زيارتي البحرين وتعرُّفي على عدد من علمائها:

كانت البحرين من بين بلاد الخليج التي زرتها منذ سنة 1962م، أي: بعد سنة من قدومي إلى قطر، وتعرفت على عدد من علمائها، ومنهم القاضي الجليل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز المبارك، ومنهم الشاب النابه في ذلك الوقت الشيخ يوسف الصديقي.

كما عرفت من أبناء الدعوة الإسلامية الأخ الكريم والمربي الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجودر، الذي كان يتميَّز بدماثة الخلق، وسلاسة الطبع، ورقة القلب، واستقامة السلوك، والغيرة على الدين، والرغبة في الخير والإصلاح، وحمل هم الدعوة الإسلامية، ونشرها بالحكمة والموعظة الحسنة.

كان الشيخ عبد الرحمن قد تعلم في مصر، ولقى الإمام الشهيد حسن البنا، وأخذ عنه الدعوة، وعاد إلى البحرين - بعد الفراغ من دراسته - ناشرًا لها، فأنشأ بعد عودته - مع بعض رفاقه وأصدقائه وكلهم خيار من خيار: قاسم الشيخ، وأحمد المولود، ومبارك الخاطر، وصالح عبد الرزاق وغيرهم - «نادي الإصلاح» الذي كان يُعَدْ أول دار للدعوة في الخليج.

الشيخ عيسى بن حمد آل خليفة:

وقد انضمَّ إليه بعد عودته من مصر، وتخرجه في كلية الحقوق، عضو مهم من شباب الأسرة الحاكمة، هو الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة الذي جاء حباه الله من الفضائل ما جعله محُبَّبًا إلى كلُّ مَنْ عرفه، وكأن الشاعر حافظ إبراهيم قصده حين قال:

والناس هذا حظه مال، وذا     علم، وذاك مكارم الأخلاق

فإذا رزقت خليقة محمودة       فقد اصطفاك مقسم الأرزاق

فقد رزقه الله مجموعة من الخلائق المحمودة: التواضع والسماحة والاستقامة، والرفق والسهولة، والغيرة على الحق، والتمسك بالدين... وقد تولى منصب الوزارة أكثر من مرة، فما زاده ذلك إلا تواضعًا، وقربًا من الناس، وتفانيًا في خدمتهم، وتقديم الخير لهم.

نادي الإصلاح:

وكان النادي يقوم بخدمات جليلة للمواطنين، ولا سيما لجيل الشباب، الذي يمثل مستقبل الوطن والأمة، يعلمهم الإسلام الصحيح بعيدًا عن الغلو والتسيُّب، ويربطهم بتراث الأمة الثقافي والحضاري، في غير تعصب ولا إعراض، كما يصلهم بالعصر وحضارته وإنجازاته في مختلف الميادين، ويحميهم من التيارات الهدامة والغازية التي تريد أن تقتلعهم من جذورهم العقدية، ومن هويتهم الدينية والحضارية.

جمعية الإصلاح الاجتماعي:

ولكن المبنى ضاق بأنشطته المتعددة والمتنوعة والمتطورة باستمرار، فقررت الدولة أن تمنح النادي أرضًا، وتقيم عليها مبنى حديثًا يتسع لمجالات النشاط والعمل الدعوي والفكري والخيري والاجتماعي، وأن تهبه للنادي الذي أثر أن يغير اسمه إلى «جمعية الإصلاح الاجتماعي» تأسيًا بإخوانه في دولة الكويت التي سبقت بتأسيس جمعية بهذا العنوان.

إمكانية التفاهم بين الدولة والجمعيات الإسلامية:

وكان هذا نموذجًا يُحتذى في إمكانية التفاهم والتعاون بين الدولة والجمعيات الإسلامية الشعبية، ما دامت الأهداف واضحة، والمناهج محددة، والنيات صادقة، والاتجاه إلى خدمة الدين والوطن وإصلاح المجتمع والرقي بالأمة بين المعالم، لا لبس فيه ولا غبش.

