عيد الأضحى 1397هـ

في سنة 1397 هـ - 1977 م دُعيت من الدوحة إلى القاهرة لأؤمَّ الناس في صلاة عيد الأضحى في ميدان عابدين الشهير، حيث تتجمع عشرات الألوف من الشباب لأداء صلاة العيد حسب السُّنّة في الخلاء لا في المساجد، ليتجمع المسلمون في هذه المناسبة السعيدة، في صورة مهرجان إسلامي بهيج، يحتشد فيها الرجال والنساء والصبيان، فرحين مستبشرين، لا يهتفون باسم مخلوق، ولا يرفعون لافتة بلد أو جنس أو حزب بل يهتفون باسم الله وحده: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد!

وكان الداعي لي هم شباب الصحوة الإسلامية، الذين أثبتوا وجودهم على كل صعيد، ورأوا أن يحيوا هذه السنة، واستجاب الشباب لهم، وصلى بهم في العيد الماضي شيخنا الشيخ الغزالي، وفي هذا العيد يتوقعون حضورًا أكثف، وعددًا أكبر، فاتصلوا بي، وألحوا عليّ أن أحضر لهذا الغرض، لتُوَجّه هذه الوجوه النيِّرة إلى ما فيه خيرهم، وخير دينهم وأمتهم، وحتى لا يُترك الأمر لبعض الخطباء المهيجين الذين لا يضبطون أنفسهم، فيُفلت الزمام، وينقلب الميدان إلى شعلة ملتهبة، ولا سيما أن الجوَّ السياسي يساعد على الاشتعال.

فقد كان الرئيس السادات في ذلك الوقت في القدس للقاء مناحم بيجين، وهو أول لقاء بين رئيس عربي ورئيس إسرائيلي، والعالم العربي كله ثائر، والجو مكهرب. لذا يلزم الخطيب في ظل هذا الحشد الكبير أن يدرك الموقف، وأن يتحكم في نفسه، وأن يستعمل الحكمة ولا يركض وراء العواطف الجياشة: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269).

والواقع أني اعتدت أن أؤم الناس في صلاة العيد في قطر في أحد مصليات العيد المهيأة خارج المساجد، ولا أحب أن أغادر الدوحة في الأعياد. ولكن هذه المناسبة التي ذكرها لي الشباب، وحرصي على ألا أخيب أمل هذا الشباب المؤمن الواعد الصاعد؛ جعلتني ألبي دعوتهم بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، محتسبا هذه الرحلة عند الله سبحانه، وقد قال في شأن أهل الجهاد: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (التوبة: 121).

أجل، لم يكن يسعني أن أتخلف عن دعوة شباب الصحوة، وأنا أعتبرهم أفلاذ كبدي، كما أعتبر الصحوة جزءًا مني، وأمانة في عنقي، وكأني المسئول الأول عنها في العالم! ولقد اتفقت مع الشباب المشرفين على هذا الموضوع: أن أبتعد عن السياسة، وأن أتحدث في القضايا العامة، حتى لا تحدث فتنة، ويخرج الأمر من أيدينا، ورحّبوا بذلك.

وهكذا كان اتجاه خطبتي بعد أن صليت بالناس ركعتي العيد... وأذكر أني قلت في هذه الخطبة: من أراد أن يرى مصر على حقيقتها بدون تزويق ولا تشويه، فليرها هنا، في هذا الشباب، الذي آثر آخرته على دنياه، وآثر الخالق على الخلق... شباب اختارهم الله لنصرة دينه، يحبهم ويحبونه، لا يخافون في الله لومة لائم، تائبون عابدون حامدون، راكعون ساجدون، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، حافظون لحدود الله.. هذه هي مصر الحقيقية، من أراد أن يعرف حقيقة مصر وجوهرها، فلا يبحث عنها في شارع الهرم، ولا في ملاهي الليل، ولكن ليبحث عنها هنا. هذا الشباب هو أغلى ثروة لمصر. إنه أغلى من الذهب الأبيض «القطن»، وأغلى من الذهب الأسود «البترول»، وأغلى من الذهب الأصفر المعروف.

قلت هذا أو نحوه مما لا أذكر تفاصيله*... والعجيب أني منذ نحو عشر سنوات أو أكثر، كنت أتغدى عند أحد الأصدقاء في مدينة أبو ظبي، وهو الأخ الدكتور محمد مرسي عبد الله مدير مركز الوثائق هناك، وقال لي بعد الغداء: تحب أن تعرف ماذا يقول الغربيون عنك؟ قلت: نعم، أحب من غير شك.

فقال: هذا كتاب مؤلف بالفرنسية، حول الصحوة الإسلامية، وقد خصَّك فيه بالحديث، ونقل فقرة مطولة من خطبتك في صلاة العيد في ميدان عابدين... وقرأ علىَّ الفقرة بعد أن ترجمها إلى العربية، وقد نقل نصها حرفيًا.

