معرفتي القديمة بالشيخ طنطاوي
معرفتي قديمة بفضيلة الأخ الشيخ: محمد سيد طنطاوي، الإمام الأكبر، وشيخ الأزهر اليوم، وقبل ذلك مفتي جمهورية مصر العربية، وقبل ذلك أستاذ التفسير بجامعة الأزهر.
أعرفه منذ كان طالبًا مجتهدًا بكلية أصول الدين، ثم حين تخرج وعمل إمامًا وخطيبًا في أحد المساجد بحي شبرا بالقاهرة، وكان يتردّد على منزلي بحي شبرا للزيارة بعد زواجي، وكثيرًا ما كان يصحب زوجته رحمها الله، لتزور زوجتي وتتعرف عليها.
وظلت هذه المودة والصلة قائمة حتى بعد أن أعير إلى العراق، ليعمل واعظًا بمدينة البصرة، وفي ذلك الوقت كان مشغولًا بإعداد رسالته للدكتوراه، وموضوعها «بنو إسرائيل في الكتاب والسنة»، وكان يستشيرني في بعض الأمور العلمية أحيانًا فأشير عليه؛ بما يفتح الله به.
وبعد أن أعرت إلى قطر مديرًا لمعهدها الديني الثانوي، ثم عميدًا لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، حاولت أن آتي بالدكتور الطنطاوي إلى قطر ليكون أحد أساتذتها، ولكني وجدته قد ارتبط ببعض البلاد العربية، وهي ليبيا.
استقدامه أستاذًا زائرًا في كلية الشريعة بقطر:
ومع هذا حرصت على أن أطلبه أستاذًا زائرًا للكلية، وتمَّ ذلك في سنة 1989م، حيث جاءنا زائرًا لمدة شهرين، أستاذًا للتفسير الذي تخصّص فيه، واشتهر به، وألّف فيه، وكان حريصًا على ألا يقحم نفسه في مجال الفتاوى الفقهية التي لم يشغل نفسه بها كثيرًا في حياته العلمية، وكلٌّ ميسر لما خلق له. وكان إذا سئل في هذا المجال، يقول: اسألوا فلانًا. يعنيني.
ترشيحي لصديقي طنطاوي في برنامج تفسير القرآن:
وأذكر أني رشّحت الشيخ طنطاوي، ليحلَّ محلّي في تفسير القرآن الكريم الذي أعده المخرج المعروف محمد الطوخي رحمه الله ، وقد شاركني فيه ستة من العلماء: الشيخ الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، ود. حسن عيسى عبد الظاهر، ود. الأحمدي أبو النور، ود. عبد الله شحاته، ود. محمد المهدي البدري، والفقير إليه تعالى. وكان يسجل في إستوديوهات «عجمان» في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد شاركت في ربع القرآن الأول، ثم اعترتني ظروف اعتذرت بسببها عن عدم تكميل النصف الأوسط من القرآن، وطلب مني أن أرشح بديلًا يخلفني، فرشحت لهم، صديقي الشيخ: الطنطاوي، إلى أن عدت في الربع الأخير من القرآن لأكمل شوطي.
سرّ الخلاف بيني وبين طنطاوي:
فليس بيني وبين الشيخ طنطاوي من الناحية الشخصية إلا كل مودة وثقة، ولكن هذا شيء والخلاف العلمي شيء آخر، وليس في العلم -وخصوصًا العلم الديني الشرعي- مجاملة، فالحق أحق أن يتبع... وليس في العلم كبير، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم... فما سر الخلاف إذن بيني وبين الشيخ الطنطاوي؟
عدم اشتغاله بالفقه والقضاء:
هنا أبدأ القصة من أولها: فقد عين صديقنا الشيخ: محمد سيد طنطاوي مفتيًا لمصر، وكان المفتون قبل ذلك من خريجي كلية الشريعة، ومن المشتغلين بالقضاء الشرعي، والشيخ خريج أصول الدين، ولم يشتغل بالقضاء، ولا بالفقه وأحكامه قبل ذلك، بل كان انشغاله بالتدريس، وخصوصًا في علم التفسير، الذي صنِّف فيه تفسيرًا كاملًا سماه: «التفسير الوسيط للقرآن»، وكان الشيخ في السنة الأولى من تعيينه مفتيًا، يعتمد في فتواه على العلماء الموجودين في الأمانة العامة لدار الإفتاء، ويكتفي بالتوقيع عليها.