وهو أوْلى من حسبان الصدام بين الطرفين حتميًّا، يستحيل تجنُّبه، فهذا يمكن قوله في البلاد التي تقف موقفًا معاديًا للدين ودعاته، وللشريعة وعلمائها. ومعظم بلاد المسلمين ليست كذلك، وبخاصة دول الخليج.

لا يفهم من كلامي أني أدعو إلى أن يسير الدين في ركاب الدولة، وأن تكيّف الحركة الإسلامية أهدافها ومناهجها لخدمة السلطة، وأن يصبح علماء الشريعة أبواقًا للحكومات العلمانية، وأن يحرقوا البخور بين يدي أصحاب السلطان، وإن كانوا من الجبابرة المستكبرين في الأرض، المسلَّطين على رقاب العباد {ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ . فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ} [الفجر: 11، 12]. فالدين يجب أن يكون هو المخدوم لا الخادم، والعلماء يجب أن يكونوا ألسنة للحق، وهداة للخلق، ونَصَحَة للحكام، كما قال تعالى: {وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [آل عمران: 104].

تعايش دعاة الإسلام مع النظام الحاكم المعتدل:

ولكن الذي أدعو إليه وأؤكده: أنه في كثير من البلاد التي يشيع فيها جو الحرية ومناخ الديمقراطية، ويتمكَّن دعاة الإسلام من عرض دعوتهم بلا قيود ولا تضييق، يمكنهم أن يتعايشوا مع النظام الحاكم، دون افتعال للصراع أو سعى إليه بغير ضرورة. والرسول صلى الله عليه وسلم  يقول: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية»*. وهذا في العدو الكافر المحارب، فكيف بالحكام وهم مسلمون أبناء مسلمين، يحكمون بلادًا إسلامية وشعوبًا إسلامية؟

لقد دُعيت إلى الحضور والمشاركة في افتتاح الجمعية برعاية أمير دولة البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله  وبحضوره شخصيًّا، وحضور أخيه رئيس وزرائه الشيخ خليفة بن سلمان، وولى عهده الشيخ حمد بن خليفة (ملك مملكة البحرين اليوم). وكان الافتتاح عصر يوم الثلاثاء 27 رجب 1403هـ الموافق 10 مايو 1983م.

ودُعي عددٌ كبيرٌ من الشخصيات الإسلامية والعامَّة من العالم العربي والإسلامي، ولا سيما من دول الخليج العربية: السعودية والكويت وقطر الإمارات وعمان.

وكان هذا اليوم عرسًا للبحرين حقًّا، وكان هذا مما يحسب لأمير البحرين وحكومة البحرين.

مع أمير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة:

وأذكر أني سلَّمت على أمير البحرين وهنأته وشكرته على ما قام به نحو الجمعية ونحو تشجيع الدعوة الإسلامية، وباركت له هذا التوجه المحمود من الدولة ... وقد رد تحيتي بأحسن منها، وصافحني - بل عانقني بحرارة - وقال بتواضع: أنا من المتابعين لبرامجك في تلفزيون قطر، ولخطب الجمعة، والمعجبين بما تُقدِّمه للمسلمين، واعتبرني من تلاميذك هنا. واعتبر البحرين بلدك مثل قطر، ونحن أهلك فيها، وأرجوك أن تواصلنا ولا تنقطع عنا.

قلت له: يا طويل العمر، أنا منكم، وأنتم مني، وأنا أجد كثيرًا من الرسائل التي تأتي إلى برنامجي في التلفزيون من البحرين، فليس هناك حاجز بيني وبين أهلها.

وفعلًا كنت كلما حضرت إلى البحرين في اجتماع للمصارف الإسلامية أو في محاضرة لجمعية الإصلاح، أو إجابة لدعوة من وزارة الأوقاف، حرصت على زيارة الأمير الشيخ عيسى بن سلمان. وكثيرًا ما أكون في صحبة أخي وصديقي الشيخ عيسى بن محمد رئيس جمعية الإصلاح.

وكان الشيخ عيسى رحمه الله  غاية في التواضع واحترام العلماء، فبمجرد أن يراني داخلًا من باب مجلسه ينهض من المجلس ويهرع إليّ في بهجة وسرور، ويصافحني ويعانقني، ويبالغ في الترحيب بي، من غير صنعة ولا تكلّف ... وما له يتصنع أو يتكلف لي، وليست له مصلحة عندي؟! إنها الأخلاق العالية، والمكارم الأصيلة عند الرجل وقد ظلَّ معي هكذا محبة واحترامًا، وحتى انتقل إلى جوار ربه، رحمه الله رحمة واسعة.

رئيس وزراء البحرين وولي العهد:

وبمثل هذه الروح، أو قريبًا منها، لقيني رئيس وزراء البحرين الشيخ خليفة بن سلمان، وولي عهد البحرين الشيخ حمد بن عيسى، وكلاهما سلَّم عليَّ بإقبال وقوة، وأكَّد لي أنه يتابع برنامجي الذي يُبثُّ من قطر، وعَتَبا عليَّ: لماذا لا أزور البحرين، وكل أهلها محبون لك، متتلمذون عليك؟ ووعدتهم أن تستمر صلتي وزياراتي للبحرين في المستقبل إن شاء الله.

وقد تجوَّلنا في مبنى الجمعية، وهو مبنى واسع من عدة أدوار وفيه ساحات للرياضة، وقاعة كبيرة للمحاضرات، وفيه مجال للنشاط النسائي والنشاط الشبابي. وبقيت بعد الافتتاح إلى أن ألقيت محاضرة في المبنى الجديد تحت عنوان: «الشباب عدة اليوم وأمل المستقبل»، ثم ودعت الإخوة وعدت إلى قطر بحمد لله.

وقد تعودت الجمعية بالبحرين أن تدعوني في مناسبات شتى إلى إلقاء محاضرات في قاعتها الفسيحة المجهزة، يحضرها الرجال والنساء، وهذا يحسب لهم: أن المرأة ليست غائبة ولا مغيبة عن نشاط الجمعية.

ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت

من أنفع المؤسَّسات الإسلامية العلمية التي ظهرت في القرن العشرين: «المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية»، وهو مؤسسة كويتية المنشأ، عالمية الاتجاه، إسلامية المنطلق والمنهج.

وهي بلا مجاملة تعدّ من المنجزات والحسنات التي تضاف إلى الكويت ضمن المؤسسات التي أنشأتها واحتضنتها، مثل الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وموسوعة الفقه الإسلامي، ولجنة مسلمي إفريقيا، وبيت الزكاة، واللجنة العليا لاستكمال تطبيق الشريعة، وغيرها.

وقد رأس هذه الهيئة منذ تأسيسها الأخ الكريم والصديق العزيز، صاحب الهمة العالية، والقلب الطموح، الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي، وكان ساعده وعضده الأيمن من أول يوم الأخ الفاضل، الشعلة المتوهجة، الطبيب المصري المقيم في الكويت منذ أمد طويل، الدكتور أحد رجائي الجندي، الذي يعمل أمينًا عامًا مساعدًا للمنظمة، وهو المسئول عن إدارتها وتنظيم شئونها، واختيار موضوعاتها، وتنفيذ برامجها، وتحقيق أهدافها.

كان مما سنَّته المنظمة، وهي سنَّة حسنة لها أجرها وأجر من اتَّبعها فيها: الجمع بين علماء الفقه وعلماء الطب ومن يساعدهم من علماء البيولوجيا ونحوهم، يجتمعون في صعيد واحد لعدة أيام، يعرض فيها علبهم الموضوع الذي يراد بحثه لبيان حكمه شرعًا من ناحية الفقهاء، بعد أن يعرضه عليهم الأطباء ويشرحوه شرحًا تفصيليًا، ويتم فيه نقاش حرّ بين الفريقين، وبعد الأخذ والرد، والجذب والشد، يلتقي الجميع عادة على كلمة سواء، وعلى نقطة التقاء، يخرجون بها على الناس، يكون فيها النفع والخير للمسلمين، بل ولغير المسلمين.

