بعث أحد محبي فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي برسالة إلى مكتبه تمتزج فيها أبيات من الشعر بشيء من النثر، يعبر فيها بأسلوب بسيط قريب إلى القلب عن حبه لفضيلته وخوفه مما يحاك له على أيدي اللئام الذين تعلو أصواتهم تخلط بين ما ينشره فضيلته من وسطية في الفكر والتصرفات، وبين ما ينادى به غيره من إرهاب وسفك لدماء الآمنين في محاولة لخلق حالة من الشوشرة لدى البسطاء الذين يرون في شيخنا مرجعية في العلم والفقه في زمان اختلطت فيه الأوراق.
يبدأ الأستاذ عيد السلام البسيوني رسالته متهكما على ما تؤول إليه أحوال الناس من سلبية عندما يصطدمون بألاعيب وجبروت بعض أهل السياسة، ويؤكد على أنه آثر السلامة ليعيش مسالما خشية أن يطاله ما يطال الآخرين من ذل ومهانة إن هو اعتنق السياسة، فهو يرى أن التفكير صار - بالقانون - جريمة، والتذكير بالحق تهمة عظيمة. إلا أنه أقلع عن مذهبه عندما رأى موقف أهل الديمقراطية، وحماة الليبرالية من الذين يكيلون بمكيالين، ورأى القيم التي عليها يعتمدون؛ الأمر الذي جعله ينسى منهج السلامة، ليعبر عما في نفسه من أفكار خرجت من القلب فكان لها من السهولة أن تغزو القلب.
وهو هنا يضرب مثلا بموقفهم من شيخنا القرضاوي، وكيف أنهم كان يصفونه بأنه صوت اعتدال، وكم كانوا يحسنون له الاستقبال، ثم إذا بهم ينقلبون عليه، ويسيئون إليه، حتى وصل الأمر في سخفهم لأبعد غاية. وكما جاء في المقامة التي ساقها الأخ الفاضل:
بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله نبدأ
حدثنا المظلوم بن غلبان قال:
أنا رجل مسالم، أحب أن أعيش وأنا سالم، قد "أرنَبَتْني" السياسة، "وأجبَنْتني" سباقات العلو والرياسة، وأذلني التنافس على القوة، وقهرني تحول كلِّ أحد إلى قبضاي وفتوة، فصرت أكره وجع الرأس، وكل ما يؤدي لتهمة أو حبس، وبِتُّ آكل العيش "بالجُبْن" مجتنبا كل ما يعكر الأمن، فتراني أسير دائما جنب الحيط، وأكره الحركة والتنطيط، حتى لا يظن بي فلانٌ شرّا، ولا يفكر علانٌ أن يلحق بي ضرّا، ولا يلفق لي ترتان تهمة، أو يقول فلتان عني كلمة، فلم تعد الحكاية ناقِصة، ولا الجِـتَّةُ خالِصة، إذ إن أسهل شيء صار الاتهام، بالمروق والتمرد والإجرام، أو التخابر لصالح دولة أجنبية، أو تكوين مجموعة إرهابية. وعقوبة هذا الإعدامُ رميا بالرصاص، أو التشريف في أبي غريب بلا مناص، والإعلام المستنير جاهز للردح، وتكرير الاتهامات والفضح، فهو يبتغي جنازة ليشبع لطما، ويشنِّع على الأبرياء ويتمادى شتما:
يا رب فاشهــد أننــي شخصٌ نظيفُ منضبـطْ
ألغيتُ عقـلي عـــامدا في أمـةٍ تهوى "العَبـط"
وتركتُ أخلاقَ الأســود تَخِذْتُ أخـــلاقَ القطط
لا أعشق الأضــوا.. ولا أهوى البهــارجَ واللغطْ
وأخـاف من ظلي كمــا أخشى التورطَ والغلــط
لم أرتكـب جُنَحا ولــم أجنح إلى العـدوان قـط
وأطيع "سِيـدي العسكريّ" بدون ريثٍ أو شطــط
وأعاندُ القلبَ الحــــ رونَ مدىً لئلا يرتبـط
لا باليمين أو اليســـار و لا العــدالة والوسط
لعلمي أن الارتباط، يمسح بأصحابه البلاط، والتفكير صار -بالقانون- جريمة، والتذكير بالحق تهمة عظيمة، ولا شيء يعدل السلامة، فعقبى التفكير في زماننا - غالبا- الندامة، حتى لو في تناقض ظاهر، وعوارٍ عائر.
لكن ما جعلني أنسى طريقتي، وأتخلى عن عادتي، شيء أقض مضجعي، ونطَّط قلبي بين أضلعي، ولم يستطع عقلي فهمه، ولم تقبل معدتي هضمه، وهو موقف أهل الديمقراطية، وحماة حمى الليبرالية، والمكاييل التي بها يكيلون، والقيم التي عليها يعتمدون؛ فالأمر عندهم يكون الآن نعمة، وبعد دقيقة يصير بلية وتهمة، وهو على زيدٍ حرام، ولعمروٍ بفعله وِسام، وهو هناك حق مكفول، وعندنا هو إفك مرذول. وهذا الأمر جعلني أنسى منهج السلامة، وأتابع السكسوني وأقرأ كلامه!.
فمع هذا الازدواج، واضطراب المعيار والمنهاج، تراهم يتبجحون، ويتشرطون ويتحكمون، ويقولون نحن الأعقل والأعدل، ومنهجنا هو الأهدى والأمثل. وهم من فرط "الفَتْوَنة" يسنُّون ويشرعون، ويقيمون المحاكمات والسجون. فهل هذا من باب الاستهبال؟ أم من الاستهانة بالناس والاستغفال؟.
ولن أضرب أمثلة على هذا الكلام، ولن أطيل في لائحة الاتهام "فاقرأ المقامة الازدواجية؛ فإنها بالأدلة غنية" بل سأذكر مثالا لآخر البلاوي، عن رأيهم في سِيدنا الشيخ القرضاوي، الذي اشتهر في الأمة بالعلم والفضل، والخير والعطاء والبذل، وبالتميز الشديد والتفرد، والعطاء الثر والتجدد، فكم قالوا إنه صوت اعتدال، وأحسنوا له الاستقبال، ثم إذا بهم ينقلبون عليه، ويسيئون في جرائدهم إليه، وإذا بهم يفرشون له الملاية، ويصِلون في سخفهم لأبعد غاية:
صار القبــول تخوُّفــا والودُّ غــــادر واختفى
ومع الدعــاوى الجائــ رات غدا الهــدوءُ تطرفا
واستبدلوا البشرَ القديـــ ـم ضغينة "وتحسفـــا"
والشيخُ أضحـى مـارقـا وكأنمـا قـد أرجـفــا
أضحت عمامتُـه لظــى كلمـاتُه بـاتت "صفــا"
وسماحةُ العلمِ الرصيــن غــدت غثـاء "مقرفـا"
ذمـوا بـه إيمــــانَنـا ويقينَــنا والمصحـفـا
يا قوم أيــن عقولُكـــم؟ أوَتتْبَعون المرجــفــا؟
واحتجت أن أستريح ببضعة أسئلة، لعلي أسيغ بالإجابة عنها المشكلة:
أهاج وحدَه أم أنتم هيجتم الإعلام؟ أتطلبون رأس الشيخ أم رأس الإسلام؟ هل القضية مقصودة في هذه المرحلة؟ لتستحدثوا بين أهل الأرض معضلة؟ أهي لعبة انتخابيةٌ، وضرب من التزوير؟ أم حرفنة سياسيةٌ، لإعطاء فرصة للمستر بلير؟ أهي ضغطةٌ من اللوبي الصهيونيّ؟ أم قَرصةٌ من الجناح اليميني؟ أتصنعون رمزا للشر من القرضاوي؟ على غرار ما فعلتم بأسامة والزرقاوي؟ هل يستوون؟ وبالميزان نفسه يوزنون؟ ألم تقرءوا كتب الشيخ الكثيرة، وبحوثه الثرة الغزيرة؟ ألم تميزوا ما فيها من المنهجية؟ والسماحة والوسطية؟ ألم تروه داعية لكثير من جوانب حضارتكم، وظاهر تفوقكم ومعالمِ عمارتكم؟ ألم تعلموه حفيّا بالعدل والإنصاف، وترك الظلم والفحش والإجحاف؟ ألم تروه مناصرا للنساء؟ مدافعا عن حقوق المقموعين والضعفاء؟ ألم تعرفوا أنه يرفض العنف ويأباه، ويحذر من التطرف وعقباه؟
أين العيونُ المبصــرة؟ أين العقـــول النيـرة؟
أين التوازن في المناهــ ــج والعدالةُ ظاهــرة؟
أبناءَ سكسونَ مـا لَــ ـــكُمُ؟ دهتْكم فـاقرة
هل تستوي الظلمات عنـ ـدكمُ وأضواءٌ باهــرة؟
هل تستوي الحججُ المبيـ ـنة والفهومُ القاصــرة؟
أين الكلام عن التحــ ـرر والدعاوى الغابـرة؟
أين احترام وعودِكـم حول الحقوق مُوَفَّــرة؟
للعلم والرأي الحصيــ ـف وللرموز الزاهـرة؟
ها قد كشفتم غِلَّكـم فدعُوا الدعاوى العائـرة
وبعد أن جال هذا الكلام في تفكيري، وظننت أنني قد استراح ضميري، نط إبليس وأزعجني، وبالواقع الأسود أرهبني، وقال: كيف تقول هذا؟ وفيم تحشر نفسك ولماذا؟ ألا تعلم أنهم إذا غضبوا على فلان بهدلوه؟ وإذا تتبعوا علانا مَزَّعُوه وشوهوه؟ وسلبوه كل مزاياه؟ وحقروا كل سجاياه؟ وقلبوا خيره شرا؟ وحسناته ضرّا وعُرّا؟ فلماذا ترمي بنفسك في المهالك؟ وتسير باختيارك في أوعر المسالك؟
اقفل فمك ولا تتكلم، واصمت كأنك لا ترى ولا تعلم، فالمجد للعميان والطرشان، والنعمة للمبطلين وأهل البهتان.
