السؤال:
إن عددًا من الإخوة المسلمين داخل جمهورية البوسنة والهرسك، حمَّلوني واجب التوجه بهذا السؤال الأليم المحير، الَّذي تنطق به على استحياء ألسنة فتياتنا اللاتي اغتصبهن الجنود الصربيون المجرمون المتوحشون، الذين لم يرقبوا في مؤمن إلًّا ولا ذمة، ولم يرعوا لإنسان كرامة ولا حرمة، وقد حمل بعضهن نتيجة لهذا الاعتداء الآثم، وشعرن بجنين يحملنه في أحشائهن، ويحملن معه الهموم والمخاوف والأحزان، والشعور بالفضيحة والذل والهوان، وهن لهذا يسألن الشيخ وأهل العلم جميعًا: ماذا يصنعن تجاه هذه الجريمة وآثارها؟ هل يجيز لهن الشرع إجهاض هذا الحمل الَّذي أتى برغمهن؟ وإذا بقي هذا الحمل حتَّى وضع حيًّا فما حكمه؟ وما مدى مسؤولية الفتاة المغتصبة؟
جواب الإمام القرضاوي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه. (وبعد)
فقد أصبحنا نحن المسلمين نهبًا لكلِّ طامع، وهدفًا لكلِّ نابل، وغدت أعراض نسائنا وبناتنا لحمًا مباحًا تنهشه الذئاب الجائعة، والسباع المفترسة، دون أن تخشى عقابًا، أو تخاف قصاصًا.
ولقد سُئلت مثل هذا السؤال من قبل، من إخوة في أريتريا؛ فعل ببناتهم وأخواتهم الجنودُ النصارى في جيش ما يُسمى الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا، ما يفعل جنود الصرب اليوم ببنات البوسنة الحرائر.
وقبل ذلك بسنوات أرسلت جماعة من النساء المؤمنات المعتقلات ظلمًا، من داخل سجون الظلمة الطغاة في بعض البلاد العربية الآسيوية بنفس السؤال إلى عدد من العلماء في البلاد العربية: ماذا يصنعن فيما تحمله أرحامهن من حمل حرام، لا ذنب لهن فيه، ولا اختيار لهن فيه؟
وأحب أن أؤكد أولًا: أن هؤلاء النسوة من أخواتنا وبناتنا، ليس عليهن أي ذنب فيما حدث لهن، ما دمن قد رفضن وقاومن في أوَّل الأمر، ثم أكرهن عليه تحت أسنة الرماح، وضغط القوة الباطشة، وماذا تصنع أسيرة أو سجينة مهيضة الجناح، أمام آسر أو سجان مدجج بالسلاح؟ لا يخشى خالقًا، ولا يرحم مخلوقًا؟!
والله تعالى قد رفع الإثم عن المكره فيما هو أشد من الزنى، وهو الكفر، والنطق به، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (النحل:106).
بل رفع القرآن الإثم عن الإنسان في حالة الضرورة القاهرة، وإن بقي له شيء من الاختيار الظاهري، وما ذاك إلَّا لأن ضغط الضرورة أقوى منه، قال تعالى بعد أن ذكر الأطعمة المحرمة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:173).
والنبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله وضع عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
بل إنَّ هؤلاء البنات والأخوات يؤجرن على ما أصابهن من البلاء، إذا تمسكن بإسلامهن الَّذي ابتلينَ وامتحنَّ من أجله، واحتسبن ما نالهن من الأذى عند الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلمُ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَة يُشَاكُها؛ إلَّا كفَّر الله بها من خطاياه».
فإذا كان المسلم يُثاب في الشوكة يشاكها، فكيف إذا انتهك عرضه أو لوث شرفه؟!
ومن أجل هذا أنصح للشباب المسلم أن يتقرَّب إلى الله تعالى بالزواج من إحدى هؤلاء الفتيات، رفقًا بحالهن، ومداواة لجرحهن، وهو جرح نفسي قبل كل شيء، ناشئ عن إحساسهن بأنهن فقدن أعز ما تملكه فتاة شريفة طاهرة، وهو عذريتها.
