الأخوة المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كل عام وأنتم بخير بمناسبة بدء العام الهجري الجديد، سائلين الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العام عام خير ونصر وعز لهذه الأمة، وأن يخرجها من محنها ويجعل لها من عسرها يسراً ومن ضيقها فرجاً، وأن يجعل يوم هذه الأمة خيراً من أمسها ويجعل غدها خيراً من يومها.

نستقبل عاماً هجرياً جديداً ونودع آخر، هكذا مسيرة حياة الإنسان، مودع ومستقبل، وكل عام ينقضي بل كل يوم ينقضي بل كل ساعة تنقضي بل كل لحظة تنقضي هي صفحة من كتاب الإنسان تطوى وورقة من شجرة تذبل، حتى ينتهي الأجل (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

علينا في هذه المناسبة أن نقف وقفة تأمل مع حدث الهجرة النبوية التي جعلها المسلمون بداية لتاريخ هذه الأمة، ولم يجعلوا ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعثته، ولا وفاته، ولا الانتصار في غزوة بدر أو فتح مكة بداية التاريخ لهذه الأمة، إنما جعلوا هذا التاريخ يبدأ من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام.

هاجر عدد كبير من رسل الله، ولكن لم تكن هجرتهم مثل هجرة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانت هجرتهم لمجرد الفرار من الفتنة أو الهرب من الإيذاء والتضييق، أما هجرة محمد صلى الله وعليه وسلم فقد كانت بحثاً عن أرض خصبة لبذر الدعوة فيها لتنبت نباتها وتُؤتي أُكُلها بإذن ربها، كانت بحثاً عن قاعدة آمنة تنطلق فيها الدعوة ويؤسَّس فيها المجتمع وتنشأ فيها الدولة الإسلامية ويتحقق للمسلمين كيان مستقل، وكانت بحثاً عن دار الإسلام، قال تعالى (والذين تبوؤا الدار والإيمان) كان يريد داراً للإسلام، تقوم فيها هذه الدولة الوليدة ويجد أناساً يحمون هذا الدين ويفدونه بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وفعلاً استطاع أن يقيم هذه الدولة وأن يؤسس هذا المجتمع وينشيء هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجت للناس ، والفضل يرجع في ذلك إلى مرحلة التأسيس في مكة في السنوات الثلاثة عشر. وإلى دار الأرقم بن أبي الأرقم التي لقن فيها الرسول عليه الصلاة والسلام مبادئه وقيمه وتعاليمه لخلاصة أصحابه لتكوين الجيل الأول للإسلام الذي سيحمل الرسالة من بعد ويبلغ الدعوة إلى العالم، هذا هو الجيل المؤسس الذي نشأ في دار الأرقم ، هذا العهد هو الذي قال الله فيه لرسوله (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) يهيئه الله ويعده لهذا العبء الثقيل الذي ينتظره فعليه أن يهيئ نفسه في مدرسة الليل ومدرسة القرآن (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) فتهيأ لهذا القول الثقيل وهذا العبء الكبير بالقرآن وبقيام الليل ، كان العهد المكي هو عهد بناء هذا الجيل وتبليغ الدعوة إلى قريش ومن حولها، بلغها إلى القادمين إلى موسم الحج كل عام ، بلغها إلى الطائف في رحلة آسية حزينة، سمح لأصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم وظل عليه الصلاة والسلام يعرض هذه الدعوة على قبائل العرب، لم ييأس أبدا ولم يقنط من رحمة ربه أبدا ولم يلق السلاح أبدا ، حتى هيأ الله له هذه الفئة التي ادخرها لنصرة دينه من أبناء يثرب من الأوس والخزرج ، فحينما عرض عليهم الإسلام انشرح صدورهم وانفتحت قلوبهم ودخلوا في هذا الدين ، كان هذا كله في العهد المكي ، ولولا هذا العهد ما كانت الهجرة إلى المدينة.

أيها المسلمون من حقنا أن نعتز ونفتخر ونحتفل بهذه الهجرة، وأن ننتهز هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشخصية هذا النبي العظيم وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فحينما نتحدث عن هذه الأحداث نذكر الناس بنعمة عظيمة ، والتذكير بالنعم مشروع ومحمود ومطلوب ، والله تعالى أمرنا بذلك في كتابه (قل يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)، ونذكر بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب حينما غزت قريش وغطفان النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين في عقر دارهم وأحاطوا بالمدينة وأرادوا إبادة المسلمين واستئصال شأفتهم وأنقذهم الله من هذه الورطة وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً من الملائكة لم يرها الناس، نذكرهم بما كان يهود بني قينقاع قد عزموا عليه أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكروا مكرهم وكادوا كيدهم وكان مكر الله أقوى منهم وأسرع ، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

ومن ناحية أخرى هذا الحديث عن هذه الأحداث الكبيرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حادثة الهجرة أو غزوة بدر أو فتح مكة أو غير ذلك إنما تمثل تجسيداً للأسوة المحمدية، نحن مأمورون أن نأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نتخذه مثلاً بشرياً أعلى لنا، فقد وضع الله فيه الكمالات التي تفرقت في الرسل واجتمعت في شخصه ، قال رسول الله "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" تمم الله فيه المكارم التي توزعت عند الآخرين ، فمن حقنا أن نتمثل هذه الأسوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ، سيرته عليه الصلاة والسلام حافلة وجامعة يستطيع كل إنسان أن يتخذ منها موضعاً للقدوة ، فيستطيع أن يقتدي به العزب في حالة العزوبة لأنه لم يتزوج إلا في الخامسة والعشرين ، المتزوج بزوجة واحدة يستطيع أن يقتدي به لأنه عاش مع زوجة واحدة تكبره بخمسة عشر عاماً معظم عمره ، وصاحب الزوجتين فأكثر يستطيع أن يقتدي به لأنه في أواخر حياته اقتضت ظروف الدعوة أن يتزوج وتزوج الكبيرة والصغيرة والعربية والإسرائيلية والبكر والثيب وصاحبة الأولاد وغير صاحبة الأولاد، يستطيع الوالد أن يقتدي به في معاملة أولاده البنين والبنات ، في حالة الحياة وفي حالة الممات، لأن معظم أولاده ودعهم في حياتهم، ما عدا أصغر بناته فاطمة الزهراء رضي الله عنها فلا مانع إذن أن نتحدث في هذه المناسبات عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداه " لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو خير الناس في كل أحواله ، هو خير المهاجرين وخير الدعاة وخير القواد في الحرب وخير الأئمة في الصلاة وخير القضاة إذا حكم وخير المفتين إذا أفتى وخير الأزواج إذا تزوج وخير الآباء إذا أنجب وخير الأجداد إذا أحفد وخير الناس في كل شيء ، الله تعالى جعله المثل الأعلى ليرى الناس الكمال البشري مجسداً والإسلام الحي ماثلاً أمام الأعين ، فالناس في حاجة إلى مثل عملي، مجسد يرونه أمامهم واضحاً للأعين مسموعاً للآذان مؤثراً في القلوب وكان هذا هو محمداً رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم .