في هذا العام (1988)، التقيت لأول مرة الدكتور أسامة الباز، وهو رجلٌ له باعه في رسم السياسة المصرية لقربه من الرئيس مبارك، ولموقعه في وزارة الخارجية.

كان ذلك بمناسبة زيارته لدولة قطر ضيفًا على الشيخ محمد بن حمد آل ثاني شقيق الأمير الشيخ خليفة بن حمد، ووزير التربية والتعليم، وهو رجل له صلة طيبة بمصر، لما له فيها من مشروعات دينية وخيرية.

اتصل بي الشخ محمد مساء خميس، وقال لي: أرجو أن تلبي دعوتي في صلاة الجمعة في مزرعتي في طريق الشمال، وستتعرَّف على شخصية مصرية لها منزلتها، وربما لم يتح لك أن تلقاها من قبل، قلت: من هو؟ قال: الدكتور أسامة الباز.

قلت: أنت تعلم أني مرتبط بصلاة الجمعة في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، ويذيعها تلفزيون قطر، وأنا أقدِّر دعوتك، وأحب أن ألتقي د. أسامة الباز، ولكن يشقُّ عليّ ترك مسجدي.

قال: من أجل خاطري، اتركه هذه المرة.

ولم أملك إلا أن أستجيب لدعوة الرجل، ولا أدري هل كانت هذه مبادرة شخصية محضة من الشيخ محمد، أو باقتراح من د. الباز، فربما أراد أن يتعرف عليَّ لأسباب عنده؟

وفي ضحى الجمعة ذهبنا إلى المزرعة. د. أسامة وعدد من المدعوين ... وسعينا إلى المسجد الذي أقامه الشيخ محمد في مزرعته، وقد حضره عدد لا بأس به، وألقيت خطبة الجمعة. وبعض قضاء الصلاة، ذهبنا إلى مجلس الشيخ محمد، وجلس د. أسامة بجانبي، وتبادلنا التعارف الحديث، وقد عرفني بأن والده كان من علماء الأزهر، وأنه يعتز بذلك وبالأزهر وعلمائه.

تذكيري له بوجوب العناية بالأزهر:

وانتهزت هذه البادرة، وقلت: هذا يوجب عليك العناية بأمر الأزهر أكثر من غيرك، باعتبارك من المشاركين في صنع القرار، والمشيرين الأساسيين على الرئيس. فالأزهر مؤسسة عالمية كبرى، لها وجودٌ في كل أنحاء العالم، بخريجيها وأبنائها، وبآثارهم في التعليم والدعوة والإفتاء والتنوير.

وذكرت له ما يقوم به المبشِّرون النصارى من محاولة نشر دينهم في أنحاء العالم، حتى إنهم اجتمعوا «البروتستانت الأمريكان منهم» في ولاية كلورادو سنة 1978م لتنصير المسلمين في العالم، وأنشئوا لذلك معهدًا سموه معهد «زويمر» - أحد كبار المبشَّرين والذي كانت إقامته بالبحرين - ورصدوا لذلك ألف مليون دولار.

وإذا تركنا المسيحيين، ونظرنا إلى إخواننا الشيعة، وجدناهم على رغم اشتغالهم بحرب العراق، يقومون بنشر دعوتهم المذهبية على قدم وساق.

تقصير أهل السنة في نشر الدعوة:

وأهل السنة وحدهم هم المقصِّرون في نشر الدعوة، والأزهر هو المسئول الأول عن هذا الأمر، ويجب أن يمكِّن من أداء هذه الرسالة في أنحاء العالم، وأنا أحملك في هذه القضية التبعة الأولى.

قال د. الباز: إني موافق على كلامك كله، ولكن مثلك لا يخفى عليه أن السياسة تدخلها المخاوف والتوازنات بين الأمور بعضها وبعض. ومن ذلك: أن الدولة تريد للأزهر أن يقوى، ولكن لا تريده قوة في مواجهة الدولة.

قلت: ولماذا لا تعتبره قوة للدولة نفسها؟ فهو رسولها إلى العالم الإسلامي، هو القائم بحماية الإيمان والأخلاق في الداخل. وهذا كله يقوي الدولة ولا يضعفها.

قال: ليس كل الأزهريين مثلك، يستطيع أن يضبط كلامه، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، كما علمت أنّ لك مطلق الحرية هنا، ومع هذا تقدِّر هذه الحرية، وتضع الأمور في موضعها.

قلت: الناس لن يقدِّروا نعمة الحرية إلا إذا عاشوها ومارسوها، ومع هذا لا بد أن توجد أخطاء، وعلى الناس أن يصححوا أخطاءهم.

وهنا دعانا مُضَيّفنا إلى مائدة الغداء، وقال الدكتور: إنّ حديثنا لم ينته، لا بد لنا من أن نلتقي مرة أخرى، فالحديث عن الأزهر ورسالته في الداخل والخارج أمر يجب أن يأخذ حقّه، ولعلي أراك حين تنزل مصر في بعض الأوقات.

قلت: أنا أنزل كل سنة في الغجازة الصيفية.

قال: لنحرص على أن نلتقي لنكمل حديثنا.

قلت: أنا حاضر لكل ما فيه خدمة ديننا وأوطاننا وأمتنا ورسالتها الحضارية. أرجو ألا يكون المانع من قبلكم. وبعد الغداء، ودعته وانصرفنا، على أمل اللقاء.

حديث لم يتم حتى اليوم:

وبعد حوالي سنة التقيت بالمصادفة مع د. الباز في مطار القاهرة، فأسرع ليصافحني، وقال: بيننا حديث لم يتم.

قلت: لقد أبديت استعدادي للقاء في أيِّ وقت تحب، وقلت لك: أرجو ألا يكون المانع من جهتكم.

قال: أتمنى أن يتم ذلك عن قريب.

ولم يتم ذلك حتى اليوم، على رغم أننا التقينا بعد ذلك عدّة مرات، في لقاءات عابرة في مناسبات شتى، وفي أقطار شتى أيضًا.

زيارة زكي بدر للدوحة

في شتاء 1988م، زار الدوحة وزير الداخلية المصري الشهير ببذاءة لسانه، وقسوة قلبه، وتجاوزاته في تصرفاته: زكي بدر، الذي أصدر الأوامر إلى الجنود، في مكافحة المظاهرات ونحوها: أن يضربوا في «المليان»، كناية عن إطلاق الرصاص الحقيقي، وتصويبه إلى صدور الجماهير. وقد ذاع صيته، وحفل سجله بالوقائع المؤلمة، والغزوات المتتابعة للجماعات الإسلامية، من حارب منها ومن سالم. وكان كل عامل في الحقل السياسي يكرهه ويتقي شره، ولا سيما من كان في المعارضة من الأحزاب، وكل من عدا الحكومة وحزبها عنده: لا ينبغي أن يسمح له بالوجود، فضلًا عن التعبير عن ذاته وبرنامجه، بالاجتماع أو بالكلام.

دعوتي من السفارة المصرية:

وفي يوم، فوجئت بدعوة من السفارة المصرية، تدعوني إلى أن أحضر حفلًا تقيمه السفارة على شرف الوزير زكي بدر. واتصلوا بي هاتفيًا يلحّون على ضرورة حضوري، وأن الوزير يودّ أن يلقاك. وتردَّدت في أول الأمر، ثم قررت أن ألقاه فعلًا.

وفي الميعاد المقرر ذهبت إلى السفارة، ووجدت الوزير الذي رحَّب بي كثيرًا، واستقبلني بودّ وبشاشة، فوجئت بهما. ونادى على زوجته لتسلّم علي، وقال: ها هي ذي زوجتي محجّبة كما ترى.

وحرص على أن يأخذ معي جملة من الصور، أرسلت إليّ السفارة نسخة منها بعد ذلك.

كلمة الوزير:

وبعد الاحتفال، ألقى الوزير كلمة، ذكر فيها آية من القرآن: {ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ} [قريش: 4]، كما ذكر حديثًا نبويًا يشيد بالأمن وقيمته في الحياة.

وقال بعد الكلمة: أرأيت كيف أدخل في كلامي القرآن والحديث؟

ثم سألني: هل من شيءٍ تطلبه منا؟ أو تشكو من شيء في علاقتك بنا؟

طلبي تسهيلات إجراء دخولي إلى مصر:

قلت: أشكركم على كل حال. لا شكوى عندي ولا طلب لي، إلا تسهيلات إجراء دخولي: ففي كل سفرة لي إلى مصر، يأخذون الجواز للمراجعة، ويبقى عندهم برهة من الزمن قد تقصر، وقد تطول، ولا أدري ماذا يصنعون بالجواز: إن كان المراد تصوير صفحاته لمعرفة تحركاتي والبلاد التي أزورها، فهذا يمكن عمله في ثوان. وعلى كلّ حال يتعامل الضبّاط معي في غاية الأدب والاحترام.