حدث ذلك في قضية الإسلام والإنجاب، وقضية بداية الحياة ونهايتها، ومسألة موت الدماغ، وقضية زرع الأعضاء. وقضايا أخرى كثيرة.

بحثي في حكم «بنوك الحليب»:

بدأتُ المشاركة في المنظمة منذ ندوتها الأولى: الإنجاب في ضوء الإسلام، وقد طلب مني أن أكتب عن «بنوك الحليب» التي تجمع كميات كبيرة من اللبن، من أمهات لا يعرف من هنّ، فهل يترتّب على ذلك التناول للحليب ما يترتَّب من أحكام الرضاع من تحريم؟ وكيف هو لا يعرف من أرضعته أو شاركت في إرضاعه من النساء؟ وهل يترتب عليه أن يحرم عليه الزواج من بنات المرضعات كلهن؟ وفي ذلك من الحرج ما فيه؟

أفتى بذلك أكثر العلماء المشاركين في الندوة، أخذًا بالاحتياط، وعملًا بمقتضى الورع، ولكني رجَّحت في بحثي رأيا آخر، أجزت فيه ما تقوم به هذه البنوك، ولم أرتّب عليه ما رتَّبه الآخرون من آثار من تحريم الزواج ونحوه.

وحُجَّتي أولًا: الرضاعة الحقيقية في اللغة التي نزل بها القرآن، وجاء بها الحديث: هي امتصاص اللبن من الثدي عن طريق الفم، وهذا له إيحاؤه وأثره في تحقيق الأمومة، التي هي أساس التحريم في الرضاع {وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ} [النساء: 23].

أما ما كان عن طريق الشرب من كأس أو فنجان أو الحقن أو غير ذلك فلا يعتبر رضاعًا شرعيًا، تنشأ عنه الأمومة، وهذا مذهب الليث بن سعد، ومذهب الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد.

وحجتي ثانيًا: أن الحديث اصحيح يقول: «خمس رضعات مشبعات معلومات يحرمن»(2). ومعنى «معلومات»: أن تكون المرضعة معلومة، وسن الرضاع معلومًا، وهو ما دون الحولين، وعدد الرضعات معلومًا، وهو ما لا يقل عن خمس، إلخ.

وهنا لا تعلم من أرضعته، ولا كم أخذ من لبنها: أهو قطرة أم قطرات أم أكثر.

وثالثًا: أن اختلاط اللبن بعضه ببعض لم يجعل له حكمًا مؤثرًا.

ورابعًا: أن القوم المحرَّم إذا أخذ بالأحوط، فإنَّ هذا الرأي يأخذ بالأيسر، وأعتقد أنه إذا تعارض الأحوط والأيسر في مثل هذه الأمور التي تتعلق بمطالب المجتمع، وحاجات الناس، ومصالح الخلق، فإن الترجيح يكون للأيسر، كما جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم  عن مسلم: أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.

وهذا هو منهجي الذي اخترته في فقهي وفي فتاواى: ترجيح الأيسر على الأحوط، إذا تكافأ القولان أو تقاربا.

وهو ما أيدني فيه الطبيب العالم الباحث الأديب الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، ومن أراد أن يراجع الموضوع، فليقرأ الجزء الثاني من كتابي «فتاوي معاصرة» فتوى «بنوك الحليب»، وليقرأ محاضر جلسات هذه الندوة.

..................

(1) متفق عليه: رواه البخاري (2744) ومسلم (3276) كلاهما في الجهاد والسير عن عبد الله بن أبي أوفى.

(2) رواه مسلم في الرضاع (1452) عن عائشة.