أمَّا إجهاض الحمل، فقد بينا في فتوى سابقة أن الأصل في الإجهاض هو المنع، منذ يتم العلوق، أي منذ يلتقي الحيوان المنوي الذكر بالبويضة الأنثوية، وينشأ منهما ذلك الكائن الجديد، ويستقر في قراره المكين في الرحم.
فهذا الكائن له احترامه وإن جاء نتيجة اتصال محرم كالزنى، وقد أمر الرسول المرأة الغامدية الَّتي أقرَّت بالزنى واستوجبت الرجم، أن تذهب بجنينها حتَّى تلد، ثم بعد الولادة أن تذهب به حتَّى يُفطم.
وهذا ما أختاره للفتوى في الحالات العادية، وإن كان هناك من الفقهاء من يجيز الإجهاض إذا كان قبل مضي أربعين يومًا على الحمل، عملًا ببعض الروايات الَّتي صحت؛ بأن نفخ الروح في الجنين يتم بعد أربعين أو اثنين وأربعين يومًا.
بل من الفقهاء من يرى الجواز إذا كان قبل مضي ثلاث أربعينات أي قبل مائة وعشرين يومًا، عملًا بالرواية الأشهر بأن نفخ الروح يتم عند ذلك.
والذي نرجِّحه هو ما ذكرناه أولًا، ولكن في حالات الأعذار لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة.
ولا ريب أن الاغتصاب من عدو كافر فاجر، معتد أثيم، لمسلمة عذراء طاهرة، عذر قوي، لدى المسلمة ولدى أهلها، وهي تكره هذا الجنين - ثمرة الاعتداء الغشوم - وتريد التخلص منه .. فهذه رخصة يُفتى بها للضرورة، الَّتي تقدر بقدرها.
ونحن نعلم أن هناك من الفقهاء من شددوا في الأمر، ومنعوا الإسقاط ولو بعد يوم واحد من الحمل، بل هناك من حرموا مجرد الامتناع الاختياري عن الإنجاب، بمنع الحمل من قبل الرجل أو المرأة أو كليهما، مستدلين بما جاء في بعض الأحاديث من تسمية «العزل» بـ «الوأد الخفي». فلا غرو أن يحرم الإجهاض بعد الحمل.
والأرجح هو التوسُّط بين المتوسِّعين في الإجازة، والمتشدِّدين في المنع.
والقول بأنَّ «البويضة» منذ يلقحها المنوي أصبحت «إنسانًا» إنَّما هو لون من «المجاز» في التعبير، فالواقع أنَّها «مشروع إنسان».
صحيح أنَّ هذا الكائن يحمل الحياة، ولكن الحياة درجات ومراتب، والحيوان المنوي نفسه يحمل الحياة، والبويضة قبل تلقيحها أيضًا تحمل الحياة، ولكن هذه وتلك ليست هي الحياة الإنسانيَّة الَّتي تترتب عليها الأحكام.
ومن ثم تكون الرخصة مقيَّدة بحالة العذر المعتبر، الَّذي يقدره أهل الرأي من الشرعيين والأطباء والعقلاء من الناس، وما عدا ذلك يبقى على أصل المنع.
على أن من حق المسلمة الَّتي ابتليت بهذه المصيبة في نفسها، أن تحتفظ بهذا الجنين، ولا حرج عليها شرعًا، كما ذكرت، ولا تجبر على إسقاطه، وإذا قدر له أن يبقى في بطنها المدة المعتادة لحمل ووضعته، فهو طفل مسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطْرة». والفطرة هي التوحيد وهي الإسلام.
ومن المقرَّر فقهًا: أنَّ الولد إذا اختلف دين أبويه، يتَّبع خير الأبوين دينًا، وهذا فيمن له أب يعرف، فكيف بمن لا أب له؟ إنَّه طفلٌ مسلمٌ بلا ريب.
وعلى المجتمع المسلم أن يتولى رعايته والإنفاق عليه، وحسن تربيته، ولا يدع العبء على الأمِّ المسكينة المبتلاة، والدولة في الإسلام مسؤولة عن هذه الرعاية بواسطة الوزارة أو المؤسسة المختصَّة، وفي الحديث الصحيح المتَّفَق عليه: «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته».