في سنة (1975م) أعلن في إمارة دبي عن تأسيس أول «بنك تجاري إسلامي» أي لا يتعامل بالفوائد الربوية أخذًا ولا إعطاءً، ويلتزم أن يجري معاملاته وفق أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها؛ إنه «بنك دبي الإسلامي». كان إعلان ذلك حدثًا في التاريخ الاقتصادي للأمة، يعد انتصارًا لها في معركة من أخطر المعارك التي تخوضها، لتحرر اقتصادها من رجس الربا، ومن هيمنة الاقتصاد الرأسمالي بفلسفته وتطبيقاته - منذ عصر الاستعمار - على جميع مصارفها ومؤسساتها المالية. ولقد كان إنشاء بنك بلا فائدة حلمًا، فأصبح اليوم حقيقة!
كان «عبيد الفكر الغربي» كما سميتهم في كتاباتي، وأسرى الاقتصاد الوضعي، يقولون لنا: لا تحلموا - مجرد حلم - بإقامة بنوك بلا فوائد. فهذا مستحيل. إن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفائدة عصب البنوك، ومن زعم إقامة بنك بغير فوائد، فهو واهم أو مغرق في الخيال! وشاء الله أن يتحول الحلم أو الوهم أو الخيال، إلى واقع نشهده بأعيننا، ونلمسه بأيدينا. وكان هذا تطورًا محمودًا في موقف الأمة من هذه القضايا وأمثالها، وكان هذه تجسيدًا للصحوة الإسلامية في ميدان الاقتصاد.
لقد مر فكر الأمة في مواجهة الغرب الذي غزانا وانتصر علينا بأطوار ومراحل:
1 - كان هناك طور الاستسلام والتبعية المطلقة، التي قال فيها طه حسين باتباع الحضارة الغربية في خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب ... وحكى زكي نجيب محمود عن نفسه: أنه كان يرى في وقت ما، أن نأكل كما يأكل الغربيون، ونلبس كما يلبسون، ونتصرف كما يتصرفون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون! وهؤلاء يرون شرعية اتباع نهج الغرب في كل شيء جهرة لا خفية، وصراحة لا ضمنًا.
2 - وجاءت مرحلة أخف من تلك، وإن كانت أخطر؛ لأنها تريد أن تأخذ نهج الغرب بعد أن تسوِّغه بفتاوى شرعية، وأسانيد دينية، تجعل حرامه حلالًا، ومنكره معروفًا، أي أنهم أرادوا أن يلبسوا الخواجة الأوربي «عمامة» بدل القبّعة أو «البرنيطة» - كما يقول المصريون - حتى يقبل إسلاميًّا.
وفي هذا ظهرت محاولات للقول بإباحة «الربا» الذي تقوم عليه البنوك، تحت عناوين شتى، منها: أنه غير ربا الجاهلية.
ومنها: أن المحرم هو ربا الاستهلاك للنفقة الشخصية، وليس ربا التجارات والإنتاج.
ومنها: أن المحرم هو ربا الأضعاف المضاعفة.
ومنها: أن المجتمع أصبح في وضع ضرورة لهذه الفوائد، والضرورات تبيح المحظورات ...
وكل هذه المحاولات باءت بالإخفاق، ورد عليها العلماء الراسخون، وكشفوا عن زيفها من الشرعيين، من أمثال: الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ أبي زهرة، والشيخ أبي الأعلى المودودي ... ومن الاقتصاديين، من أمثال: د. عيسى عبده إبراهيم، ود. محمد عبد الله العربي، ود. محمود أبو السعود، ود. أحمد النجار، وآخرين.
3 - وكانت ردود هؤلاء العلماء على المحاولات التسويغية التي تعبر عن هزيمة نفسية؛ تمثل طورًا جديدًا، انضم فيه علماء اقتصاديون، لهم وزنهم وثقلهم العلمي، إلى علماء الشرع، ليعلن الجميع: أن «الربا» لا ضرورة إليه، ولا يمكن أن يحرم الله على الناس شيئًا يحتاجون إليه، فضلًا عن أن يضطروا إليه، وأن من الممكن إقامة بنوك بلا فوائد. ونشروا في ذلك مقالات ورسائل وكتبًا، بأكثر من لغة، فقد ساهم إخواننا الباكستانيون والهنود في ذلك مساهمة طيبة.
