مشاركة مثمرة وإقبال كبير:

كانت مشاركتي الأولى في ملتقى الفكر الإسلامي السادس عشر في تلمسان: مشاركة مثمرة، وكان إقبال الناس عليّ كبيرًا، مما أخجلني وحمَّلني بمشاعر أعجز عن التعبير عنها، وبنعم أحمد الله عليها، وأسأله أن يزيدني منها ويثبتها، ويُوزعني أن أشكرها.

وكان الجميع، وعلى رأسهم الشيخ عبد الرحمن شيبان: يؤكدون على ضرورة وجودي في الملتقيات القادمة، وألا أغيب عنها، ما لم يقهرني قاهر لا أقدر عليه.

ولذلك رتَّبت أموري على حضور ملتقى قسنطينة في شوال 1403هـ يوليو 1983م، وقد أعلن عن موضوعه، وهو «الاجتهاد» وأعددت بحثًا في الموضوع.

وشيء آخر ألزمني بحضور ملتقيات الجزائر، وهو: ما لمسته من أثر غير عادي، وتجاوب غير عادي من شباب الجزائر، ومن إقبالهم عليّ إقبالًا أخجلني وسرّني في الوقت نفسه. وليس هناك شعور بالسعادة يحسّه المرء مثل أن تشعر بحبّ الناس لك، وأنهم لا يحبُّونك لمصلحة خاصة، فهذه نعمة جليلة من الله على عبده. ومن شكر هذه النعمة أن نقابل الحب بمثله. والمصريون يرددون في ذلك زجلًا لشاعر شعبي معروف، اسمه ابن عروس، يقول فيه:

من حبنا حبناه             وصار متاعنا متاعه

ومن كرهنا كرهناه        يحرم علينا اجتماعه

فلا غرو أن أعددت العدّة للسفر إلى الجزائر، ولا سيما أن الدعوة قد بلغتني مجدَّدًا، والتذكرة قد وصلت، وقد أعددت البحث المطلوب للملتقى بحمد الله وتوفيقه.

وفي الموعد المحدَّد سافرت من القاهرة إلى الجزائر، حيث كنت مع الأسرة نقضي الإجازة - كالعادة - في مصر.

وصلت إلى مطار الجزائر، فوجدت الإخوة كالعادة في استقبالي، وقد أوصلوني إلى فندق الأوراسي، وفي الجناح المجاور للشيخ الغزالي، كما في المرة السابقة، وأنعم به من جوار، والمثل يقول: من جاور السعيد يسعد. وأنا أحب الغزالي من قديم، وأسعد بالقرب منه دائمًا، فالقرب منه قربة إلى الله تعالى.

إلى قسنطينة بلد ابن باديس ومكان ملتقى الاجتهاد:

وصلت إلى الجزائر العاصمة قبل موعد الملتقى بيومين أو ثلاثة، وانتهز الإخوة وجود فسحة في الوقت قبل الذهاب إلى مكان الملتقى، فرتبوا لي محاضرة في أحد المساجد الكبرى، وقد ذهبت إلى المسجد في الموعد المحدد، فوجدت بحرًا زاخرًا من الشباب والشابات امتلأ بهم المسجد وساحاته، وقد قدر العدد بأكثر من عشرين ألفًا. وكانت استجابتهم رائعة، وحماستهم دافقة، وهتافاتهم بالتكبير والتهليل تكاد تبلغ عنان السماء.

وقبل يوم الافتتاح أقلَّتنا طائرة خاصّة - نحن المدعوين إلى الملتقى - مع وزير الشئون الدينية الشيخ عبد الرحمن شيبان تلميذ ابن باديس الوفي، ورجاله إلى مقر الملتقى في قسنطينة.

وقسنطينة نسبة إلى قسطنطين إمبراطور الروم الشهير الذي انتقل من الوثنية إلى النصرانية، وإن لم يتنازل عن كل وثنيته، التي طعَّم بها النصرانية. ولذا علق بعض علمائنا قديمًا فقال: إن روما لم تنتصر، ولكن النصرانية تروّمت!

وإلى هذا الملك تنسب أيضًا مدينة القسطنطينية الشهيرة، عاصمةالدولة الرومانية البيزنطية، لعدة قرون، والتي افتتحها العثمانيون عام 1453م، وسميت إسلامبول أو إستنابول.

هذه المدينة هي التي شهدت انطلاقة المصلح الجليل، والمجدِّد الكبير، الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ 1940م) مؤسس جمعية العلماء، ومحيي النهضة الجزائرية، ومؤسس مجلة «الشهاب»، التي عرفناها من خلال العدد الأول من مجلة «الشهاب» التي أسسها الإمام حسن البنا سنة 1947م، وقال: أرجو أن تكون خلفًا لشهاب ابن باديس.

كانت جمعية العلماء هي حاملة لواء الإحياء والبعث للشعب الجزائري، بإحياء إيمانه بدينه ولغته العربية، وهما أساس وجوده الديني والقومي، وألَّف في ذلك ابن باديس نشيده الذي كان يحفظه الشباب الجزائري ويرددونه:

شعب الجزائر مسلم     وإلى العروبة ينتسب

من قال: حاد عن أصله     أو قال: مات فقد كذب

وكان مع ابن باديس صفوة من علماء الجزائر الذين تعاهدوا على أن ينهضوا ببلدهم، برغم وجود الاستعمار الاستيطاني المتسلط المتجبر «الاستعمار الفرنسي»، الذي آلى على نفسه أن يذوِّب «هُويَّة» الجزائر، بإنسانها ودينها ولغتها، فأبى هؤلاء العلماء إلا أن يفسدوا عليه خطته، ويحبطوا مكره الكبير، بإمكاناتهم القليلة، ولكن معهم إيمانهم بالله، وثقتهم بالشعب، وأملهم في الغد.

على رأس هؤلاء العلماء أمير البيان ببلاد المغرب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رفيق الشيخ ابن باديس في حياته، وخليفته من بعده، ومنشئ مجلة «البصائر» الشهيرة، والشيخ العربي التبسي، وغيرهما.

في قسنطينة كان النشاط الأساسي للشيخ ابن باديس، وفيها مسجده الأخضر، الذي ألقى فيه تفسيره للقرآن الكريم حتى ختمه.

ولا تزال هذه المدينة تغلب عليها نزعة المحافظة على الدين والتراث، من آثار المدرسة الباديسية وتلاميذها حتى اليوم.

كان موعدنا إذن مع ملتقى الفكر الإسلامي الثامن عشر في قسنطينة شرقي الجزائر، وموضوعه «الاجتهاد».

كان المسئولون في وزارة الشئون الدينية قد دعوا إلى ملتقى للقرآن الكريم في عام 1981م، ولم أشهده، وإلى ملتقى للسنة الثانية في مدينة تلمسان 1982م وقد سعدت بشهوده والمشاركة فيه.

واليوم نستكمل هذا التوجُّه بالدعوة إلى «ملتقى الاجتهاد» فالقرآن والسنة مصدران يمثلان الوحي الإلهي: الوحي المتلو «القرآن»، والوحي غير المتلو «السنة»، أو الوحي الجلي والوحي الخفي، ولكن الاستفادة من الوحيين لا تتم إلا بالاجتهاد.

وقد زعم زاعمون أن باب الاجتهاد قد أغلق منذ قرون بعد الأئمة المتبوعين، وبخاصة الاجتهاد المطلق، ولكن الاجتهاد باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يملك أحد أن يغلقه.

وفي كل عصر قد وجدنا علماء كبارًا قد بلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق، وامتلكوا شروطه وأدواته، وإن لم يعلنوا أنهم مجتهدون.

وفي أواخر القرن التاسع الهجري، وأوائل القرن العاشر: ادعى الإمام المصري الحافظ الكبير، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911هـ) الاجتهاد المطلق، وأنكر عليه ذلك كثير من علماء عصره، الذين حصروا أنفسهم في دائرة التقليد، فتحداهم بكتابه المركّز القيم، الذي سمّاه «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض»!

وقد ذكر في هذا الكتاب جملة وافرة من العلماء الذي ارتقوا إلى درجة الاجتهاد، وأُثرت عنهم اجتهادات خالفوا فيها مذاهبهم التي ينتسبون إليها.

ومن هنا: نرى أن الإخوة في الجزائر قد وفّقوا في اختيار هذا الموضوع الحيوي، وقد دعوا إليه نخبة من العلماء المهتمين بقضايا الفكر والاجتهاد، وعلاج مشكلات العصر في ضوء الشريعة الإسلامية، التي يعلن الجميع أنها صالحة لكل زمان ومكان. وإنما تصلح الشريعة بإحياء الاجتهاد. أما الجمود والتقليد والتعصب فلا تحيا بها شريعة، ولا تنهض على أساسها أمة.

شرح الاجتهاد: أن يكون من أهله في محله:

الاجتهاد كما أرى: فريضة وضرورة. فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع. وبغير الاجتهاد سنظل في مكاننا لا نتحرك ولا نتقدم، ولكن جمودنا ووقوفنا في مكاننا: لن يمنع الفلك من التحرُّك، ولا الأرض من الدوران... سيتطوَّر العالم من حولنا، ونبقى جامدين، والعيب ليس في شريعتنا، ولكن العيب فينا نحن: في عقولنا المتحجّرة، أو في عزائمنا الواهية.

ولكن المهم كل المهم: أن الشرط الأساسي في الاجتهاد الذي نسعى إليه: أن يكون صادرًا من أهله في محله، حتى يحوز القبول، ويمكن العمل به.

ومعنى «من أهله»: أن يكون المجتهد مستوفيًا لشروط الاجتهاد، التي فصّلها علماء أصول الفقه في كتبهم. وهي ليست مستحيلة على من نذر نفسه للعلم، وكان ممن آتاه الله الفطنة والبصيرة. فربط نصوص الشرع الجزئية بمقاصده الكلية، وجعل التراث الفقهي منارًا يهديه، لا قيدًا يعوقه، واستفاد من تراث الماضي لعلاج مشكلات الحاضر، وذلك بعد تضلّعه من علوم الشرع ومن علوم اللغة التي هي آلة لفهم الشرع. كما استنار بمعرفة العصر وثقافته وتياراته، فجمع بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر. وعلم أنَّ للضرورات أحكامها، وأنَّ الله يُحبُّ أن تُؤْتى رخصه، وأنه يريد بعباده اليُسْر، ولا يريد بهم العُسْر، وأنه ما جعل عليهم في الدين من حرج.

ومعنى: أن الاجتهاد «في محله»: أنه في الدائرة التي يجوز فيها الاجتهاد، وهي دائرة «الظنيات» من النصوص، أو الدوائر التي لم يرد فيها نص ملزم، وهي ما سميناه «منطقة العفو» أخذًا من حديث: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا. ثم تلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} [مريم: 64]»(1).

أما دائرة «القطعيات» التي فصلت فيها نصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، فقد حُسم فيها الأمر، ولا مجال للاجتهاد فيها، وهي التي أجمعت عليها الأمة، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت تُجسِّد وحدة الأمة العملية والسلوكية، بجوار وحدتها العقدية.

وهذه القطعيات هي التي تمثِّل «الثوابت» التي تحدد هوية الأمة وشخصيتها العقدية والفكرية والأخلاقية، فلا يجوز لمدّع - باسم الاجتهاد - أن يخترقها أو يجور عليها.

اقتراح بعضهم صلاة الجمعة في يوم الأحد:

ولهذا رفض المشاركون كافّة: ما انتهى إليه اجتهاد أحدهم - وهو الأستاذ ظافر القاسمي من سوريا وهو مؤرخ وباحث وابن العلامة جمال الدين القاسمي الشهير - وهو خاص بصلاة الجمعة في يوم الأحد.

ذكر الأستاذ القاسمي: أنه كان في سفرة إلى أمريكا، ووجد هناك أحد المسلمين الأخيار من الأثرياء، وقد وفقه الله لبناء مسجد يصلي فيه المسلمون ما يسَّر الله لهم من الصلوات الخمس، ومن صلاة الجمعة.

ولكن يوم الجمعة يوم عمل في أمريكا، فلذا كان الاجتهاد الذي طرحه الأستاذ: أن يصلي المسلمون الجمعة في يوم الاحد، يوم إجازتهم.

ورأى الإصرار على صلاة الجمعة في يوم الجمعة من «الجمود» الذي يجب أن نتجاوزه في عصرنا، لنقدر على حلَّ مشكلاتنا.

كما رأى أننا لو أخذنا برأي العلامة الطوفي الحنبلي (722هـ) في تقديم المصلحة على النص، لحللنا هذه المشكلة، وغيرها من مشاكلنا العصرية!!

اعترض العلماء الحاضرون جميعًا على الأستاذ القاسمي، ولم يشفع له: أنه ابن الشيخ جمال الدين علّامة الشام، وصاحب «محاسن التأويل في تفسير القرآن، وقواعد التحديث في علوم الحديث» وغيرها.

وكنت ممن اعترض على الأستاذ القاسمي في عدة نقاط أساسية:

أولها: أن هذا اجتهاد في غير محله، لأنه اجتهاد في أمر قطعيّ، ثابت بالقرآن والسنة وإجماع الأمة بكل طوائفها ومذاهبها. فقد حدّدت جميعًا لصلاة الجمعة يومًا ووقتًا، فمن لم يستطع الصلاة في اليوم المحدَّد، والموعد المحدَّد: سقطت عنه الفريضة، للعذر. ومن لم يمكنه أن يصلي الجمعة صلاها ظهرًا بالاتفاق.

وقد قلت للأستاذ: ماذا تسمي هذه الصلاة المقترحة: أنسميها «صلاة الأحد» أم «صلاة الجمعة»؟

وماذا تقول في قوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} [الجمعة: 9]؟ أنغير كلمة «الجمعة» إلى كلمة «الأحد»، وهل نسمِّي السورة «سورة الجمعة» أو «سورة الأحد»؟!

ثانيًا: ما ذكره الأستاذ عن الطوفي لا يمثِّل حقيقة مذهبه في المصلحة:

أ - فهو أولًا: لا يعتدّ بالمصلحة في أمور العبادات، لما فيها من اعتبار التعبُّد والتقرُّب إلى الله، بغض النظر عن المصالح وغيرها، وسواء أدركنا العلة فيها أم لم ندركها وكذلك المقدَّرات.

ب - وهو ثانيًا: لا يقدِّم المصلحة على النص القطعي الثبوت والدلالة، كما توهم بعضهم ممن لم يجمع كلامه كله، ويربط بعضه ببعض. «وقد أثبتنا بطلان هذا القول القاطع من كلامه في كتابنا «السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها»».

فهذا اجتهاد مردود، وآفة كثير من الاجتهادات المردودة: أنها تصدر من غير متخصَّصين، بل من أناس مثقفين أقحموا أنفسهم على الشريعة، وهم لم يتفقهوا في علومها، بعضهم أساتذة تاريخ، وبعضهم أساتذة أدب، وبعضهم أساتذة فلسفة تصوف أو غير ذلك(2). والمشكلة التي ذكرها الأستاذ القاسمي في أمريكا قد حلَّها المسلمون هناك: أن من استطاع صلاة الجمعة صلاها، ومن لم يستطع اجتمع مع إخوانه يوم الأحد في محاضرات ونشاط ثقافي ودعوي وتربوي يستغرق اليوم كله.

كلمة من بعض العلماء اعتذر عنها:

وكان من المدعوين للملتقى فضيلة الشيخ الدكتور عبد المنعم النمر العالم المصري المعروف، والذي رأس تحرير مجلة «الوعي الإسلامي» بالكويت لعدة سنوات ونهض بها، والذي أصبح وكيلًا للأزهر بعد ذلك، وكان له رأي في بعض القضايا أيدته فيه، نسيت في أيّ شيء كان، ولكن فوجئت بأن بعض إخواننا من العلماء المشاركين من بلاد الشام، يقول لي: أن كان ابن بلدك تؤيده وتسانده! فقلت له: سامحك الله يا دكتور، إنَّ بلدي هو الإسلام، فحيثما ارتفعت المآذن تعلن أن لا إله إلا الله محمد رسول الله كان هناك بلدي، ولكني أؤيد ما أرى أنه الصواب أو الأصواب، ولو كان من بلاد واق الواق!

وكان للشيخ النمر اجتهادات في أمور أخرى حول السنة، وحول الفوائد الربوية، وغيرها، عارضته فيها بقوة وصراحة، ورددت عليه بما لم يستطع الآخرون أن يردوا عليه. فجاء أخونا، وقال: اسمح لي يا فلان، أنا آسف على الكلمة التي قلتها من قبل. فوالله لقد رأيتك تقول الحق دون اعتبار لبلد أو نسب. وكان هذا من إنصافه ورجوعه إلى الحق، واعترافه بالخطأ، غفر الله له وهي شجاعة أدبية يُحمد عليها.

بحثي في الملتقى:

شاركت في الملتقى بإلقاء بحثي، وبالتعقيب على بحوث المشاركين، والردود على أسئلة الطلاب والطالبات في الجلسات المخصصة لهم. وقد حضر هذه المرة منهم أعداد أكبر ممّن حضر في الملتقى السابق، وقد خصوني بعدد أكبر من الأسئلة.

النشاطات المصاحبة للملتقى:

كما شاركت في الأنشطة المصاحبة للملتقى من لقاء الطلاب والطالبات في المساء حيث يقيمون في مواقعهم أو مواقعهن، وفي إلقاء بعض المحاضرات الجانبية، وفي إلقاء كلمة قبل الجمعة في المسجد الذي تذاع فيه الخطبة، حيث يمنع المذهب المالكي السائد في الجزائر: أن يكون المسافر إمامًا للمقيمين في الجمعة.

وكان إقبال الطلبة عليّ في هذا الملتقى أكثف من قبل، وخصوصًا في الاستراحات، فيجتمع الشباب من حولي لتوجيه أسئلة، أو أخذ صورة معي. وكان رجال الأمن هذه المرة قد تنبهوا لوجودي، فكلما وجدوا الشباب من حولي يتحدثون إليّ أو يستمعون إليّ: حاولوا أن يفرقوهم عني برفق، بحجة الإشفاق عليّ، قائلين: ارفقوا بالشيخ، لا تزعجوا الشيخ.

كما كان بعضهم يزورني في حجرتي كلما تيسَّر لهم ذلك، وقلما كنت أمكث في الحجرة.

الإذن بنشر كتبي في الجزائر:

وجاء الناشرون يطلبون مني الإذن بنشر كتبي في الجزائر، قلت لهم: ولماذا لا تأخذونها من ناشريها في المشرق؟

قالوا: هناك قيد مشدَّدة على تحويل العملة تجعلنا لا نستطيع الوفاء بحقوق الناشرين المالية. وفي معارض الكتب تأتي من كل كتاب عشرات، أو حتى مئات، فيهجم طالبوا الكتب الإسلامية عليها فتنفد بعد ساعات. حتى كان بعض الشباب يبيت أمام المعرض، لتكون له الفرصة الأولى، لأن المعروض قليل، والمطلوب أضعاف ما هو معروض.

ولذلك لم أجد بدًّا من الإذن لهم بنشر بعض كتبي، واشترطت عليهم ألا ينشروها خارج الجزائر، حفاظًا على حقوق الناشرين الأصليين في مصر وبيروت.

وفي كل سنة يزداد الإقبال على نشر الكتب، وقال لي بعض الناشرين: إن نشر الكتب الإسلامية هو الشيء الوحيد المسموح لنا به. أما ما عدا ذلك فهو ممنوع، لا أحزاب، لا جمعيات، لا نقابات.

قلت: إن نشر الكتب الأصيلة وإرخاص سعرها، وتعميمها على القراء: جدير أن يحدث ثورة ثقافية! وقد فعلوا مع الشيخ الغزالي والشيخ البوطي مثل ما فعلوا معي.

تعريب التعليم:

وأريد أن أشير هنا إلى حقيقة مهمة قد تخفي على كثيرين، وهي: أن الصحوة الإسلامية التي نبتت في الجزائر، ثم اشتدّت وامتدّت، إنما هي ثمرة طيبة لبذرة طيبة، هذه البذرة هي التي أنبتت شجرة باسقة الفروع، وارفة الظلال، هي: تعريب التعليم العام، أعني: تحويله من الفرنسية إلى العربية، في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. وهذا يحسب لهواري بو مدين الذي أصر على تعريب التعليم ونفذه، مستعينًا بالمصريين في ذلك.

ولولا تعريب التعليم ما استطاع شباب الجزائر أن يقرءوا الكتب الإسلامية، وأن تُحدث فيهم أثرها، وما استطاعوا أن يفهموا العلماء والدعاة الإسلاميين في الملتقيات وغيرها، ولا أن يستمعوا إلى أشرطة الخطباء والمحاضرين المشهورين.

فالصحوة الإسلامية مدينة لتعريب التعليم، وقد كانت أول دفعة تدخل الجامعة - بعد تعريب التعليم - عندما بدأت زيارتي للجزائر. ولذا قلت: إن الصحوة بنت التعريب، ولا سيما أن معظم الشعب الجزائري - حوالي 70% - منه من الشباب.

.......................

(1) رواه الحاكم في التفسير (2/406)، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي، عن أبي الدرداء.

(2) وقد أوردت نماذج من هذه الفتاوي الشاذة في كتابي: «الفتاوي الشاذة» نشر دار الشروق القاهرة.