في 14/12/1992م ودعت وودع معي أهل العلم والدين في قطر: أخًا حبيبًا، وعالمًا عاملًا، وداعية مخلصًا، ومربيًّا كريمًا، وهو الشيخ عبد اللطيف زايد.

في معسكر التدريب:

وقد عرفت الأخ الشيخ عبد اللطيف أول ما عرفته حين كان طالبًا في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وكان ذلك في معسكر التدريب، الذي أقمناه في رحاب كليات الأزهر بالدرَّاسة بجوار الجامع الأزهر العريق. وكان هذ المعسكر يستقبل الطلاب الراغبين في السفر إلى منطقة القناة، لمقاومة الاحتلال البريطاني. وهم في هذا المعسكر يتلقون التدريبات الأولية التي لا بدّ منها، ومعظمها نظري، لأننا نعيش في منطقة سكنية، لا تتحمّل تجربة إطلاق النار من بندقية أو رشاش، أو إلقاء قنبلة، أو تفجير ديناميت أو نحو ذلك.

الشباب المتعطّشون للجهاد:

وفي هذا المعسكر بالدرّاسة، التقى عدد من الشباب المتعطّشين إلى الجهاد في سبيل الله، وتحرير الأوطان من كل سلطان استعماري، وكان جل هؤلاء الطلاب من أبناء الكليات، وبعضهم من طلاب معهد القاهرة الثانوي. أذكر منهم الأخ الصالح الطاهر عبد الرحمن الديب ابن قرية «العمار» قليوبية. وكان معنا طلاب من كليات الأزهر الثلاث، ومنا طلاب فلسطينيون.

وكان الذي لفت نظري إلى عبد اللطيف زايد أحد رفاقه من بلدته «ويش الحَجَر» مركز المنصورة، وقد سألوني عنه، وأعينهم تذرف، فقلت لهم: إنه بخير، فقالوا لي: إنك لا تعرفه، إنه شهيد حي. فهو رجل نقي السريرة، طاهر السيرة، مستقيم السلوك، صوّام قوّام، غيور على الإسلام، مُحبٌّ لله ورسوله، مُتَفَان في خدمة إخوانه... إلى آخر ما وصفوه لي، وقالوا: إن مثله أهل للشهادة؛ ولذا نريد أن نلقاه قبل سفره، فقد يكون هذا اللقاء الأخير!

هذه الكلمات من قوم عرفوا الرجل معرفة معايشة ومرافقة طويلة، حبَّبت إلي الرجل، وجعلتني أقترب منه وأجد في حب مثله شفاعة لي يوم القيامة. فأنا كما قال القائل: أحبُّ الصالحين ولست منهم!

ولما سافرت كتيبة الأزهر من القاهرة إلى القناة، أو إلى منطقة الشرقية، أخذنا نستكمل تدريبنا، ونتهيأ للذهاب إلى القناة للقيام بعمليات ضرب الإنكليز في معسكراتهم، وإصابتهم بما يمكن من الخسائر، أو على الأقل إدخال الرعب في قلوبهم. وفي هذه المنطقة الخلوية، التقينا شباب الأزهر وشباب الجامعات المصرية المختلفة.

وبعد مدة من الزمن لا أذكر كم استغرقت، وقد تحدّثت عنها في الجزء الأول، عدنا إلى دراستنا في كلياتنا. وعاد عبد اللطيف زايد الذي زاد حبي له. وبعد ذلك تخرجت، وتخرج هو بعدي، وتفرّقت بنا الأيام، حتى شاء الله أن نلتقي مرة أخرى في قطر، فقد سافر إلى قطر قبلي متعاقدًا لتدريس العلوم الشرعية في مدارسها. وذهبت إلى قطر مُعارًا من الأزهر لأعمل مديرًا للمعهد الديني الثانوي.

تحويل الشيخ عبد اللطيف إلى التدريس بالمعهد الديني:

وقد كان من أوائل ما طلبته من فضيلة الشيخ عبد الله بن تركي المسئول الأول عن العلوم الشرعية وتدريسها ومدرسيها، هو تحويل الشيخ عبد اللطيف زايد إلى التدريس بالمعهد الديني. فقال: أنا لا أمانع في ذلك، ولكن هو يعمل في أم صلال علي، وأرى أن من المناسب أن تزور شيخ القرية الشيخ علي بن جاسم آل ثاني، وتستأذنه في نقل الشيخ عبد اللطيف إلى المعهد، وأعتقد أنه سيلبّي طلبك. وهو ما حدث بالفعل. فقد زرت الشيخ عليّ في مجلسه واحتفى بي، وتحادثنا في شئون العلم والأدب، وكان مهتمًا بذلك، وكان مالكي المذهب، وكانت جلسة طيبة. ثم فاتحته في حاجتي إلى الشيخ عبد اللطيف ليعاونني في المعهد الديني. فوافق الرجل، ولم يتردَّد. رحمه الله وغفر له.

وقد كان الشيخ عبد اللطيف نِعم العون لي، طوال فترة إدارتي للمعهد. وقد تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذه المذكرات. وقد تولى إدارة المعهد فترة من الزمن، ثم عمل مفتشًا للعلوم الشرعية مع فضيلة شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار.

وقد ظلت الصلة بيننا أبدًا طيبة وثيقة، لا تشوبها شائبة، لأنها بدأت لله، واستمرت لله، إلى أن اشتكى وجعًا باطنيًا، دخل بعده المستشفى، ولم يكن يبدو أن ثمة شيئًا خطيرًا يخاف منه، وإنما قالوا: هناك شيء قديم في القلب، يُرجى تداركه.

نبأ وفاة الأستاذ عبد اللطيف زايد:

ولقد قُدّر لي أن أسافر لحضور ندوة في البحرين لمدة يومين، وأعود، لأكون بجوار الأخ العزيز، سافرت صباحًا، وعدت مساء اليوم التالي، وقد استقبلني ابني أسامة واجمًا، وأحسست أنّ وراءه شيئًا، ولكن خطر ببالي كل شيء إلا أن يكون أمرًا يتصل بالأخ عبد اللطيف.

فقلت: هل حدث شيء؟

قال: نعم.

قلت: وما هو؟

قال: توفي الشيخ عبد اللطيف اليوم، وهم الآن يذهبون إلى دفنه في المقبرة؟

قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولماذا لم تتّصلوا بي؟

قال: فوجئ الجميع بالخبر، وارتبكوا، ولم تكن هناك طائرة يمكن أن تحضر فيها قبل هذه الطائرة.

قلت: فلنسرع إلى المقبرة، عسى أن ندرك الصلاة عليه. وأسرعنا ما أمكننا، ولكن وجدناهم يوارونه التراب. فصلّيت عليه على قبره، مع من لم يُدرك الصلاة عليه.

يا عجبًا لما يصنع القدر! لقد عاش الرجل قريبًا مني، وأنا قريبٌ منه، ثم يأتي الموت بغتة فيختطفه اختطافًا، حتى يحرمني تشييعه والصلاة على جثمانه.

الرجال قليل والصادقون عملة نادرة:

لقد كان عبد اللطيف رجلًا، والرجال قليل، أخًا صدوقًا، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه:

فما أكثر الإخوان حين تعدهم     ولكنهم في النائبات قليلُ!

صادق والصادقون في هذه الدنيا عُملة نادرة، إذا ظفرت بواحد منهم، فقد ظفرت بكنز عظيم. كما قال الشاعر لصديق له:

حسبي من الدنيا صديقٌ صادق      فَرْدٌ، فكُنْ، ولا احتياج لثان!

رحم الله أخانا عبد اللطيف زايد، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبله في عباده الصالحين، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به العلماء العاملين والدعاة المخلصين.

عبرات في العين وزفرات في الصدر:

لقد ترك فراق عبد اللطيف: عبرات في العين، وزفرات في الصدر، وحزانًا في القب. وأحيانًا إذا فقد المرء حبيبًا، ذكّره بآخرين من الأحبة ماتوا قبله، فهو إذا بكى فإنما يبكي على الجميع، ولهذا بكيت بموت عبد اللطيف: موت أخي مصباح محمد عبده الذي وافاه المنون في قطر، ودُفن في قريته محلة أبو علي، وبكيت بموته موت أخي محمد الدمرداش مراد، وبكيت أحبّة شتَّى.

غلبة عاطفة الحزن:

ولا أكتم القارئ أني رجل تغلب عليه عاطفة الحزن، أكثر مما تغلب عليه عاطفة الفرح والسرور؛ ولذا تؤثّر في نفسي الحوادث المؤلمة، والمواقف المحزنة، تأثيرًا بليغًا، وتحفر في قلبي حفرة عميقة، بخلاف الحوادث السارة.

طبيعة الشعب المصري:

ويبدو أن هذه طبيعة جمهور الشعب المصري، فهو - رغم ضحكه ومزاحه - نراه شعبًا يبكي طويلًا على موتاه، ويعصره الحزن عصرًا عند وقوع الآلام، وإذا جلس جماعة يومًا وضحكوا كثيرًا لسبب من الأسباب، قالوا: اللهم اجعله خيرًا. كأنما يتوقعون أن الضحك ليس أصلًا في حياتهم، فإذا حدث فهم يخشون أن يعقبه بكاء طويل.

وعندما ذهبنا إلى الخليج، وجدنا الناس هناك يستقبلون الموت بعفوية وسهولة، ولا يبالغون في الحزن كما يبالغ المصريون، ولقد رأيت أحد المصريين يبكي بكاءً حارًا على موت أحد القطريين، وهو والد صديق له، وابن المتوفّى لم يندّ من عينه دمعة، وكأنه يعجب لهذا البكاء من هذا الصديق المصري.

بل أنا في الحقيقة رجل قريب الدموع، أبكي لأيّ موقف إنساني يهزني، حتى لو كان في تمثيلية أو في فيلم في التلفزيون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يستعيذ بالله من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع(1).

وأسأل الله أن يجعل عيني من الأعين الثلاثة التي لا تمسها النار: عين بكت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين سهرت في طاعة الله.

....................

(1) رواه مسلم في الذكر والدعاء (2722)، والنسائي في الاستعاذة (2458) عن زيد بن أرقم دون لفظة: «ومن عين لا تدمع» فقال بدلها: «ومن دعوة لا يستجاب لها» ولفظة: «عين لا تدمع» ذكرها الحافظ في «الفتح» (11/136) بعد أن ذكر عدة أحاديث وقال: كلها صحيحة.