عملي في الجزائر:
كان لا بدّ لي من أن أسافر إلى الجزائر، بعد موافقة أمير قطر على إعارتي لها، لأبدأ مباشرة عملي هناك. وكان عملي يُمَثِّل في أمرين:
الأول: رئاسة المجلس العلمي بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في قسنطينة. وهذا لا يتطلَّب مني دوامًا كاملًا هناك.
والثاني: أن أعمل مستشارًا لوزارة الشئون الدينية في العاصمة، ووزيرها صديقنا الفاضل الدكتور سعيد شيبان، الذي طالما التقيناه في ملتقيات الفكر الإسلامي، وعرفناه طبيبًا مثقفًا، وداعية للإسلام، متعاونًا مع الدعاة والعاملين لنصرة الإسلام. وهو شقيق صديقنا الشيخ عبد الرحمن شيبان، وزير الشئون الدينية الأسبق.
مقابلة رئيس الوزراء مولود حمروش:
وقد استقبلني الدكتور شيبان، وصحبني لمقابلة رئيس الوزراء، السيد مولود حمروش، وقد لقيته مرارًا من قبل، وهو يعرفني جيدًا. وقد رحَّب بي الرجل، ونوَّه بمنهجي في الدعوة إلى الإسلام، وجرى الحديث بيننا طيبًا، فقد قلت له: في مصر عندنا عائلة حمروش أيضًا: وحين كنت طالبًا بكلية أصول الدين كان شيخ الأزهر في ذلك الوقت هو: الشيخ إبراهيم حمروش. والذي ذكرته في قصيدتي في وداع كتيبة الأزهر، التي كانت مسافرة إلى قناة السويس للمشاركة في مقاومة الإنجليز، مع شباب الجامعات المصرية. الذين قاموا بالعبء الأكبر في هذه المقاومة، وكانت إيران في ذلك الوقت ثائرة على الشاه وعلى الاستعمار البريطاني. وكان رائد الثورة ومشعلها في ذلك الوقت، هو آية الله الكاشاني. فكان مما قلته في قصيدتي:
يا أزهر الخير، قدها اليوم عاصفة فإنما أنت من نور ونيران!
هذا شبابك للميدان منطلق فهل نرى في الشيوخ اليوم كاشاني؟!
وكان في القصيدة بيت يقول:
متى نرى ألسن الدنيا تتحدث عن حمروش مصر ككاشاني إيران؟!
وقال رئيس الوزراء:
لقد لقيت منذ سنوات السيد أحمد حمروش، من كتاب ثورة يوليو ومن ذوي الاتجاه اليساري، وتحدثنا حول هذا الموضوع. وهل أصل «الحمارشة» مصر أو الجزائر؟
قلت: وإلام انتهيتم؟
قال: انتهينا إلى أنّ الغالب في الهجرة: أن تكون من المغرب إلى المشرق، وإن كان العكس قد يحدث.
قلت: هذا صحيح، وكثيرًا ما يظل بعضهم منتسبًا إلى بلده الأصلي: فيقال: الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ عبد القادر المغربي، وبيرم التونسي، وعمر التلمساني ... إلخ.
وكان لقاء الرجل معي في غاية الودّ واللطف، وقال: أي عقبة تصادفها، فليس بيني وبينك حجاب، ولك أن تتصل بي إما مباشرة، وإما عن طريق الدكتور شيبان إن شئت.
وأذكر أني طلبت منه شيئًا يتعلق بالجامعة، نسيته الآن، واستجاب له فورًا.
وودعنا مشكورًا، على أن نلتقي بين الحين والحين.
مناقشة رسالة ماجستير في علم التفسير:
وكان من أوائل ما قمت به: أن طلبت مني جامعة الجزائر، قسم العلوم الإسلامية: أن أكون عضوًا في لجنة مناقشة لرسالة للماجستير، ستناقش قريبًا، في علم التفسير، وإن كان الوقت ضيقًا... قالوا: ولكن مثلك لا يحتاج إلى وقت لقراءة الرسالة. فيكفي أن تنظر فيها وتتصفحها، لتحكم عليها. ورحَّبت بذلك، وبعد أيام قليلة، حضرت المناقشة، وشاركت فيها مشاركة إيجابية، فشهد الحاضرون بأنها كانت هي المناقشة العلمية والمنهجية المستوعبة التي استفاد الطالب المناقش منها، واستفاد منها كذلك جمهور الحاضرين. بل قال بعض إخواني من المناقشين، ولا أذكر أيّا منهم الآن: نحن شخصيًا قد استمتعنا بحضورك ومناقشتك.