4 - ثم جاء طور آخر تعاون فيه: رجال المال والأعمال، مع رجال الشرع، ورجال الاقتصال الإسلامي، لينشئوا أول بنك إسلامي، وانفردت إمارة دبي بهذه الفضيلة، وحازت قصب السبق في ذلك، وقد قيل: الفضل للمبتدي، وإن أحسن المقتدي.
وكان ممن له الفضل - بعد الله تعاىل - في إقامة هذا الصرح الإسلامي: صاحب الهمة العالية، والعزيمة القوية: الحاج سعيد لوتاه، رجل الأعمال المستنير، الذي صمم على أن يقيم هذا البنك، برغم تخويف المخوفين له، مما وراء ذلك من مخاطر ومجازفات غير مأمونة، ولكنه توكل على الله، ومضى في الطريق، {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُ} [الطلاق: 3]، {وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} [آل عمران: 101]. وكان من رجال الاقتصاد الإسلامي الذين أسهموا بدور أساسي في إنشاء هذا البنك هو: الأستاذ الدكتور عيسى عبده إبراهيم، فيجب أن يذكر فيشكر.
وأيّد الحاج سعيد افتتاح هذا الصرح بإقامة أول مؤتمر علمي شرعي للبنوك الإسلامية، فدعا كوكبة من علماء الأمة في دبي، ليبحثوا عدة موضوعات، ويصدروا فيها فتاوى بالإجماع أو بالأغلبية، ليعمل البنك بموجبها.
وقد اعتبرني الحاج سعيد لوتاه رئيس مجلس إدارة البنك: مستشارًا شرعيًّا غير متفرغ للبنك، فيما يحتاجون إليه، فكانوا يتصلون بي هاتفيًّا، أو أذهب إليهم بين الحين والحين، على فترات متباعدة.
وكنت أقوم بهذا العمل محتسبًا، دون أي مقابل؛ فقد كان فرحي بقيام هذه المؤسسة الإسلامية، وإسهامي في إنجاحها أعظم عندي من أي أجر أو مكافأة مادية.
شركة الاستثمار الخليجي:
بدأت فكرة البنوك الإسلامية تتسع، فأنشئ «بنك فيصل الإسلامي» في مصر، و «بنك فيصل الإسلامي» في الخرطوم، وكان يرأس مجلس إدارة كل منهما: الأمير محمد الفيصل آل سعود، الذي تبنى فكرة البنوك الإسلامية، وخدمها ورعاها بماله ونفوذه، ورأى أن يخلد ذكر أبيه، الملك المحبب لدى جمهور المسلمين: «فيصل بن عبد العزيز» بأن ينشئ سلسلة من البنوك الإسلامية تحمل اسمه، فنشأ البنكان في مصر والسودان.
ثم اقتُرِح على الأمير محمد: أن يؤسس في أقطار الخليج العربي، شركة للاستثمار، تجمع فيها أموال من لديه مدخرات يحب أن يستثمرها في الحلال المشروع. فكثير من الناس يجمد أمواله، ولا يستثمرها في حرام. فهذه الشركة فرصة تتيح للناس أن يستثمروا أموالهم وفق صكوك للمضاربة لمدة سنة، أو ثلاث سنوات، ثم يستردونها.
وقامت حملة إعلامية كبيرة لهذه الشركة، ومر الأمير محمد الفيصل ببلاد الخليج: الكويت، والبحرين، والإمارات، ثم قطر، للدعاية لهذه الشركة الوليدة، وكان معه الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي، رئيس مجلس الوزراء المصري سابقًا، والشيخ محمد خاطر مفتي مصر سابقًا، والدكتور إبراهيم كامل، أحد رجال المال والأعمال المرموقين، والذي يقيم بجنيف بسويسرا.
وقبل أن يصلوا إلى قطر، اتصلوا بي، وطلبوا مني أن أشد أزرهم في مسيرتهم، فقلت لهم: أنا معكم في وجهتكم في المعركة ضد الربا. فقالوا: نريدك أن تنضم إلينا وتكون أحد المتحدثين الرئيسيين في بلاد الخليج، فوافقت على ذلك ... وأقيمت ندوة حافلة حاشدة في فندق الخليج في قطر، في إحدى القاعات الكبرى، وقد ازدحمت على آخرها. تحدث الأمير محمد والشيخ خاطر والدكتور حجازي، ثم تحدثت بكلمة قوية شدت الجماهير إليها، ثم بدأ الناس يسألون ويستفسرون، وتجيبهم المنصة عن أسئلتهم.
