فلسطين كانت دوما قضية القرضاوي الاولى

أقام عدد من تلاميذ وأصدقاء ومحبي الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي في الأسبوع الماضي احتفالية صغيرة بمدينة الدوحة بمناسبة بلوغ الشيخ عامه الثمانين. وبالرغم من أن الاحتفاليات المرتبطة بفارقة زمنية ما قد تثير أسئلة فلسفية حول ما إن كانت هناك دلالة ما للفصل بين ما هو قبل وما هو بعد الزمن المتعين، فإن مما لاشك فيه أن المسلمين عامة، والمسلمين العرب على وجه الخصوص، تأخروا كثيراً في تكريم الأستاذ الشيخ الذي يعتبر وبحق أحد أهم العلماء العرب المسلمين على الإطلاق خلال نصف القرن الماضي.

كنت طالباً في المرحلة الجامعية الأولى بالقاهرة عندما شهدت الشيخ القرضاوي يدافع عن رسالته للدكتوراة (التي كان قد تأخر تقديمها بسبب ظروف السياسة المصرية) في قاعة الشيخ محمد عبده بالأزهر الشريف. وأتيح لي بعد ذلك قراءة عدد كبير من كتب ومقالات الشيخ، أو الاستماع إليه متحدثاً في بعض المؤتمرات. ولكنني لم أبدأ بدراسة أعماله دراسة علمية إلا منذ سنوات قليلة، ضمن اهتمامي المتزايد بتاريخ السلفية الإسلامية والإصلاحيين الإسلاميين العرب.

شجاعة العالم واجتهاده

الشيخ القرضاوي هو بالطبع أكثر العلماء المسلمين المعاصرين تأثيراً وشعبية؛ ولكنني أدركت عندما أعدت قراءة كتابه الهام الحلال والحرام في الإسلام قراءة متفحصة (وهو أول أعمال الأستاذ الشيخ) أنه امتلك منذ بداية حياته العلمائية ليس علم وأدوات المجتهد وحسب، بل وشجاعته أيضاً. هذا آخر الحاملين الكبار لراية الإصلاحية الإسلامية الحديثة، حارس ميراثها، ومن استطاع بجهد شخصي بحت في أغلب الأحيان أن يخرجها إلى الفضاء الواسع لجماهير المسلمين العاديين. وهذا هو أحد الشهود الكبار على تحولات الفقه والسياسة والفكر خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ولد يوسف القرضاوي بقرية قرب مدينة المحلة في قلب الدلتا المصرية عام 1926. ونظراً لوفاة والده وهو طفل صغير، ثم وفاة والدته وهو في سن الرابعة عشرة، فقد انتقل إلى رعاية عمه وخالاته وجدته. العائلة العربية المصرية هي أصلاً عائلة ممتدة، ولكن هذا الظرف الخاص ولد لدى القرضاوي إحساساً مبكراً بالانتماء إلى الجماعة الكبيرة، التي أصبحت فيما بعد الجماعة/ الأمة. انتقل القرضاوي إلى القاهرة للدراسة في الأزهر (الذي تخرج فيه بشهادة العالمية عام 1954) في فترة انتقالية من تاريخ مصر الحديث، فترة الانهيار المتسارع للنظام الملكي، صعود حركة الإخوان المسلمين، وقيام ثورة يوليو 1952.

السلفية الحديثة

ويشير القرضاوي في مذكراته إلى أنه درج على إلقاء الدروس في مسجد قريته في فترات العطلة الدراسية، وإنه نسج في دروسه الفقهية نهج الشيخ سيد سابق في كتابه الشهير فقه السنة، الذي بدأ في الصدور بمقدمة كتبها حسن البنا في 1945، والشيخ محمود خطاب السبكي (مؤسس الجمعية الشرعية) في كتابه الدين الخالص.

ولأن هذين الكتابين يعتبران من النصوص الفقهية السلفية الحديثة، التي تركت أثراً كبيراً على ثقافة المدن العربية ـ الإسلامية الكبرى، فلا بد من إشارة مختصرة إلى التاريخ الحافل للتيار السلفي الإصلاحي خلال الحقبة الإسلامية الحديثة.

إن كان ابن تيمية يمثل المرجعية الرئيسية للمدرسة السلفية الإسلامية فربما تجدر الإشارة إلى أن مشروع ابن تيمية الإصلاحي لم ينتصر في حياته، نظراً للصعود الهائل لسلطة المذاهب الفقهية والطرق الصوفية منذ القرن الرابع عشر الميلادي؛ بل وانتشار التصوف السريع في أوساط العلماء في الحواضر الإسلامية الرئيسية من فاس إلى دلهي. لم تبدأ حركة الإحياء السلفي من جديد وإعادة الاعتبار لابن تيمية إلا في القرن السابع عشر، وذلك في دوائر علماء متصوفة مجددين حاولوا مواجهة الشطط الصوفي السلوكي والفلسفي، من أمثال الهروي والكوراني.