د. عصام تليمة

تناولنا في مقالنا السابق* كيف بدأت علاقة القرضاوي بالشيعة؟ كمذهب يدرس ويقرأ، ثم عند سفره لدولة قطر مديرًا للمعهد الديني، وتعامله المباشر مع أتباع المذهب، بحكم المواطنة والعيش المشترك، في إطار فقهه المعهود، سواء مع الآخر الديني، أو المذهبي، ثم تطورت العلاقة وانتقلت إلى مرحلة ما يمكن أن نطلق عليه: التقريب والتقارب، فقد تقارب مع أتباع المذهب الشيعي، ودعا لذلك، حيث كان من المؤمنين بالتقريب بين المذاهب الإسلامية، في ظل مؤامرات على الأمة الإسلامية بغية تشظيها وتفتتها.

زيارة تاريخية لإيران:

وحضر القرضاوي مؤتمرات عدة تدعو لذلك، على مستوى الدول العربية والإسلامية، ثم توجت هذه المرحلة بزيارة تاريخية ومهمة لإيران، وقت حكم الرئيس الإيراني محمد خاتمي، في فترته الأولى، وقد كانت الزيارة معدة بشكل جيد، من جهة الإيرانيين، فالصورة العامة آنذاك عن “بروفيسور” جامعي وهو خاتمي يحكم إيران، وكانت رسائله الإعلامية إيجابية، وموضع قبول من كثير من الدوائر الثقافية العربية والإسلامية.

وعند ذهاب القرضاوي لإيران زار مدنًا عدة مهمة من الناحية الدينية، والتقى عددًا من المسؤولين الإيرانيين، وقدموه ليصلي بهم إمامًا، وعندما كان يحاول بعض المخالفين للشيعة القول بأنهم قدموك يا مولانا من باب التقية، فيرد القرضاوي: وماذا يتقون مني؟! إنني في بلدهم، وفي زيارتهم، وهم الأغلبية والحكام، وليسوا في موضع استضعاف ليمارسوا التقية معي.

كما تم تغطية زيارة القرضاوي إعلاميًا بشكل جيد، وعرضوا عليه هناك أن ينضم للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران، واعتذر القرضاوي من ذلك، وعلل رفضه بأمور عدة: أولها: أن المجمع أسس بقرار سياسي إيراني، وهو ما يمثل اتهامًا للقرضاوي عند قبوله، وثانيها: أنه لم يؤسس بناء على رغبة من أتباع المذهبين، وليس بناء على مؤتمر جمع بينهما، فتقرر تأسيس المجمع، ولذا اعتذر من قبول عضويته، وتقبلوا ذلك منه.

ود متبادل بين الشيعة والقرضاوي:

نستطيع أن نؤرخ لهذه المرحلة في التسعينيات من القرن الماضي، حتى عام 2004 تقريبًا، وقد اتسمت بكثرة تواصل الإيرانيين وأتباع المذهب الشيعي، سواء من الإيرانيين أو العرب، وكذلك المستشارية الثقافية الإيرانية في قطر، كانت ذات نشاط ملحوظ سواء ثقافيًا أو اجتماعيًا، في فترة تولي الدكتور عباس خامه يار لها، وقد كان دائم التواصل، وكثير الحرص على توصيل كل وجهة نظر تتعلق بالطرف الإيراني والشيعي للشيخ، في كثير من المواقف.

وعندما دعا القرضاوي لتأسيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، أراد أن يكون اتحادًا يمثل المسلمين جميعًا بكل مذاهبهم، ولذا عند التفكير في تعيين نواب له، عيّن الشيخ محمد علي التسخيري من الشيعة الإمامية، والشيخ أحمد الخليلي من الإباضية، وآنذاك رشح التسخيري بطلب من الشيخ بعض الأعضاء المهمين للحضور والعضوية، فكان من ترشيحاته: آية الله محمد واعظ زاده الخراساني، والسيد هادي خسرو شاهي، وقد كان قائمًا بأعمال السفارة الإيرانية في القاهرة، ويتقن العربية، وقد قام بنشر تراث جمال الدين الأفغاني كأعمال كاملة، وهو الجهد الذي قام به أستاذنا الدكتور عمارة، لكن عمله امتاز بحكم إتقانه الفارسية بأنه أضاف كتابًا كتبه الأفغاني بالفارسية، واعتذر من الحضور الشيخ محمد حسين فضل الله من شيعة لبنان لاعتلال صحته، وحضر ممثل له ابنه.

