدى.

ولذلك لم يزل العلماء يجوِّزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية، ويسلمون بقضاء القضاة، ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم، ولا ترى أئمة المذاهب في هذه المواضع إلا وهم يُضجِعون القول ويبيِّنون الخلاف، يقول أحدهم: هذا أحوط، وهذا هو المختار، وهذا أحب إليَّ، ويقول: ما بلغنا إلا ذلك"(1).

كان الخلاف موجودًا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، ولم يروا فيه شرًّا، ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه بالعنف، أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم له.

بل قيل للإمام أحمد، وكان يرى نقض الوضوء من الرُّعاف وسيلان الدم الكثير: هل تصلي خلف من خرج منه الدم ولم يتوضأ؟ فأجاب مستنكِرًا: كيف لا أصلي خلف مالك، وسعيد بن المسيب؟!(2). وكانا لا يريان النقض بذلك.

وقبل الإمام أحمد سجَّل للإمام مالك موقفه التاريخي بعد ما ألف كتابه الشهير «الموطأ» بتكليف من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، فقد أراد المنصور أن يحمل الناس على ما فيه من آراء وأحكام بسلطان الدولة. وبعبارة أخرى: أراد أن يجعل منه قانونًا عامًّا لدولة الخلافة، يلتزم به الكافة، وتُلغي الآراء والاجتهادات الأخرى، قالوا: لما حج المنصور قال لمالك: قد عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها، فتُنسخ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدَّوْه إلى غيره.  فقال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وروَوْا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتَوْا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم(3).

ويُحكى نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكًا في أن يعلِّق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ سُنَّة مضتْ. قال: وفَّقك الله يا أبا عبد الله!(4).

والاختلاف إما أن يكون سببه أن هذا العالم لم يطَّلع على النص الذي استدلَّ به غيره، أو أنه رأى غيره أرجح منه، أو أنه فهم منه ما لم يفهم الآخر، أو أنه علم بنسخه أو تخصيصه أو تقييده، أو غير ذلك مما هو معروف في علم الأصول.

والاختلاف إنما يكون في الفروع الاجتهادية، وأما أصول الدين وعقائده، وكذا الفروع المعلومة من الدين ضرورة، فإنه لا يجوز الاختلاف فيها، ولم يختلف فيها أحد من أهل السنة.

ومن كانت له القدرة على معرفة الأدلة واستخراج الأحكام منها، فواجبه أن يتبع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر متواترًا كان أو آحاديًّا، ومن لم يكن له أهلية لذلك، فلا حرج عليه أن يتَّبع أي مذهب تيسر له.

والإنسان الذي يستفتي العلماء إذا اختلفوا عليه في الطلاق أو في غير الطلاق، يأخذ برأي من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم، وليس من الضروري أن يأخذ بقول الأكثر، فليس الصواب دائما مع الكثرة، ولا الخطأ دائما مع القلة، إنما هو يحاول أن يوازن بين المفتين، وينظر الكلام المعقول الواضح المبنيِّ على الأدلة، فما يطمئن إليه قلبه ويرى أنه هو الأوفق يأخذ به.

شروط للأخذ بفتوى العالم:

وأنا أنصح المسلم أن يأخذ بفتوى العالم الذي تتوفَّر فيه ثلاث صفات:

الأولى: سعة العلم. أي: أن يكون رصينًا وقويًّا وراسخًا في علمه.

الثانية: قوة الدين. أي: أن يكون دينه متينا، لا يبيع دينه بدنياه ولا بدنيا غيره.

الثالثة: الاعتدال والتوسط، أي: أن يكون من أهل الاعتدال، وليس من المُفْرِطين ولا من المُفَرِّطين، من أهل الوسط، فهذا هو الذي أنصح بأن يأخذ المسلم به.

.....

(1) "حجة الله البالغة"، الشاه ولي الله الدهلوي (1/269- 270)، دار الجيل، بيروت، الطبعة: الأولى: 1426هـ - 2005 م.

(2) مجموع الفتاوي لابن تيمية (20/366).

(3) رواه ابن سعد في الطبقات (5/468)، طبعة دار الكتب العلمية.

(4) شرح مسند الشافعي لعبد الكريم الرافعي (1/76)، وزارة الأوقاف القطرية، الطبعة: الأولى، 1428هـ - 2007 م.