قلت له: هذه أول خطبة عيد لي في عابدين، ومعناها: أن القوم كانوا يرصدون كل شيء، ولا يدعون الأمور للمصادفات، أو للأمزجة. وكنت بعد الخطبة، قدَّمت أحد قادة شباب الصحوة، ليتحدث إلى جموع المصلين، وأظنه كان الأخ الكريم د. حلمي الجزار، أمير الجماعة الإسلامية بجامعة القاهرة في ذلك الوقت.

وكان من السنن الحميدة التي أرساها هؤلاء الشباب: دعوة المرأة للمشاركة في صلاة العيد، كما كانت في العهد النبوي، وإنما النساء شقائق الرجال، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

وقد خصَّصوا للنساء أماكن، تجمَّعن فيها بعضهن مع بعض، كما أغروا الصبيان والبنات بالهدايا الملائمة ليحرصوا ويحرصن على الحضور والمشاركة... وبعد الصلاة والخطبة والمصافحة: انصرف الجميع بسلام وهدوء.

عيد الأضحى 1398هـ

وبعد عام دعاني الشباب إلى إلقاء خطبة عيد الأضحى في نفس المكان «عابدين»، وكان السادات في ذلك اليوم غائبا عن مصر، حيث ذهب إلى أمريكا، لتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» وكان الجو مكهربًا كذلك، وأكثر قابلية للاشتعال من العيد الماضي.

والعرب كلهم قد أعلنوا معارضتهم للصلح المنفرد، والذي تقوم به مصر مع إسرائيل... والفلسطينيون أنفسهم ساخطون، وكثيرون من الشعب المصري نفسه غاضبون، وفي هذه الحال يصبح الخطيب في هذا الجمع الحاشد، كأنما يمشي على الشوك: وبخاصة أن العدد بدأ يزداد ويتضاعف عن السنة الماضية.

ولقد التزمت منذ أول خطبة: أن أهدئ ولا أثير، وأن أطفئ النار، ولا أضرمها... ومن الخير أن يستمر هذا التجمّع الرباني الخير، ولا نتسبب في فقده بالحماقة والطيش... وأحمد الله أن تمت الصلاة والخطبة بخير وسلام، ولم يحدث ما يعكر الصفو.

الصلاة الحاشدة سنة 1400هـ

واستمرت هذه الصلوات الحاشدة في هذا الميدان الكبير، يصلي الشيخ الغزالي عيد الفطر، وأصلي أنا عيد الأضحى، إلا في إحدى المرات، أذكر أني دعيت إلى عيد الفطر، وحضرت من الدوحة في أواخر رمضان، إلى أن جاءت سنة 1400 هـ (1980 م). وفي هذا العيد تجمَّعت حشود هائلة ملأت الميدان، كما ملأت كل الطرق المؤدية إليه من جهاته الأربع، حتى إني اضطررت إلى أن أترك سيارتي بعيدًا عن الميدان، وأتخطى الرقاب في مسيرة طويلة إلى المنصة. وقبل ذلك كنت أصل بالسيارة التي تحملني إلى قرب المنصّة.

وكنت أمدّ بصري إلى الأمام وإلى اليمين وإلى اليسار، فلا أجد إلا بشرًا متلاحمين، متزاحمين، ولا أسمع إلا التكبير المأثور: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ولقد علق الرئيس السادات رحمه الله على هذا التجمُّع، فقال: إنهم يقدرونه بربع مليون، وأنا أقول: إنه لا يزيد على مائة ألف! تهوينًا من شأنه!! والحق أنه يزيد في نظري عن نصف مليون. وإن كان أحد لا يستطيع ان يقدره تقديرًا صحيحًا؛ لأن الذي يقدر ينظر غالبًا إلى من في الميدان، ولكن الحشود زحمت كل الطرقات المؤدية إلي الميدان من مشرق ومغرب وشمال وجنوب.

وكنت أنظر من حولي، فأجد كاميرات التصوير معلقة هنا وهناك، تصور الجموع وتصور الصلاة، والخطبة والخطيب، وتسجل كل شيء بدقة. وكنت أقول في نفسي: مَنْ هؤلاء المصورون؟ ولحساب مَنْ يصورِّون؟ لا يمكن أن يكونوا مصريين؛ لأن الإعلام المصري لا يهتم بهذه الصلاة، ولا يذكر عنها حرف واحدًا في الصحف أو في التلفزيون، ثم عرفت بعد ذلك أنهم أوربيون وأمريكيون.

.....

* انظر «خطب الشيخ القرضاوي» (1/272)، نشر مكتبة وهبة.