وماذا سيفيدك القرضاوي؟ إذا كان حبه سيجلب على أهلك البلاوي؟ انفد بجلدك وأنت سليم، ولا تعرِّضن نفسك لسينٍ وجيم! واستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهل أنت أفهم من وسائل الإعلام؟ وأعلم منها بسماحة الإسلام؟ ثم أتظن نفسك أدرى من الخواجات؟ وأبصر بالأحداث والمجريات؟.
إن عليك السمع والطاعة، وترك التمحك واللكاعة، فإذا قالوا إنه إرهابي فقل آمين، وإذا أعلنوا أنه ظلامي فكن من الموافقين، وإذا اكتشفوا في كتبه غلطا، وفي فكره زيغا وشططا، وإذا قالوا إنه متآمر، أو حشاش أو مقامر، فهو كذلك، بل وأكثر من ذلك!.
ألا ترى إلى وجهه ينضح بالشر؟ وإلى لسانه لا ينطق إلا بالمر؟ ألا ترى إلى عمامته؟ وإلى زيه وهيئته؟ ألا ترى كلامه في محاضراته؟ وفي برامجه ومحاوراته؟ إنه يدعو للعنف! ويملأ قلوب المسالمين اليهود بالخوف! ويشجع العمليات "الانتحارية"، ويدعو بالنصر للعصابات البربرية، التي ترمي الأبرياء بالحجارة، ويعتبر ذلك من البطولة والجسارة، وهو كذلك يدعو لقمع النساء، والقسوة عليهن والاعتداء! فكيف تظن أنه بالمشيخة جدير؟ وبالكتابة والدعوة والتنظير؟.
أليس هو من نادى بنصرة أفغانستان؟ وأيَّد المتطرفين في الشيشان؟ أليس هو من كتب عن فلسطين؟ ونادى بأيامٍ كاليرموك وحطين؟ ألا يدل ذلك على أنه دمويّ؟ وأنه شرير تصفويّ؟.
حاولت أن أجادل الخبيث وأرد عليه، وأبين تفاهة الحجج التي لديه، وأن أنبهه إلى أنه يقلب الحق باطلا، وأنه يستخدم في حكمه ميزانا شائلا. لكنه حين أحس بذلك أخرج صورا لنزلاء أبي غريب، والتحقير المهين الغريب، الذي كان يُفعل بهم، والهوان الذي كان يحصل لهم، وكلمني بلهجة جادة آمرة، قضت على حججي الظاهرة، فالصور أقوى الحقائق، ولا ينسى "أبو غريب" إلا مائق، ثم نهرني وقال اسكت وإلا، فقلت: اعتراضي انقضى وولى، ورجع إليّ عقلي، وعاد التأرنبُ إلى شكلي، ووجدت لساني يقول ناصحا، وبأعلى صوتي أهتف صائحا:
اضبط كلامك أيها القرضــاوي
فالعصرُ عصرُ المبـطِل الغلَباوي
والحق حقُّ الأقوياء وشـرعُهـم
رجُمٌ يشيِّعُــها أصمُّ نَــواوي
ولسانُهم ســمٌّ زعافٌ قولُــه
هدمٌ ونيرانٌ ونشــْر كِمَـاوي
وبعدْلهِم ضجت سجـونٌ صُفِّدت
فيها الرجال وعُـرِّضوا لبلاوي
صار الجميعُ بحكمهم "بِنْ لادنٍ"
أو أيمنا.. أو مصعب الزرقاوي
مهما اعتدلتَ فأنـت في قانونهم
شيخٌ عنيفٌ مســـتبدٌّ غاوي
فاطو الكـتاب وجرّ حبلَك طائعا
أو لا.. فأبشر بالعـذاب الكاوي
عبد السلام البسيوني [email protected]