وهناك قال الوزير: على فكرة أنا الذي أمرتهم أن يوقفوك، وأنا الذي أمرتهم أن يعاملوك في غاية الأدب. ويمكن أن تمر علينا في الوزارة لنحلّ لك هذه المشكلة. ثم نادى ضابطًا من رفقائه، اسمه اللواء مصطفى عبد القادر «صار وزير الإدارة المحلية فيما بعد» وقال له: يا مصطفى، شوف طلبات الشيخ. فقال اللواء: لا نطلب منك شيخنا إلا أن تتفضَّل عندنا وتشرب فنجان قهوة، ونحل لك بعدها كل المشكلات. خذ تليفوني عندك، بمجرّد وصولك اتّصل بي، ويمكننا أن نرسل إليك سيارة تأتي بك من البيت إلى مكتبنا إن شئت. قلت: شكرًا لكم، وأمر المجيء سهل إن شاء الله.

مهاجمة زكي بدر لي بالباطل:

هذا ما جرى بيني وبين زكي بدر في سفارة مصر بالدوحة، تودد وتلطف ومجاملة إلى أبعد حد ... ومع هذا عرفت أنه اجتمع بالمصريين في الدوحة، وقال كلامًا آخر، هاجمني بالباطل، وقال: إنه يأخذ من مصرف قطر الإسلامي في الشهر ثمانين ألفًا، أجر الرقابة الشرعية! وهذا الكلام كله باطل. ونحن لا نأخذ على الرقابة الشرعية أجرًا بل مكافأة، وكانت في ذلك الوقت 20 عشرين ألف ريال في السنة لرئيس الهيئة ولكل عضو فيها.

ثم عرفت أنه ذهب إلى الإمارات العربية المتحدة، وهاجمني هناك، كما هاجب عددًا من العلماء، بدون مبرر ولا ضرورة لذلك.

تصويب سهامه الجارحة وعباراته البذيئة:

وأدهى من ذلك وأمر: موقفه بعد أن رجع إلى مصر، فما هي إلا مدة قليلة، حتى فتح النار علي وعلى كثيرين من العلماء والكتّاب والمفكرين والزعماء والصحفيين، ولم يدع أحدًا في البلد، إلا صوَّب إليه سهامه الجارحة، وعباراته البذيئة.

وكان ذلك في اجتماعه بالضباط في مدينة «بنها». وكان مما قاله عني: أني شكوت إليه إيقافي وتأخيري في المطار، وأن الضباط يعاملونني بكل أدب واحترام. وزعم أنه قال لي: أما إيقافهم لك، فأنا الذي أمرتهم بذلك، وأما معاملتهم لك بكل أدب، فسأحاسبهم على ذلك! وهو في الشقِّ الثاني كذاب بلا ريب، ولا يتصور من رجل ضيف على قطر - وأنا فيها من أنا - يجابهني بهذا القول، ويقول: سأحاسبهم على أنهم قابلوك بأدب، كيف لم يعاملوك بقلة الأدب؟!

في هذه الجلسة السرية تجاوز فيها كل الخطوط الحمر في التعبير والتعامل مع شخصيات كبيرة في البلد لها وزنها العلمي أو الفكري أو الديني أو السياسي أو الاجتماعي، أو هذا كله، وكيف أسفّ هذا الإنسان إلى هذا الحد؟!

تسرُّب أخبار الجلسة المغلقة:

وكان يظن أن الجلسة مغلقة، ولن يتسرَّب خبرها إلى أحد، فهو يتكلم مع ضباطه يقول لهم ما يشاء أن يقوله، دون دين يردعه، أو حياء يمنعه، أو قانون يقمعه... ولكن شاء الله أن يهتك ستره، ويفضح أمره، فاستطاعت جريدة «الشعب» المصرية المعارضة، لسان حال حزب العمل: أن تحصل على نسخة من هذا الخطاب الذي بلغ الغاية في الإقذاع والإسفاف، وتحايلت الجريدة بحيل شتى، حتى استطاعت أن تصدر، وهي تحمل المفاجأة الكارثة، التي أصابت زكي بدر في مقتل، وهاجت عليه مصر كلها. واحتجّ بشدة كل من جاء ذكرهم بالسوء في هذا الخطاب وما أكثرهم!

كان صدور جريدة الشعب بمثابة حكم بالإعدام الأدبي والسياسي على زكي بدر، وقد ردّ كثيرون عليه ببرقيات ومقالات وشكاوى ورسائل.

وقد كتبت أنا شخصيًا رسالة مفتوحة إلى الرئيس حسني مبارك أشكو إليه من حكم زكي بدل وطغيانه وافتراءاته على العلماء والدعاة والمفكرين. وقد نشرتها الصحف القطرية، وجريدة الشعب المصرية.