إلى قسنطينة:
ثم سافرت إلى قسنطينة بالطائرة، ووجدتهم في استقبالي هناك، وقد التقيت مجلس الجامعة، والمجلس العلمي. وطلبت لقاء خاصًّا بهيئة التدريس. عرضت عليهم فيه رؤيتي، لما يجب أن تكون عليه جامعة للعلوم الإسلامية، وما يجب أن يكون عليه أستاذ الجامعة الإسلامية.
واجب الطالب الجامعي:
ثم هيئوا لي محاضرة عامة للطلاب، حضرها كل طلاب الجامعة والأساتذة أيضًا، بينت فيها: واجب الطالب الجامعي المسلم: من ناحية العلم وتحصيله والأفق الذي ينبغي أن يطمح إليه في ذلك، وأن العلم لا يعطيك بعضه حتى تؤتيه كلك، وأن طالب العلم لا يشبع منه أبدًا، شعاره دائمًا: {رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا} [طه: 114].
ومن ناحية العمل: عليه أن يعمل بما يعلم، فالعلم إنما يراد للعمل به. والعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، أو كسحاب بلا مطر. وأسوأ مثل الناس: العالم الذي لا يعمل بعلمه، أو يكون عمله مناقضًا لعلمه.
ومن ناحية ثالثة: الدعوة إلى ما تعلّمه، وتعليمه للناس، فزكاة العلم: تعليمه للآخرين، والنبيون بعثوا معلمين للخلق، والعلماء ورثة الأنبياء. عليهم أن يحملوا مصابيح الهداية للبشر، كما حملها الأنبياء.
مناقشة رسالة ماجستير في فقه الأسرة:
ومما شاركت فيه في الفترة التي بقيتها في قسنطينة: أن ناقشت رسالة ماجستير في علم الفقه، وكانت في فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية، وحول ضرب المرأة آثاره، وأنه مما يستوجب التفريق بينها وبين زوجها إذا ضربها بغير مبرر، أو تجاوز الحد في ضربها، إلى غير ذلك من ألوان الإهانات للمرأة، ولو بالكلمة. وكانت الرسالة موثقة بالنقل من كتب الفقه المتقدمة والمتأخرة. وقد سررت بالرسالة وأثنيت على الطالب، وأذكر أن الطالب كان اسمه عبد الباقي، وأحسبه قد استكمل الدكتوراه بعدها. ثم عدت إلى الجزائر العاصمة، لأمارس بها نشاطًا آخر.
درس التفسير في سورة يوسف:
وقد رأى الإخوة المسئولون في وزارة الشئون الدينية: أن أبدأ نشاطي العلمي بدرس أسبوعي في تفسير القرآن الكريم، ائتساءً بشيخ النهضة الجزائرية الشيخ ابن باديس، واختاروا مسجدًا هو أقدم المساجد في العاصمة، لما يرمز إليه من معنى.
وكنت أريد أن أبدأ من حيث انتهى العلامة رشيد رضا في تفسير المنار، أي من سورة الرعد، ولكن عددًا من الإخوة استحسنوا أن أبدأ بسورة يوسف، واستجبت لاقتراحتهم. وحددّت الليلة التي أبدأ فيها الدرس. ودُعي جمّ غفير من الناس، ومن كبار العلماء والوجهاء. وبدأت التفسير على بركة الله، مبتدئًا بمقدمة في التفسير. ثم دخلت في تفسير السورة. واستمرَّ هذا الدرس، حتى أتممت أكثر من نصف السورة.
وكانت مشكلتي في هذا الدرس: أني بعيد عن مكتبتي، وكنت أستعير ما تيسَّر من الكتب من الوزارة أو غيرها، وأعتمد على ما هو في الذاكرة، وعلى التأمل.
ولم يكن الدرس يتوقّف إلا إذا سافرت إلى قطر، التي كنت أذهب إليها كل فترة من الزمن، حيث تركت أسرتي هناك. أو إذا تأخَّرت في قسنطينة لسبب أو لآخر.
وكان هذا الدرس يسجل مسموعًا ومرئيًا، وؤإن لم يكن عندي منه أي نسخة، وقد طلبت من أحد تلامذتي في الجزائر محمد صائب أن يبحث عن شريط مسجل لهذا التفسير، ويبعث به إليّ. ووعدني بذلك شكر الله له. وأرسله إليّ بالفعل، ولكن مما يؤسف له حقًّا: أنه ضاع مني، ولا أدري كيف؟ فمن كان لديه نسخة مسجلة من هذه الحلقات والدروس - ولو على كاسيت - فليتفضل بإرسالها إلي وجزاه الله خيرًا.
الجزائر وغزو الكويت:
عندما ذهبت إلى الجزائر، كانت قضية صدام وغزو الكويت، هي الشغل الشاغل للجزائريين كلهم، خاصتهم وعامتهم، مثقفيهم وأمييهم، وكان الوضع في الجزائر بالنسبة للقضية على عكس الوضع الذي تركته في الخليج وفي مصر حيث رأيتهم متعاطفين تمامًا مع أهل الكويت، معارضين كل المعارضة لصدام.أما الجزائر، فعواطفهم مع صدام، لم يروا فيه الغازي للكويت، بل رأوا فيه المتحدّي للأمريكان! وكلما شاهدوا التلفزيون الفرنسي يهاجم صدامًا بعنف، ازدادوا هم قربًا من صدام وتحمُّسًا له، وكل من تعاديه فرنسا هو صديق لهم.
موقفي من غزو الكويت:
وكانوا يسألونني عن موقفي، فأقول لهم: أنا من غير شك ضد الأمريكان وحلفائهم من الفرنسيين والبريطانيين والغربيين المعتدين بصفة عامة. ولكني أيضًا ضد غزو الكويت بغير حق، وإعطاء الغزاة حق سلبها ونهبها واستحلالها.
وأرى أن الواجب علينا جميعًا الآن: أن نضغط على صدام للانسحاب طوْعًا واختيارًا، قبل أن ينسحب قهرًا واضطرارًا. فمن خلال حرصي على العراق: شعبًا، والعراق وطنًا، والعراق جيشًا، أطالب صدامًا بالانسحاب، فلا يدع الفرصة لما يسمّى «قوات التحالف» لتستقر في المنطقة، وتتحكّم في مقدراتها. هذا هو ما يحكم به العقل والشرع ومصلحة الأمة. وما زالت أمامه مهلة أعطيت له لينسحب بإرادته.
وقد حاول كثيرون أن يثنوا صدامًا عن عزمه، وأن يقنعوه بالعدول عن رأيه، ومنهم الرئيس المصري حسني مبارك، الذي أرسل إليه رسائل عدة، فلم يبال بها؛ إذ لم يكن مبارك عنده بالثقة الذي ينصت لنصحه، ويطمئن إليه.
موقف صدام المتصلب:
وأنا إلى اليوم لا أحسن فهم موقف صدام ولا تفسيره، ولا أدري: لماذا لم ينسحب وكان أمامه الفرصة؟ أكان يظن أنه سينتصر على أمريكا ومعها نحو ثلاثين دولة، وقد جمعوا له من العتاد ما يسد عين الشمس، وكانوا مجهزين بالأسلحة المتطورة التي لم تجرب قبل ذلك، وللأسف معهم جيوش من البلاد العربية وجنود من عدّة أقطار؟! أم كان يعتقد أنهم سيضربونه لا محالة، وإن انسحب، وأنهم مصممون على ملاقاته؟
وأقول: حتى لو كانوا كذلك، فإن الحجة ستكون عليهم، وسيقف الأكثرون من أنحاء العالم ضدهم، ولا يجدون ما يقولون في تبرير موقفهم؛ فهم الذين أعطوا المهلة، وطلبوا الانسحاب، وكرّروا الطلب، وتوسط المتوسطون من العرب ومن روسيا، ومن غيرهم، فلا معنى للتصلب في هذا، والوقوف كجلمود صخر، لا يتحرك ولا يلين.
عودة إلى قطر:
وبعد نحو شهرين على ما أذكر، عدت إلى قطر، لأطمئن على أحوال أسرتي، وهذا ما اتفقت مع الجزائريين عليه، وكذلك مع قطر. والحمد لله، وجدت الجميع بخير، ولم يحدث شيء في غيابي يلفت النظر إليه، وكل شيء يمضي على ما كان عليه، بشكل روتيني.
وقد لقيت ولي العهد وقتها الشيخ حمد بن خليفة حفظه الله، لأودعه قبل أن أسافر، وسألني عن حالي في الجزائر، فقلت: على ما يرام، ولله الحمد... ثم سألني: هل ينقصك شيء؟ قلت: كل أموري طيبة، وكل ما أريده أن تصرف لي تذكرة ذهاب وعودة كلما جئت من الجزائر، فقد يصعب عليّ أن أطلب منهم ذلك، مع أنهم لا يتأخرون عن شيء أطلبه وأمر بذلك على الفور. وودّعته شاكرًا.
إلى الخرطوم حتى قامت الحرب وأنا فيها:
ثم ودّعت أهلي وأولادي، على أن أرجع إليهم بعد فترة وأخرى، مسافرًا إلى الخرطوم، حيث كنت مدعوًّا إلى ندوة عن «الزكاة»، ومنها إلى الجزائر. فوصلت إلى الخرطوم، وشاركت في الندوة، وحجزت بعدها على الطائرة المصرية المسافرة إلى القاهرة، لآخذ من هناك الطائرة الجزائرية الذاهبة إلى الجزائر.
وجاء اليوم المعلوم حيث تقوم الطائرة في الصباح الباكر، وقد اتفق معي الإخوة المسئولون: أن يأتوا قبل الطائرة ليأخذوا حقيبتي، وبعدها بساعة، يأتون ليصحبوني إلى لطائرة. ولكني انتظرت طويلًا وطال الانتظار ولم يأتني أحد، قلت: لعل الطائرة تأخرت، ولكن لماذا لم يعلموني بأن الطائرة تأخرت؟
وهكذا ظللت أسائل نفسي، ولا أجد جوابًا لسؤالي، حتى حضر إلي بعض الإخوة فسألتهم: ما الخبر؟ هل تأخرت الطائرة؟ ولم تأخرت؟ فقالوا: ألم تعرف ماذا حدث؟ قلت: لا، ماذا حدث؟ قالوا: لقد قامت الحرب! وعُطِّل المطار، فلا طائرة تذهب ولا طائرة تجيء، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
الانتظار والصبر:
فقلت: سبحان الله: كل شيء بأجل مُسمّى، كنت مستعجلًا، لأذهب إلى الجزائر، فإذا هذه الحرب تدور رحاها فجأة، وإن كنا نتوقعها في كل وقت. وما عليّ إلا الانتظاروالصبر. ولا أملك غير هذا، طال الزمن أم قَصُر. ومن لم يصبر فلْيشرب من البحر.
الصبر مفتاح ما يُرَجّى وكل صعب به يهون
فاصبر وإن طالت الليالي فربما أسلس الحرون
وربما نيل باصْطبار ما قيل: هيهات لا يكون
عجزي عن متابعة أخبار الحرب في التليفزيون السوداني:
والعجيب أنه في فندق الهيلتون الذي أقيم فيه لا أستطيع أن أتابع أخبار الحرب، ولا يستطيع جهاز التلفزيون الذي في غرفتي أن يريني شيئًا غير ما يبُث من الخرطوم.
وأستمع إلى التلفزيون، فأجده في صفِّ صدام. ويذيع أنشودتين ليس عنده غيرهما، إحداهما تقول:
الشعب العربي وين وين الملايين
الغضب العربي وين الصوت العربي وين
الدم العربي وين وين الملايين
ويـــــــــــن الملايــــــــــــين
والأغنية الأخرى عراقية مؤثّرة، لا أذكر منها إلا مقطعًا يقول:
وقبرك يا محمد يحميه الأمريكان!
صعوبة الاتصال بخارج الخرطوم:
وحتى الاتصال بخارج الخرطوم عن طريق الهاتف فيه صعوبة جدًّا، فلا أنا اتصلت بقطر، ولا أنا اتصلت بالجزائر، أعرفهم أين أنا الآن؟
فقد كانت «ثورة الإنقاذ» ما زالت في فترتها الأولى بعد، لم تستطع أن تخرج السودان من سجن التخلف الذي كان يرزح فيه، فكل الخدمات فيه رديئة، وكل ألوان الاتصال فيه واهية، وهو يحتاج إلى فترة من الزمن حتى تستطيع الثورة فيه التغيير، ولو جزئيًا.
إلى القاهرة في أول طائرة:
بقيت نحو خمسة أيام على ما أذكر، أنتظر فتح المطار، حتى إذا فُتح، كنت أول المسافرين في أول طائرة مصرية تنطلق منه. ونزلت في مطار القاهرة.
وكان مما آلمني كثيرًا وكدّرني: أني وجدت الإخوة السودانيين وقفوا في طوابير طويلة أمام نوافذ الجوازات، ولم يسمح لأحد منهم بالدخول إلى مصر، مع أنّ لهم عائلات وأقارب داخل مصر، ومنهم من يدرس في مصر، ومنهم من يعمل في مصر... ولكن السلطات اتّخذت منهم موقفًا صارمًا بل قاسيًا: لا إذن لأحد بالدخول، ومعظمهم فقراء، ربما كلفتهم التذكرة كثيرًا حتى قطعوها، فكيف يرجعون بخفي حنين، أو بغير خف أصلًا؟ وما ذنبهم إذا وقفت حكومتهم مع صدام؟ هل تعاقب الشعوب بذنب حكامها، إذا افترضنا أن هذا ذنب؟
لقد حزنت لهؤلاء المساكين، ولكن ماذا ينفعهم حزني، وعليهم أن يعودوا خائبين!
إلى الجزائر مرة أخرى:
أحسب أني بقيت ليلة بالقاهرة، ثم امتطيت الطائرة الجزائرية، لأعود إلى الجزائر مرة أخرى، وأباشر دروسي في التفسير في الجامع الكبير القديم، وبدأت وزارة الشئون الدينية تنظم لي محاضرات في ولايات مختلفة، وفي الجزائر 48 ولاية، لو ذهبت في كل أسبوع إلى ولاية منها، لاحتاج الأمر مني إلى سنة كاملة، لو واظبت على ذلك، ولكن المثل يقول: ما لا يدرك جلّه أيّ معظمه لا يترك قلّة أي قليله.
وكانت ليالي حافلة يحتشد فيها جمهور كبير من أهل البلدة، وكنت على العادة أُلقي المحاضرة، ثم أردّ على أسئلة الجمهور. ونزور بعض الأماكن أو الشخصيات المهمة. وكثيرًا ما نزور والي الولاية. ونبيت في الولاية غائبًا، ثم نعود إلى العاصمة في اليوم التالي.
ولاية البليدة والمدّية:
لم أعد أذكر أسماء الولايات التي ذهبت إليها لطول المدة، ولكن هناك ولايات أذكرها لأني ذهبت إليها أكثر من مرة، مثل البليدة، وهي مدينة أخينا الحبيب الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله ، ومثل المدية، وقد ذهبت إليها مرتين، إحداهما: كان بمناسبة احتفال بذكرى المولد النبوي، وكان من المتحدثين معي في هذه الليلة: أخونا الشيخ محفوظ نحناح، فشوّش عليه إخواننا من جماعة «جبهة الإنقاذ»، وأرادوا أن يكستوه، واستخدموا أساليب لا تليق بأهل الدعوة، حتى إن بعضهم قذفه بالنّعل!
أدب التعامل مع العلماء والدعاة:
ومثل هذه التصرُّفات الرديئة هي التي أضرّت بجبهة الإنقاذ... ومهما يختلف رجال الدعوة، فلا يجوز أن ينزلوا إلى درك الإسفاف، وخُلُق أهل الجهل في معاملاتهم، وقد علّمنا القرآن أدب التعامل مع الناس كافّة، فقال تعالى: {وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ 34 وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ} [فصلت: 34، 35]. هذا ما ينبغي مع عامة الناس فكيف بالتعامل مع العلماء والدعاة والعاملين لنصرة دين الله؟
كذلك أذكر مدينة «بتنا» وقد زرتها أكثر من مرة أيضًا.