ومن طرائف زيارات الشيعة الإيرانيين للقرضاوي في قطر، أن ابنة محمد علي رفسنجاني رئيس إيران السابق، ورئيس مصلحة تشخيص النظام، وهو رمز ديني وسياسي معروف، جاءت السيدة زهراء رفسنجاني للمكتب، ومعها وفد من الإيرانيات، كن في مؤتمر في قطر، وقد جئن ومعهن هدية للشيخ، مغلقة، وواضح أنها من الزخارف الإيرانية المهمة، وبعد أن خرجن، وودعهن الشيخ، قال لي: يا عصام الهدية تهدى، خذها لك، فرحت، ورحت أفتح الهدية لأجدها بالفعل تحفة رائعة، منقوشة بزخارف إيرانية جميلة، ووجدت أسفلها منحوتًا هذه العبارة: هدية لفضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي!!

قلت له: يا مولانا، كيف سأعلق في بيتي هدية مكتوب عليها اسمك، أنت فلاح مثلي، يحضرني قول الفلاحين من أهلنا: قليل البخت يلاقي العظم في الكرشة، ومعلوم أن كرش الذبيحة لا عظام فيها، لكن المثل ضرب من باب عدم توافر الحظ أو النصيب، فضحك وقال لي: والله لقد خرجت من نيتي خالصة لك، قلت له: إذن نبحث عمن لم تحسن نيته.

القرضاوي يزور نصر الله ويدعم المقاومة:

كان تقارب القرضاوي مع الشيعة تقاربًا صادقًا وحقيقيًا من طرفه، من باب أني أتكلم عنه الآن، فقد كان يدافع عن الفكرة في كل مكان يهاجم فيه، أو تهاجم الفكرة ذاتها، وبلغ ذلك منه قمة صدقه أنه عندما زار لبنان، ودعي لزيارة (حزب الله)، في وجود حسن نصر الله أمين عام الحزب، وكانت وقتها إسرائيل تشن الغارات والحروب على جنوب لبنان، فقال القرضاوي عبارة لا يقولها غيره: لو استعرضتم بنا هذا البحر لخضناه معكم. دلالة على دعم الشيخ للمقاومة اللبنانية، بكل ما أوتي من قوة، وذلك كان موقفه مع كل مقاومة للعدو الصهيوني، سواء كانت سنية أو شيعية.

رغم أنه قبل ذلك الموقف بأشهر قليلة، كان قد زاره في بيته بعض الدعاة السلفيين من مصر والشام، كان منهم: الشيخ محمد حسان، والشيخ وحيد بالي، والشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل ثاني مدير مساجد قطر، وهو من التوجه نفسه، وجاء الحديث عن الشيعة، وكان حديث الشيخ عارفًا بمشروعهم، ومشاريعهم، وما لديهم، لكنه كان دائم البحث عن مشاريعنا نحن السنة، وليس الانشغال فقط بمشاريع الآخرين، فلم يكن موقفه كما يتصور البعض عن وهم، أو سذاجة، أو حسن نية لأنه كمصري لم ير شيعة في مصر.

تقريب عن بصيرة:

وفي هذه الأثناء كتب القرضاوي رسالة علمية مهمة، بعنوان: مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية، وكانت مقدمة لمؤتمر في قطر، فقد كانت الدوحة في هذه الآونة قد بدأت تعرف بين دول العالم العربي والإسلامي بأنها عاصمة المؤتمرات، وقد نجحت في ذلك نجاحًا ملحوظًا، وكان من بينها هذا المؤتمر، وقد كتب لهم القرضاوي بحثه المطول، وانتشر كسائر كتبه، وقد وضع فيه مبادئ مهمة لإزالة التعصب، ونشر التسامح، ومن اطلع عليها سيجد أيضًا أن القرضاوي لم يكن في دعوته للتقريب كان يدعو لتقريب أعمى، أو إذابة الخصائص المتعلقة بكل مذهب.

ثم جاءت أحداث الاحتلال الأمريكي للعراق، وبدأت مرحلة أخرى من علاقته بالشيعة، بنيت على التعامل السياسي الذي جد على المنطقة، وعلى تضارب المشاريع السياسية، ولذا بدأ مرحلة أخرى، كان صريحًا فيها بالقدر نفسه الذي كان في التقريب، لتبدأ مرحلة التباعد، ويتجه بحديثه اتجاهًا آخر، نبينه في مقالنا المقبل إن شاء الله.

.....

- المصدر: الجزيرة مباشر

* المقال الأول: القرضاوي والشيعة.. الوفاق والافتراق