ثم بدا له أن يكون له شخصيته المستقلة في الفتيا، وخصوصًا في بعض القضايا الشائكة، مثل: قضايا الفوائد وشهادات الاستثمار وما إليها...
نصيحة أستاذنا الغزالي للمفتي:
وقبل أن أتحدث عن خلافي مع المفتي، أذكر أننا كنا مدعوين إلى ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر: الشيخ الغزالي، وأنا والشيخ الطنطاوي ومفتي مصر حينئذ... وفي إحدى الجلسات الخاصة قال الشيخ طنطاوي: إنه كتب شيئًا يتعلق بالبنوك وشهادات الاستثمار يعده للنشر. قال الشيخ الغزالي: أرجو ألا تعجل بنشره قبل أن تعرضه على فلان، يعنيني، فقال له المفتي: أكيد هو يعرف منزلته عندي.
وعدت إلى القاهرة، ومنها إلى قطر ثم بعد مدة سافرت في إجازة الصيف إلى مصر، وكانت الأوساط المشغولة بأمر المال تقول: إنَّ الشيخ لديه شيء يهيئه للنشر في هذه القضية: قضية البنوك وما يتعلق بها.
وقد اتصل بي أخوان كريمان مهتمان بقضية البنوك والفوائد، أحدهما اقتصادي، وهو د. عبد الحميد الغزالي أستاذ الاقتصاد الإسلامي ومدير معهد البحوث في البنك الإسلامي للتنمية، والآخر شرعي، وهو الزميل الدكتور علي السالوس، وتحدّثنا في الأمر وما نشر عن الشيخ المفتي، وقلت لهم: أنا سأطلب مقابلة الشيخ المفتي لأتذاكر معه. فقالوا: نرجو أن نكون معك.
الاتصال بطنطاوي:
وفعلًا اتصلت بفضيلة الشيخ طنطاوي، وقلت له: أتذكر ما قاله لك الشيخ الغزالي ونحن في الجزائر: ألا تنشر شيئًا إلا بعد أن تعرضه على فلان؟
قال: نعم أذكر، وأنا حريص على ذلك، ويسُّرني أن أسمع تعليقك.
قال: بلغني أنك أعددت شيئًا لينشر.
قال: نعم.
قلت إذن نلتقي قبل نشره ونتفاهم.
قال: لا مانع عندي.
قلت: إما أن تشرّفني في بيتي وإما أن نتشرّف في بيتك.
قال: بل يسعدني أن أزورك في بيتك، ولكن ليس اليوم، لأني مرتبط بموعد. ليكن في الغد بعد المغرب.
قلت: على الرحب والسعة، وسيكون معي أخوان تعرفهما، إن لم يكن عندك مانع، وهما الدكتور الغزالي، والدكتور السالوس.
قال: مرحبًا بهما.
حضور طنطاوي إلى منزلي:
وفي الموعد المحدَّد جاء الشيخ إلى منزلي في مدينة نصر، وكان الضيفان الغزالي والسالوس قد حضرا، وصلينا المغرب، وبدأت الجلسة، طلب الشيخ أن يعرض ما لديه.
وكان مع الشيخ المفتي جملة من الأوراق في ملف، منها: أسئلة يوجِّهها فضيلة المفتي إلى الأستاذ محمود عبد العزيز محافظ البنك الأهلي المصري، وكانت أسئلة غريبة علينا، فقد رأينا المفتي يسأل المحافظ عن أعمال البنك التي يجريها مع العملاء: هل تُعتبر من المضاربة الشرعية؟ فيردّ المحافظ: نعم هي من المضاربة الشرعية، لأن البنك يستثمرها لصاحبها مقابل ربح محدّد.
وقد قلت له: يا فضيلة الشيخ، لقد عكست الوضع، فمن الذي يسأل الآخر؟ المفروض أن محافظ البنك هو الذي يسأل فضيلة المفتي عما يجريه البنك من المعاملات: هل يدخل في إطار المضاربة الشرعية التي ذكرها الفقهاء في كتبهم أو لا؟ والمطلوب من المفتي أن يجيبه عن هذ السؤال بما يعرفه من أحكام المضاربة المقرّرة في الفقه الإسلامي، ويبيّن له أحكام الشريعة في هذا المجال فكيف ينقلب الحال ويسأل المفتي من يحب أن يسأله هو؟
نقاش طويل مع الشيخ طنطاوي:
وقد بقينا في نقاش طويل مع الشيخ، وظللنا ثلاثتنا نحاول أن نزحزحه عن مكانه، أو عن رأيه الذي التزمه، فلم نفلح، برغم ما قدمنا له من أدلة واعتبارات فقهية واقتصادية، وما نقلناه له عن الفقهاء، كأنما هو «مبرمج» بلغة الكمبيوتر.
وبعد ثلاث ساعات من الجدال والأخذ والرد، افترقنا دون أن نحصل على نتيجة إذ كان الشيخ مُصمِّمًا على موقفه.
الرد على الشيخ طنطاوي:
وبعد مدة لم تطل، أصدر الشيخ فتواه عن شهادات الاستثمار، وأنها كلها حلال، وعن فوائد البنوك، وأنها أيضًا حلال، وهو ما اضطرني إلى أن أرد عليه، برغم ما بيننا من مودة وصلة، وأن أكتب كتابي الموجز «فوائد البنوك هي الربا الحرام».
ومما قلته في بداية هذا الكتاب هذه الفقرة التي أسجلها هنا ليعرف قرائي: لماذا غضبت على هذه الحملة الجديدة لتحليل الربا. قلت:
شعرتُ بكثير من الأسى والأسف، للجدل الدائر في الصحف في هذه الفترة حول «فوائد البنوك»: أهي من الحلال الطيب أم من الحرام الخبيث؟
وسرُّ أسفي وأساي: أننا كنا فرغنا من هذا الأمر وتجاوزناه بمراحل، وبدأنا أولى الخطوات العملية في إقامة اقتصاد إسلامي، يحلُّ ما أحلَّ الله، ويحرِّم ما حرَّم الله، ويؤدّي ما فرض الله. فإذا بنا نرتد القهقري، ونعود ربع قرن إلى الوراء مرة واحدة، لنناقش ما حسمته المجامع والندوات والمؤتمرات العلمية الإسلامية المتخصصة، منذ ربع قرن وإلى اليوم، ولنعيد القضية جذعة، وقد انتهينا منها!!
فهل كُتب علينا أن نظل ندور حول أنفسنا، كالثور في الساقية! فلا نحسم معركة يومًا، ولا نغلق قضية يحال من الأحوال، لنفرغ لقضايا كبرى تنتظرنا، في طليعتها: أن نزرع ما يكفينا ونصنع ما يحمينا؟!
هل هناك مؤامرة علينا، تدبرها القوى الكائدة لنا، المتربِّصة بنا، الخائفة منا، الطامعة فينا، الحاقدة علينا، والتي تملك من أدوات المكر، ووسائل الدفع والتأثير، ما تستطيع به أن تحرك نفرًا منا - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - فيرجعوا عقارب الساعة إلى الخلف، ويحيوا ما مات من أفكار، ويجدّدوا ما اندرس من قضايا عفَّى عليها الزمن، وجعلتها الصحوة الإسلامية في خبر كان؟ أو هي «الخيبة» التي لا نريد أن تفارقنا، كأنّ بيننا وبينها حلفًا مقدسًّا، أو رحمًا موصولة، ولو أنها فارقتنا لأرسلنا إليها برقيات نستدعيها للحضور على عجل؟! وهذه «الخيبة بالويبة» - كما يقول المثل المصري - تجعلنا لا نبرم أمرًا، ولا ننهي عملًا، حتى ما نبرمه وننهيه نكر عليه لننقضه ونهدمه، مثل المرأة الحمقاء التي حدثنا عنها القرآن، والتي لا تغزل غزلًا إلا عادت فتنقضه كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا} [النحل: 92].
