صدر للعلامة الدكتور القرضاوي كتاب جديد بعنوان "موقف الإسلام من العقل والعلم"، وهو الكتاب الأول لفضيلته الذي تصدره وزارة الأوقاف المصرية بعد الثورة، ويعالج قضية من أكبر قضايا الدين الحنيف التي حظيت باهتمام العلماء قديما وحديثا.
مقدمة الكتاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. ( وبعد)...
كلُّ علماء الأمم ودُعاتها ومفكريها الكبار عنوا عنايةً بالغة، بموقف الإسلام من العقل ومن العلم، وبيّنوا ذلك بوضوح لا ريب فيه. فالأستاذ الإمام محمد عبده، مفكّر مصر الأول، ومفكر الأزهر الأول، له كلامُه البيّن فى عدد من كتبه ومقالاته، وخصوصا فى كتابه القيّم: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).
والعلامة المجدد محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام وناقل علمه، وصاحب مدرسة (المنار) التجديدية، ومؤسس مجلة (المنار) العلمية الإصلاحية، له كذلك موقفه الثابت من قضايا العلم، وتبنيه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: إن صحيح المنقول، لا يمكن أن يناقض صريح المعقول، وشيوخ الأزهر الكبار، مثل الشيخ محمد مصطفى المراغى، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد الحليم محمود، وأمثالهم كان لهم موقفهم ودورهم من (موقف الإسلام من العقل والعلم)، وتسخيرهما لهداية البشرية وتنوير الحياة.
والداعية الإسلامى الكبير الشيخ محمد الغزالى له موقف علنى من العلم الحق الذى جاء به الإسلام، وله موقف نقْدى من علماء السوء، الذين انضموا إلى الحكام الظلمة ضد الشعوب المقهورة.
يقول رحمه الله فى كتابه (دستور الوَحدة الثقافية بين المسلمين): "وفى العلاقة بين أجهزة الحكم وجماهير المسلمين، وقعتْ فوضى رهيبة عند تفسير أحكام الشريعة الغرّاء، حتى كادت الحقيقة العقلية لكلمة "الشورى" تتلاشى. وذكر الذاكرون اسمًا " لأهل الحل والعقد " بحثنا عن مفهومه فلم نجدْه إلا مع الغول والعنقاء والخل الوفى!! وأوجد الحكمُ الفردى فقهًا ليس له أصل دينىّ قائم، وفقهاء لا يستحقون ذرة من ثقة!! وقد قرأتُ مشروع دستور وضعه واحد من هؤلاء، فرأيت "الخليفة المنتظر" يستمتع بسلطات دونها بمراحل سلطات القيصر الأحمر فى موسكو، أو ساكن البيت الأبيض فى واشنطن.
قلتُ: وثيقة تُضم إلى غيرها من القُمامات الفكريّة فى حياتنا السياسية الغابرة والحاضرة على سواء!! إن القيمة الإنسانية لحكّام العرب والمسلمين لا تحتاج فى تقويمها إلى ذكاء، فهم إلا من عصم الله اغتنَوا من فقر على حساب شعوب بائسة، وغلوافى الأرض، بعد إشاعة الدمار العقلى والخلقى بين السواد الأعظم من الناس، ويعلم سكّان المشارق والمغارب أن الحكم عند المسلمين مغْنم تتلمظ له أفواه، وأن الحاكمين - إلا من عصم الله- يختفون حتما فى أى انتخاب حر، كما يختفى الكابوس عند اليقظة.
ومع ذلك فقد وُجد فقهاء يفسرون الشورى بأنها لا تلزم الحاكم! ويرون أن أهل الحل والعقد ينبتون من تلقاء أنفسهم، كما تنبت الذنِيبة فى حقول الأرز، فهم نبات شيطانيّ لا يزرعه أحد.
هؤلاء الفقهاء يخدمون هدفا واحدا، أن الأمة قطيعٌ يقوده حاكم فذّ، له من أسباب الرغبة والرهبة ما يطوّع له كلّ شىء، فهم باسم الإسلام يُعطونه سيفَ المعز وذهبَه. وبَدِيهٌ أن الإسلامَ براءٌ من هؤلاء المرتزقة، وأن فتاواهم وأفكارهم ليس وراءها فقهٌ ولا إيمان...".
والإمام حسن البنا من الذين عنوا بتأهيل العقل العلمى المسلم؛ ليقوم بدوره فى تأهيل الأمة؛ لتقوم بحق العلم، شرعيا كان أو عقليا. فالأصلان الثامن عشر والتاسع عشر، من الأصول العشرين للإمام الشهيد حسن البنا عليه رحمة الله تعالى ورضوانه، من الأصول المهمة، التى عنيتُ بالكتابة فيها كثيرا، بغيّة شرحها وتوضيح مقاصدها للمسلمين، وإزاحة الشبهات والالتباسات عنها، وقد كتبت فى ذلك أكثر من كتاب ورسالة.
فقد ألّفتُ فيها من قديم رسالتي: (الدين فى عصر العلم)، وجعلته فصلا من كتابي: (بينات الحل الإسلامي)، كما ألفت كتابي: (الرسول والعلم)، وقدمته للمؤتمر الإسلامى العالمى، الذى عُقد فى الدوحة احتفالا بمقدم القرن الخامس عشر الهجرى، وألفت كذلك كتابى: (العقل والعلم فى القرآن الكريم)، كما ألفت كتابي: (السنة مصدر للمعرفة والحضارة). وكتابي: (المرجعية العليا فى الإسلام للقرآن والسنة)، وكذلك كتاباي: (كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟)، و(كيف نتعامل مع السنة النبوية؟) لا يخلو كل منهما من حديث عن العلم والموقف منه.
فالموضوع ليس جديدا علىَّ حين أكتب فيه اليوم كتابىَّ الأول لوزارة الأوقاف المصرية، وهى أول وزارة بعد الثورة تتبنى الخط الوسطى الإيجابى المتوازن للإسلام، يقوم عليها صديقنا العالم الناهض بدعوة الإسلام الأستاذ الدكتور الشيخ/ طلعت عفيفى حفظه الله، وعلى علماء الأمة أن يقوموا بشرح مثل هذه القضايا شرحا علميا أصوليا فقهيا، حتى تفهمها الأمة، وتعمل بها، وتمتزج بالقرآن والسنة وأصول الأمة، ولا تشِذّ عنها فى مبدأ من المبادئ، أو قاعدة من القواعد، أو أصل من الأصول.
فلا شك أن الإسلام هو أعظم دين يُحرر العقل، ويؤيد العلم، ويشيد بالبحث ، ويحثّ على النظر فى الكون، ويُنشِئ العقلية العلمية، ويرفض العقلية المستسلمة لكل ما يتوارثه الناس، دون مناقشة له، وعرضه المسلمات والواضحات الدينية والعقلية.
وإنا لنرجو أن يكون ما نقدمه فى هذه الأوراق، هو ما يحتاج إليه شبابنا فى مصر، وفى بلادنا العربية، وفى سائر أمتنا الإسلامية، وأن يحمل خيرا تتطلبه الإنسانية، التى أتعبها ظلم الإنسان وجهله فى أنحاء العالم، فهو يبحث يمينا ويسارا، وشرقا وغربا، ولا يجد الدواء الذى ينشده، ولا النور الذى يبتغيه، ولا الحياة التى يريد أن يحياها، وهى عند المسلمين وحدهم فى دينهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وأصيل فقهائهم، وما تميزوا به عن الأمم من هدى ونور: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور:40).