دعوة موجَّهة من د. عبد الجواد فلاتوري:
في ربيع سنة 1987م اتصل بي صديقنا الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وقد عمل معي عدّة سنوات في قطر وكيلًا لكلية الشريعة، وبيننا صلة مودة. وقد طلب مني د. زقزوق أن أستجيب لدعوة لزيارة ألمانيا موجّهة من الدكتور عبد الجواد فلاتوري، الذي يحمل الجنسية الألمانية، وهو إيراني الأصل، شيعي المذهب، ولكنه يعيش في ألمانيا بوجدان المسلم لا غير.
وقد حاولت أن أعتذر للدكتور زقزوق في أول الأمر، ولكنه ألحّ عليّ أن أتغلب على كل الظروف، وأن المدعوين فيهم فضيلة الشيخ محمد الغزالي، وفضيلة الدكتور السعدي فرهود مدير جامعة الأزهر سابقًا، والدكتور أبو حطب أستاذ اللغات في جامعة الأزهر، وما زال بي، حتى أخذ مني وعدًا بل موثقًا بأن أكون ضمن هذا الوفد.
وفي الوقت المحدد في عطلة الصيف، سافرنا نحن الخمسة من القاهرة إلى فرانكفورت، ومنها بالسيارات إلى مدينة «كولن» التي يقيم فيها الأستاذ الفلاتوري.
الأغلاط حول الإسلام في الكتب الدراسية:
ونزلنا بأحد الفنادق هناك، وفي اليوم التالي، أرانا الفلاتوري نماذج من العمل الكبير الذي قام به، وهو عمل جدير بالتنويه والتقدير. فقد تتّبع الكتب الدراسية في ألمانيا، في مختلف المراحل الدراسية، وما تحمله من أغلاط حول الإسلام ورسالته ونبيه وقرآنه وحضارته وتاريخه، ووجد في هذه الكتب المقررة على الطلاب: ألوف الأغلاط، التي تمتلئ بها هذه الكتب.
والمهم أنه عرض مشروعه على المسئولين عن التعليم في ألمانيا، فرحَّبوا به كثيرًا، وأبدوا استعدادهم لتصحيح هذه الأخطاء، ووضع الصواب مكانها، وأن سبب هذه الأغلاط هو ضعف المعلومات لدى الكاتبين، وربما كانت مصادرهم نفسها غير مأمونة.
وقد عرفنا الفلاتوري: أنه - مع أعوانه - كتبوا مجلدات. وأكثر من ذلك: أنه بعد نجاح مشروع في ألمانيا، بدأ يتّجه إلى نفس العمل في بلاد أوربية أخرى، بدأها بالكتب الدراسية في بريطانيا.
والحقيقة: أن عمل الأستاذ الفلاتوري: نموذج يحتذى في خدمة الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي. وبالتالي: خدمة الإسلام نفسه ورسالته. فهذا عمل علمي كبير، ويتم في صمت وهدوء، بعيدًا عن الأضواء والإعلان والضجيج، وهو عمل استغرق سنين وجودًا كبيرة، بعد تخطيط وصبر طويل، فآتى أكله، وأعطى ثمراته.
فليتنا نتعلم من هذا الدرس النموذجي العملي، الذي يفترض أن تنتفع بثمراته أمة كبرى مثل الأمة الألمانية. وبهذا تخدم الرسالات والثقافات والحضارات.
لقاء مع المستشرقين ورجال الدين المسيحي:
ومن ثمرات هذه الرحلة: هذا اللقاء الذي رتّبه الأستاذ فلاتوري مع عدد من المستشرقين ورجال الدين النصارى، حيث التقيناهم في يوم عمل مستمر، وتناولنا فيه الغداء معًا. وقد وجَّهوا إلينا عددًا من الأسئلة الشائكة حول موضوعات إسلامية مختلفة، منها: حول المرأة، وحول الحريات وعقوبة الردة ونحوها، وحول الاجتهاد والتجديد، وحول الأقليات الدينية، وفرض الجزية داخل الدولة الإسلامية، أو المجتمع الإسلامي، وحول الجهاد والسلام ... إلى غير ذلك من القضايا التي يحتدم فيها النزاع بين المسلمين وغيرهم، وتختلف فيها الأجوبة عند الإسلاميين أنفسهم.
وقد وجدوا عندنا أجوبة مقنعة - إلى حد كبير - حول هذه التساؤلات، وهي أجوبة تعتمد على الأصول الشرعية مع النظر إلى العصر وتياراته ومشكلاته من ناحية أخرى.
ولقد قرب هذا اللقاء بين الطرفين إلى حدّ كبير، وليس هناك أنفع من الحوار المباشر، الذي يلتقي الناس فيه وجهًا لوجه.وقد تمنى الجميع لو تكرر مثل هذا اللقاء في أوربا أو في البلاد العربية.
دعوة السفير المصري في ألمانيا:
وقد دعانا السفير المصري في «بون» إلى منزله على عشاء، دعا فيه عددًا من الشخصيات المعينة بالشأن الإسلامي، وكانت ليلة طيبة بمن شارك فيها من الرجال، وبما جرى فيها من حوار، وبما سادها من تفاهم، برغم اشتداد الجدال في بعض القضايا.
أمران يتعلقان بي:
ومما أذكره في هذه الليلة أمران يتعلقان بي:
الأول: أننا تحدثنا حديثًا طويلًا عن الأصولية والأصوليين، وتعرضت لشرح معنى الأصولية. وهي تعني: العودة إلى الأصول والجذور، ونحن عندنا أصول الدين، وأصول الفقه، وينسب إليهما فيقال: أصولي.
وقد قال السفير: إذن أنت تعتبر نفسك أصوليًّا؟
قلت: بل عريقًا في الأصولية. ومن حكمنا المأثورة: إنما يحرم الوصول، من ضيَّع الأصول. وما دامت الأصولية هي التمسُّك بالجذور، فاللهم أحيني أصوليًا، وأمتني أصوليًا، واحشرني في زمرة الأصوليين!
الأمر الثاني: كلمة قالها شيخنا الغزالي أمام الإخوة والضيوف، فأحرجني بها. وذلك حين أجبت عن بعض الأسئلة المطروحة، مما سرَّ الشيخ وأثلج صدره. فقد قال في صراحة: كان يوسف فيما مضى تلميذًا لي، أما اليوم فأنا تلميذه!
قلت: يا مولانا، أنا لا أزال وسأظل تلميذك اليوم وغدًا.
وبعد سهرة طيبة، ودّعنا السفير، وشكرناه، جزاه الله خيرًا، واستعددنا للرحيل عائدين إلى القاهرة، داعين بدعاء السفر: اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، آيبون تائبون عائدون، لربنا حامدون.