والحقيقة: أن هذه الليلة كانت السبب الأكبر وراء نجاح شركة الاستثمار الخليجي، ولولاها لفشلت الشركة تمامًا، فقد تبين أن الذين ساهموا من قطر، كانوا حوالي الثمانين في المائة، أو أكثر، فلم يستجب الناس في بلاد الخليج الأخرى للنداء. ولا أريد أن أزكي نفسي، ولكنها الحقيقة تقال للتاريخ؛ فلولا ثقة الناس في قطر بي، واستماعهم لكلمتي، وأسئلتهم المتتابعة بعد ذلك لي: هل نشترك أو لا؟ ما قامت لشركة الاستثمار الخليجي قائمة، كما اصطحبني الدكتور إبراهيم كامل معه في زيارات للكويت وللإمارات.
وبعد أن قامت الشركة، رأى الأمير محمد الفيصل والمسئولون عن الشركة: أن يؤسسوا لها هيئة رقابة شرعية، تكون موضع ثقة عند الناس، وقد طلبوا مني أن أشارك فيها، فاعتذرت، ولكنهم ألحوا عليَّ لكي تنجح الفكرة، فقبلت، وشكلت هيئة، كان رئيسها: الشيخ المفتي محمد خاطر، وأعضاؤها: الشيخ صديق الضرير، والشيخ عبد الله بن علي المحمود عالِم الشارقة، ويوسف القرضاوي.
وكان مقر الشركة في ولاية الشارقة، وقد دعينا لافتتاحها هناك، وكان في يوم الخميس، وقد بتنا هناك وخطبت الجمعة في مسجد الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة وبحضوره، وقد دعانا للغداء عنده، وكان نجاح هذه الشركة حافزًا للتفكير في تأسيس شركة أكبر وأوسع، وهي التي سميت: «دار المال الإسلامي» التي قامت في جنيف، ويديرها: د. إبراهيم كامل، وسيأتي لها حديث يخصها في حينه.
عضوية مجلس إدارة بنك فيصل المصري:
فوجئت في أمسية يوم من الأيام باتصال من الأخ الصديق المهندس يوسف ندا، أظنه كان من القاهرة، وقال: إننا نريد أن تكون معنا في مجلس إدارة «بنك فيصل الإسلامي المصري»، وقد رشحك أكثر من واحد في المجلس، منهم: المهندس أحمد حلمي عبد المجيد، ورحب الأمير محمد الفيصل بذلك. وذكر أنك عاونتهم معاونة كبيرة في إقامة شركة الاستثمار الخليجي، وأن معاونتك كان لها الأثر الأول في قيام الشركة، قلت له: أنا أرحب بكل ما يوسع قاعدة الاقتصاد الإسلامي، ويضيق دائرة الربا في مجتمعاتنا المسلمة. ولكن أخاف أن يجور ذلك على وقتي الذي نذرته للعلم والدعوة. قال: احتسب ذلك في سبيل الدعوة أيضًا، ووجود عنصر شرعي مهم في المجلس، على أن المجلس يجتمع كل شهرين مرة ولن يعطلك كثيرًا. وقلت: على بركة الله. وكان المجلس الأول لا يحتاج إلى جمعية عمومية، ويكفي ترشيح بعض الأعضاء وموافقة أغلبية المجلس.
وأصبحت منذ ذلك الحين عضوًا في مجلس إدارة بنك فيصل المصري، وحضرت أول جلسة عقدت بعد الانتخاب، ثم تعددت اللقاءات والجلسات وفيه تعرفت على سائر الأعضاء، ومنهم من لقيته قبل ذلك، ومنهم من لم ألقه: الأمير محمد، رئيس المجلس، ود. عبد العزيز حجازي نائب الرئيس، ود. توفيق الشاوي، والحاج حلمي عبد المجيد، ود. عمر عبد الرحمن عزام، ود. عبد العزيز الفدّا، والأستاذ حيدر بن محمد بن لادن، والأستاذ كمال عبد العزيز المحامي، والدكتور أحمد ثابت عويضة، ود. أحمد محمد عبد العزيز النجار، والأستاذ علي حمدي، ود. عبد الصبور مرزوق، وغيرهم.
ملاحظة على البنوك الإسلامية:
وما لاحظته: أن البنوك الإسلامية قد استعجلت في ظهورها، قبل أن تُهيأ لها «الكوادر» المطلوبة، على مهل. هذه الكوادر التي تجمع بين العلم المصرفي، والفقه الشرعي، والالتزام الإسلامي، والحماسة للفكرة والإيمان بها... وهذا لم يكن حاصلًا كما ينبغي.
بل قامت البنوك الإسلامية أول ما قامت على أناس جاءوا من البنوك الربوية، فليس عند أكثرهم أي فقه شرعي، ولا عندهم أي إيمان بفكرة بنك إسلامي، ولا عند كثير منهم أي التزام بخلق إسلامي، حتى كان منهم من لا يقيم الصلاة، ومن تدخل عليه وهو يدخن سيجارة. بل حكى لي بعضهم: أن منهم من كان يفطر في رمضان! فهل يؤمن هؤلاء على إقامة مؤسسة إسلامية يأتمنها المسلمون على تنمية أموالهم في الحلال، وهم لا يعرفون حلالًا من حرام؟!!
لقد دخلت على مسئول كبير في البنك يومًا فوجدته يلبس في يده خاتمًا كبيرًا من الذهب، فقلت له: هذا حرام على الرجال في الإسلام. قال: إن والدتي أهدته إليَّ حينما تزوجت! قلت: والدتك لم تكن تعرف أنه حرام. قال: ولا أنا أعلم أنه حرام. قلت: سأهديك كتابًا يعطيك فكرة معقولة عن الحلال والحرام. فأهديته كتابي: «الحلال والحرام في الإسلام». فلما قابلته بعد ذلك. قال: إن كتابك قد علمني كثيرًا مما كنت أجهله؛ لقد كنا في جهالة وعمى، ففتح عيني. ووجدته قد خلع خاتمه الذهبي، ولم يعد في يده.
ومما أذكره: أن أحد الموظفين في إدارة الاستثمار في البنك سألني عندما حضرت في أحد اجتماعات المجلس، سؤالًا عجيبًا، قال: هل يجوز أن يغير طالب المرابحة الشيء الذي اتفق على شرائه بشيء آخر؟ مثلًا: هو اتفق على شراء سيارة نقل كبيرة، فخطر له أن يغيرها ويشتري بثمنها جرارًا زراعيًّا مثلًا، هل هذا يجوز؟
قلت له: يا بني، هذا لا يتصور أصلًا، لأن طالب المرابحة لا يعطيه البنك نقودًا في يده يشتري بها ما يريد، حتى يفكر في تحويلها من سلعة إلى أخرى. لكن البنك هو الذي يشتري له البضاعة التي أمر البنكَ بشرائها له، ولا بد أن يشتريها البنك لنفسه أولًا، ويتملكها ويحوزها، ثم يبيعها له بعد ذلك، حتى لا يبيع ما لا يملك. فإذا كنت أعطيته الفلوس في يده، فهذا لا يجوز شرعًا، وقد خالفت ما أفتت به هيئات الرقابة الشرعية جميعًا، وخنت الأمانة التي ائتمنت عليها، فقال: والله ما كنت أعرف ذلك. ولن أفعلها بعد ذلك.
وحكيت ذلك لنائب محافظ البنك الأخ الكريم الأستاذ أحمد عادل كمال، فقال لي: يجب أن نجمع لك الموظفين لتشرح لهم هذه المسألة وغيرها من مسائل المعاملات التي يغلطون في تطبيقها، ويسيئون إلى سمعة البنك، ويطعمون الناس الحرام، وبالفعل جمع لي الموظفين، وجلست معهم وقتًا طويلًا، أشرح لهم بعض ما غمض عليهم، وأجيب عن استفساراتهم حول معاملات البنك، وما قد يقعون فيه من أخطاء.
والآن قد تجمع لدى البنوك أو المصارف الإسلامية رصيد كبير من «فقه المعاملات» وبحوث ومناقشات مستفيضة عن الاقتصاد الإسلامي، صدر بعضها في فتاوى لبعض البنوك، وبعضها صيغ في كتب ورسائل، وبعضها مخزون في الكمبيوتر مثل: «ندوات البركة» السنوية، وغيرها. كما أنشأت هيئة المحاسبة المالية في البحرين «مجلسًا شرعيًّا» يشرف على تطوير البنوك الإسلامية ورقابتها الشرعية. نرجو أن تنتفع به هذه البنوك، بجوار «مجلس للمعايير» أصدر عددًا من المعايير المحاسبية الإسلامية.
مشاغبات سنوية في جمعية بنك فيصل:
ومن ذكريات بنك فيصل: ما كان يحدث في اجتماع الجمعية كل عام، من صراع على مقاعد المجلس، فقد كان هناك فئة لها مجموعة كبيرة من أسهم البنك من آل عزام ومن يلوذ بهم، وكانوا على خلاف مع الأمير محمد، على ما بينهم من قرابة، وكانوا كل سنة يثيرون غبارًا ودخانًا في جلسة الجمعية العامة، ويقدمون الأسئلة المحرجة، ويرفعون درجة التوتر إلى أقصاها، ويزداد هذا ويتضاعف كل ثلاث سنوات، حين يكون هناك انتخاب مجلس جديد، فتراهم يرسلون إلى كل مساهم خطابات مطولة، فيها اتهامات وانتقادات، وربما شتائم لمجلس الإدارة، ولإدارة البنك.
وعند عقد الجمعية، يتكتلون في القاعة، ويبدأون المشاغبة، ويدفعون بعض الناس معهم ليقوموا بذلك ... ونظل أحيانًا معظم الليل في هذا الجو الخانق المؤلم من الصراع ... والأمير محمد يقابلهم بصبر الحليم، وخلق الكريم، والإنسانية التي تليق بالرجل الكبير، مع أن بعض ما يقومون به يثير الرجل الهادئ، ويغضب الرجل الحليم. وبمثل هذا الحلم والخلق يسود الرجال. ثم ينتهي الأمر دائمًا بفوز مجموعة الأمير محمد؛ لأنها تملك معظم أسهم البنك! وهم يعلمون ذلك تمامًا، ولكنهم يقولون: العيار الذي لا يصيب يترك دويًّا، وكثيرًا ما كنت أستأذن وأنصرف قبل أن تنتهي الجلسة؛ لأني لم أعد أطيق البقاء في هذا الجو الساخن المجهد للأعصاب.
تجربة بنك فيصل الإسلامي بالخرطوم:
وكما قام بنك فيصل الإسلامي بالقاهرة: قام نظيره في الخرطوم، ولكن كان حظه في التهيئة والإعداد البشري أفضل من حظ بنك القاهرة. فقد كان المتحمسون لإنشائه من الإسلاميين المتمرسين، وممن يجمعون بين الوعي الفكري والقدرة على الحركة معًا. وهذا كان له أثره في حسن نشأة البنك أول الأمر، فهم لم يقبلوا كل من تقدم إليهم، بل انتقوا منهم أفضل العناصر الملائمة للعمل المنشود، عن طريق إجراء امتحانات تحريرية، ومقابلات شفوية، تنبئ عن قدرات الشخص المتقدم: الذهنية، والمعرفية، والمهنية، وعن اتجاهاته الفكرية والسلوكية.
ولقد اشترك في وضع هذه الاختبارات: رجال من ذوي الدراسة والكفاية من الشرعيين، والاقتصاديين، والإداريين، والتربويين، منهم: الأستاذ الدكتور جابر عبد الحميد، وكيل جامعة قطر فيما بعد، والأخ محمود نعمان الأنصاري، مساعد الأمين العام لاتحاد البنوك الإسلامية، وزميلي في السكن في عهد الطلب بشبرا، وكان الأمين العام هو الدكتور أحمد النجار، المتحمس لفكرة البنوك الإسلامية وترويجها. ولم يكتف بهذا الامتحان التحريري، فلا بد للمتقدم: أن يجتاز مقابلة شخصية، للجنة مختصة، يظهر فيها ما لا يظهر في الامتحان التحريري.
ومن ينجح في الامتحانين يختار منهم الأفضل فالأفضل، والعرب تقول: من أخصب تخيّر.
ولم يقف الإخوة في السودان عند هذا الحد، بل أقاموا دورة لعدة أسابيع لتثقيف المختارين، بإعطائهم جرعات مركزة في كل الجوانب التي يحتاج إليها العاملون في البنك: شرعية، واقتصادية، وإدارية، ومحاسبية، وسلوكية، يختار لها خبراء متخصصون في سائر هذه الجوانب من داخل السودان ومن خارجها. وقد دعيت للمشاركة في هذه الدورة النافعة، وبقيت في الخرطوم عدة أيام لإلقاء عدد من المحاضرات، والإجابة عن الأسئلة التي يثيرها الدارسون حول النواحي الشرعية.
بهذا كان حظ بنك فيصل السوداني من إعداد العنصر البشري أفضل من سائر البنوك. ولا أدري لماذا لم تستفد البنوك الإسلامية من هذه التجربة الفذة، كلما أرادوا أن ينشئوا بنكًا إسلاميًّا جديدًا! إن العنصر البشري هو المؤثر الأول في نجاح أي مؤسسة، فكيف إذا كانت مؤسسة إسلامية ذات رسالة ربانية إنسانية أخلاقية، بجوار رسالتها الاقتصادية؟ والقرآن يحدد الصفات الأساسية في العنصر البشري المطلوب، بقوله تعالى: {إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ} [القصص: 26] فالقوة: تمثل القدرة على إنجاز العمل والخبرة فيه، وما يتطلبه ذلك من معرفة وثقافة ومهارة.
والأمانة: تمثل الجانب الأخلاقي، الذي يرعى حدود الله، وحقوق الناس، والذي يدفع لإحسان العمل، لإرضاء الله، لا إرضاء الناس، ويجعله يراقب الله في عمله قبل أن يراقب البشر، وهذا يحتاج إلى حسن الاختيار والانتقاء من أول الأمر، فيختار العنصر الصالح، دون محاباة ولا محسوبية، ولا لأي اعتبار غير الكفاية والأمانة.
وبعد ذلك: يكون التدريب المستمر والتوعية الدائمة، ليظل المرء في حالة ترقٍّ أبدًا من حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن. كما هو شأن المؤمن دائمًا، ينشد الأحسن والأمثل في كل شيء، كما قال تعالى: {فَبَشِّرۡ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُ} [الزمر: 17، 18].
بعض إنجازات اتحاد البنوك الإسلامية:
ولقد شعر اتحاد البنوك الإسلامية الذي كان الأمير محمد الفيصل يرأسه، ويقوم بأمانته الدكتور أحمد النجار، بحاجة العاملين في المصارف الإسلامية إلى ثقافة شرعية واقتصادية، فشرع في عمل «موسوعة للبنوك الإسلامية» ضمنها كثيرًا من التوجيهات والدراسات، التي كانت مهمة في بداية نشأة البنوك. وإن كانت البحوث والدراسات المصرفية الإسلامية بعد، قد تجاوزتها كثيرًا.
كما اجتهد الدكتور النجار - برعاية الأمير محمد - أن ينشئ معهدًا لتثقيف العاملين في هذه البنوك، وكان مقره «قبرص» الإسلامية التركية، وظل عدة سنوات، يرسَل إليه أفراد لتدريبهم وتخريجهم، ثم توقّف، لما يتطلبه من تكاليف للدارسين والمحاضرين، وكان الأولى أن يكون في مصر لا في قبرص.
والمهم هنا، هو الشعور العام بالحاجة إلى إمداد العاملين في المصارف - أو البنوك - الإسلامية بما لا بد منه من المعارف والثقافات اللازمة لمن يعمل في هذا الميدان، وهي معارف تنمو وتتطور يومًا بعد يوم، وفي حاجة إلى من يلاحقها ويساير ركبها.
الزيارة الأولى للسودان:
كانت زيارتي للخرطوم بمناسبة إنشاء بنك فيصل الإسلامي، هي الزيارة الأولى للسودان الشقيق، على ما بين مصر والسودان من صلة طبيعية وتاريخية، حتى كان الإمام حسن البنا يقول: السودان هي مصر الجنوبية، ومصر هي السودان الشمالي.
وقد كنا - ونحن طلاب - ننادي بمطلبين وطنيين أساسيين: جلاء الإنجليز عن مصر والسودان جميعًا، ووحدة وادي النيل. وكان من هتافاتنا المألوفة: النيل لا يتجزأ. والحق أني وجدت نفسي في الخرطوم كأني في مدينة في صعيد مصر، ووجدت الإنسان السوداني أقرب شيء إلى الإنسان المصري، فالوحدة بين الشعبين قائمة، ولكن المشكلة في الحكام.
وكانت فرصة للقاء بعدد من الإخوة الذين عرفناهم في أيام الدراسة بالقاهرة، أو جمعنا بهم السجن الحربي، كما التقيت الدكتور حسن الترابي، والشيخ صادق عبد الماجد، وعددًا من قادة الحركة الإسلامية. وقد دعيت لإلقاء محاضرة في جامعة الخرطوم عن موقف الإسلام من الأقليات الدينية في مجتمعه، أعقبتها أسئلة ومناقشات مفيدة.