إنني في حيرة - أو قل إن شئت: في قلق وغم - من هذا الذي يحدث على الساحة الفكرية الإسلامية: لماذا يحدث؟ ولحساب من؟ ومن المستفيد من وراء إهداء الطاقات من غير طائل، وليّ زمام القافلة السائرة حتى لا تمضي قدمًا، ولا تصل إلى الغاية المنشودة؟
فلسفة الهزيمة الفكرية:
إنني أعذر الذين حاولوا تسويغ الفوائد الربوية في أوائل القرن الماضي «العشرين الميلادي» وإلى النصف الأول منه، فقد كانت الحضارة الغربية في أوْج مجدها وبريقها الذي يخطف الأبصار، وكان تراثنا مغمورًا، وشعبنا مقهورًا، وعقلنا بالجديد مبهورًا... وكان النظام الرأسمالي - الذي يقوم على الربا - يسود العالم، ويحرك عجلاته كما يشاء. فلا غرو أن وُجد من أبناء المسلمين من حاول أن «يفلسف» هزيمتنا أمام الفكر الوافد بتخريجات يعزوها إلى الشرع، وتأويلات يثني بها عنان النصوص «المحكمات» ليجعلها «متشابهات» توظف في «تبرير الواقع» الذي لم يصنعه المسلمون بإرادتهم، ولا بعقولهم ولا بأيديهم. إنما صنع لهم وفرض عليهم.
أصحاب المدرسة التبريرية:
كان عمل هؤلاء المتأوِّلين من أصحاب «المدرسة التبريرية» أن يلبسوا بفتاويهم «الخواجة الأوربي» عمامة «شيخ مسلم»، حتى يقبله الناس، الذين يغرهم الظاهر ولا ينفذون إلى الباطن. وقد تعلق هؤلاء بخيوط واهنة من الشبهات تهاوت كلها واحدة تلو أخرى أمام حجج الراسخين في العلم.
من مرحلة التبرير إلى رحلة الدفاع:
وانتقل الفكر الإسلامي من مرحلة «التبرير» إلى مرحلة «الدفاع» وكتبت بحوث ومقالات، وألفت كتب ورسائل للدفاع عن موقف الإسلام في تحريم الربا، وبيان ما وراء إباحته من أضرار ومفاسد اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية، وبيان فضل الاقتصاد الإسلامي وما يتميز به من وسطية وواقعية مثالية، تجمع بين رعاية الواقع، وعدم إغفالة العنصر الأخلاقي.
البدائل الشرعية للمعاملات المحرّمة:
ثم قفز الفكر الإسلامي قفزة رائعة، حين طفق يفكر في «البدائل الشرعية» للمعاملات المحرمة. ويضع المواصفات اللازمة لها، والوسائل الاستثمارية التي يمكن أن تقوم عليها، ويستغني بها عن الوسائل المحظورة.
ثم وفق الله المخلصين من رجال العمل والتنفيذ بالتعاون مع رجال العلم والفكر، فقامت البنوك الإسلامية بديلًا عن البنوك الربوية، وتزايد عددها، واتسع نطاقها يومًا بعد يوم.
لقد قيل لنا مدة من الزمن: لا تحلموا بقيام بنك إسلامي. بنك يقوم على غير الفائدة. وبالتالي لا تحلموا باقتصاد إسلامي يومًا. إن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد والفوائد عصب البنوك. فإذا نشدتم بنوكًا بلا فائدة فقد نشدتم المستحيل!
وعشنا، والحمد لله، حتى رأينا البنوك الإسلامية حقيقة واقعة ورأينا المسلمين يقبلون عليها إقبالًا متقطع النظير.
ونحن اليوم في مرحلة تحسين البدائل وتطويرها، أعني تطوير البنوك الإسلامية، وتحسين أدائها، وتخليصها من بعض الشوائب التي علقت بها، وتهيئة المناخ الصحي لنشاطها، وتهيئة الأطر البشرية التي تحتاج إليها ممن يجمع بين الالتزام الإسلامي فهمًا وسلوكًا والخبرة الفنية في مجال الاقتصاد والإدارة.
أفبعد أن اجتزنا هذه المراحل كلها، نعود من جديد إلى «مراحل التبرير»؟!
كتابي «فوائد البنوك هي الربا الحرام»:
ومن هنا ألفت كتابي «فوائد البنوك هي الربا الحرام» لأضع النقاط على الحروف، كما يقولون، ولأبين أن الأمر قد حسم من قديم. وأن هذا الحسم، قد وثق بما قررته المجامع الفقهية العلمية الإسلامية، ابتداء من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الذي أعلن في مؤتمره سنة 1965م، بالإجماع - وقد حضره مندوبون من 35 دولة: أن فوائد البنوك ربا محرم لا شك فيه.
وأكد ذلك مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك المجمع الفقهي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي. كما أكدته كل المؤتمرات الاقتصادية الإسلامية، ومؤتمرات المصارف الإسلامية في العالم الإسلامي.