كان من أهم الكتب التي ظهرت في هذه المرحلة سبتمبر (1994م)، ولفتت الأنظار إليها: كتابي: «فقه الأولويات». وقد كنتُ قبل صدوره، تحدَّثت عنه في محاضرات وندوات شتى، حتى إن ندوة «دراسات المستقبل الإسلامي» في الجزائر التي انعقدت سنة (1990م) حين دعاني إليها الأخ محمد الهاشمي الحامدي، قال لي: لقد اخترنا لك موضوعًا هو من صميم اهتمامك في الفترة الأخيرة، وهو ما سمَّيته: «فقه الأولويات»، وقد رأينا أن تكتب في «أولويات الحركة الإسلامية في العقود الثلاثة القادمة». وقد كتبتُ في هذا كتابي: «أولويات الحركة الإسلامية» غير مقيد بالعقود الثلاثة؛ لاعتقادي أن العالم يتغيَّر بسرعة، ولا تستطيع أن ترصده لعدَّة عقود ثلاثة، ونحن نرى أن الاتحاد السوفيتي قد سقط بسرعة وبدون مقدِّمات، وإن كان هناك تنُّبؤات بالسقوط، ولكن لم يكن متوقعًا أن يتهاوى بهذه السرعة الهائلة.
«فقه الأولويات» هو واحد من «ألوان الفقه» التي أطالب بها في برنامجي التجديدي والإصلاحي للأمة، فهناك فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الأولويات.
وقد سمَّيت فقه الأولويات قبل ذلك، في بعض كتبي: «فقه مراتب الأعمال»، وذلك في كتابي: «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، ثم رأيت أن «فقه الأولويات» أوفق بما أريد من هذا المصطلح.
وقد علمتُ أن بعض الأخوة من الشباب الدعاة سارع فألَّف كتابًا أو كتيِّبًا سمَّاه: «فقه الأولويات»، حتى ظنَّ بعض الناس أني أنا الذي أخذت المصطلح منه! وهذا تكذِّبه كلُّ الوقائع والمعلومات، فقد حاضرت في هذا الموضوع، وكتبتُ فيه من عدَّة سنوات قبل نشر كتابي، وكان على الأخ الكريم الذي سمَّى كتابه: «فقه الأولويات»: أن يبيِّن من أين أخذ التسمية، فهذا مقتضى الأمانة العلمية.
وكان مما قلته في مقدمة الكتاب: «فهذه الدراسة التي أقدِّمها اليوم تتحدَّث عن موضوع أعده غاية في الأهمية؛ لأنه يعالج قضية اختلال النِّسب واضطراب الموازين - من الوجهة الشرعية- في تقدير الأمور والأفكار والأعمال، وتقديم بعضها على بعض، وأيُّها يجب أن يُقدّم، وأيُّها ينبغي أن يُؤخَّر، وأيُّها ترتيبه الأول، وأيُّها ترتيبه السبعون، في سُلَّم الأوامر الإلهية والتوجيهات النبوية، ولا سيما مع ظهور الخلل في ميزان الأولويات عند المسلمين في عصرنا.
وتحاول هذه الدراسة أن تلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، عسى أن تقوم بدورها في تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتأصيل هذا النوع من الفقه، وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصوا على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخَّره، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره؛ لعل في هذا ما يحد من غلو الغالين، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين».
وقد لقي الكتاب بحمد الله قَبولًا واهتمامًا من كثير من المثقفين والمفكِّرين، وترجم إلى عدد من اللغات.
التقائي أنيس منصور
(19/12/1994م)
ممن لقيتهم بالدوحة في هذه الفترة: الكاتب الشهير أنيس منصور، وهو صاحب عمود يومي في الأهرام أيضًا، في مقابل عمود أحمد بهاء الدين، وعنوانه معروف لدى قراء الأهرام، وهو «مواقف». وهو رجل ذو ثقافة واسعة، وقراءات متنوعة: في الفلسفة، وهي تخصصه الأصلي، وفي الأدب، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع، والدين، والعلوم المختلفة. وله آراء حرة تحسب في ميزانه وآراء أخرى يرفضها كثيرون.
وعلى الرغم من أني أقدّر ثقافة أنيس الواسعة، وبدايته الفلسفية، ورشاقة قلمه، فإني لا أنهض إلى قراءة عموده، كما أنهض لقراءة عمود بهاء الدين؛ ولذا لم يكن لقائي أنيس منصور حين دُعي إلى محاضرة في الدوحة، مثل لقائي بأحمد بهاء الدين.
والحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم، يقول: «الأرواح جنود مُجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
ومع هذ سَعيتُ لأشهد محاضرته، مجاملةً له، فأنا أعتبر هؤلاء المحاضرين الكبار ضيوفًا عليَّ في قطر، ومن حقِّهم عليَّ أن أُرحّب بهم، سواء وافقتهم أم خالفتهم. على أنَّ حضوري للاستماع إلى هؤلاء المحاضرين، ورؤيتهم لي في القاعة، يُخفِّف من غلوائهم، ويجعلهم يتحفظون في كلامهم عن الدين وعن العلماء أو الإسلاميين، كما لاحظ ذلك كثير من الحضور.
وبعد المحاضرة، لقيتُ الأستاذ أنيسًا وسلمت عليه، وعرَّفته بنفسي، فقال: وهل يخفى القمر؟ أنت القرضاوي الذي باسمه تُرتكب بلاوي، وتقع أحداث، كم باسمك يا شيخ قرضاوي يقترف ما يقترف؟
قلت له: أنت جعلتني مثل «الحرية» التي قال فيها من قال: كم باسمك أيتها الحرية يقتل من يقتل، ويظلم من يظلم؟
وضحك وضحكت، وانصرفنا.