الشيخ محمد بن حمد آل ثاني و القرضاوي

المؤامرة اليوم تتجه إلى الدائرة المغلقة التي تقوم على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، لا تحتمل إلا وجهاً واحد، تريد اختراقها وإذابتها، لتتمزق الأمة وتنحل، ولا يبقى لها شيء تجتمع عليه

مودة قديمة واحترام متبادل

فيما يلي رد القرضاوي على سعادة الشيخ محمد بن حمد آل ثاني فيما تبناه من رأي حول فوائد البنوك وأنها ليست هي الربا الحرام، فيقول القرضاوي:

بيني وبين سعادة الشيخ محمد بن حمد آل ثاني مودة قديمة، واحترام متبادل وله مواقف في مساندة مشروعاتي الخيرية والدعوية لا أنساها، كما أقدر له تبنيه لمركز إسهامات المسلمين في الحضارة، الذي يقوم بترجمة أمهات الكتب في الحضارة الإسلامية إلى اللغة الإنجليزية وغيرها.

ولكن هذا لا يمنعني أن أخالفه وأنقده فيما أرى أنه أخطأ الصواب، فالدين النصيحة والمؤمن مرآة أخيه، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. ويبقى الود ما بقي العتاب.

عتابي الأساسي على صديقنا الشيخ محمد في بيانه الأول، وبيانه الثاني يتمثل في عدة نقاط:

أولاً: أنه ورط نفسه فيما ليس من اختصاصه، ونصب نفسه حاكماً بين أهل العلم الشرعي فيما اختلفوا فيه، أو قيل: إنهم اختلفوا فيه، وأراد أن يرجح كفة القلة على الكثرة، والمجاهيل على المشاهير، والاجتهاد الفردي على الاجتهاد الجماعي، وهو ما أرى أنه أخطأ فيه التوفيق.

ثانياً: أنه رد على بيان مجمع الفقه الدولي الإسلامي الذي عقد في قطر بأن علماء المجمع لهم مصالح مع البنوك الإسلامية، وهذا خطأ من عدة أوجه:

الأول: أن هؤلاء العلماء يمثلون الدول الإسلامية جميعاً، فاتهامهم اتهام للأمة جميعاً، وهذا لا يليق أن يصدر من مثله.

الثاني: أنه اتهمهم في دينهم ونيتهم، وأنهم يحرفون الشرع من أجل مصالحهم أي أنهم يبيعون دينهم بدنياهم، بل بدنيا غيرهم، واتهام عوام الناس – فضلاً عن علمائهم – في سرائرهم وبواطنهم لا يجوز، لأننا أمرنا أن نحاكم الناس بالظواهر ونكل إلى الله السرائر.

الثالث: أن نحو تسعين في المائة من أعضاء المجمع لا علاقة لهم بالبنوك، خذ مثلاً: ممثل قطر في المجمع: الدكتور ثقيل الشمري، ورئيس المجمع نفسه ممثل السعودية الشيخ بكر أبو زيد، وممثل عمان ومفتيها الشيخ أحمد الخليلي وممثل الإمارات وسوريا والعراق ولبنان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وكثير من البلاد الإسلامية .. على أن بعض الأعضاء ممن لهم نشاط مع البنوك الإسلامية هم والله فوق أي شك وأي تهمة، وهم أكبر وأعظم من أن نتكلم عنهم بسوء مثل الشيخ تقي النعماني ممثل باكستان والشيخ عجيل النشمي ممثل الكويت.

الرابع: أن هذا الاتهام نفسه يمكن أن يرد عليه بمثله، فيقال إن الشيخ محمد يدافع عن البنوك الربوية لأنه يرأس بنكاً كبيراً في الدوحة .. وتبادل الاتهامات بهذه الصورة غير لائق.

إلى أعلى

إجماع المجامع الفقهية على حرمة فوائد البنوك

ثالثاً: أن هذا الأمر فرغت منه المجامع الفقهية منذ زمن، وأجمعت كلها بلا استثناء على أن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وأول مجمع أقر ذلك بالإجماع هو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الذي أصدر قراره الصريح بذلك سنة 1965 م برئاسة الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر، وبحضور ممثلين لـ 35 دولة إسلامية، وكان في المجمع فطاحل مشهود لهم على مستوى العالم الإسلامي مثل الشيخ أبو زهرة والشيخ الخفيف والشيخ السايس والشيخ فرج السنهوري، والشيخ نور الحسن، والشيخ الفاضل بن عاشور .. وغيرهم، فكيف نسخ المجمع قراره السابق، وكيف نسخ المجمع بتكوينه الفقهي الضعيف قرار المجمع القديم بتكوينه الفقهي القوي؟ وما هي الأسس التي اعتمد عليها، وما هي البحوث التي قدمت له في هذا الشأن؟

لقد جرت سنة المجمع الفقهي الدولي إذا أراد أن يبحث أمراً ذا بال أن يستكتب له عددا من أعضاء المجمع، وعدداً من الخبراء المتخصصين من خارج المجمع، وأن تقدم البحوث في دورة المجمع، وتناقش مناقشة مستفيضة، قد يصدر بعدها قرار، وقد تؤجل إلى دورة أخرى حتى تستكمل البحوث وتستوفى الدراسات والمناقشات.

وكان على صديقنا الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يفعل ذلك إذا أراد أن يلغي قرار المجمع القديم، ويطلب من أعضاء المجمع ومن غيرهم من مصر ومن العالم الإسلامي أن يقدموا بحوثاً في الموضوع، وأن تتاح لهم فرصة عرضها وتقديمها، وأن تناقش المناقشة الجديرة بأمر خطير مثل (فوائد البنوك) وبعد ذلك يقال: إن المجمع رأى أن فتواه القديمة كانت خطأ، وأنه الآن يرجع عنها بالإجماع أو بالأغلبية ولكن للأسف لم يفعل هذا، بل لم يعرض الأمر على اللجنة الفقهية، ولم يكن النصاب مكتملاً كما ذكر ذلك العارفون ونشر في الصحف.

على أن القرار الذي صدر من مجمع البحوث الإسلامية سنة 1965م قد أقرته المجامع الفقهية المتخصصة مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والمجمع الفقهي الإسلامي بالهند، وغيرها من المجامع الإسلامية، كما أقرت ذلك المؤتمرات العالمية التي عقدت في عدد من الأقطار للفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي وللمصارف الإسلامية.

إلى أعلى

عيب مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر

إن عيب (مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر) أنه ليس مجمعاً فقهياً خالصاً، هو (مجمع بحوث) ففيه أساتذة في اللغة والأدب، وفي التاريخ، وفي العقيدة والفلسفة وفي التفسير، وفي الحديث والقانون وفي الطب والهندسة، وفيه عدد قليل من المشتغلين بالفقه، أظنهم أربعة، وقد وافق منهم اثنان، وخالف اثنان، فكيف يوافق هذا المجامع الفقهية التي تضم كبار المتخصصين، وتستعين بآخرين من علماء الفقه المرموقين من خارج المجمع؟

وقد قامت فكرة الشيخ طنطاوي شيخ الأزهر في تحليل فوائد البنوك على أساس أن الذي يودع ماله في البنك قد وكّل البنك وكالة عامة ليستثمر ماله في الحلال ويقتسم الربح معه.

وهذا العقد متوهم وغير موجود، والمكاتبات بين البنك وعملائه ليس فيها إلا دائن ومدين، وهو قد قيّد الاستثمار بأن يكون في الحلال لا في الربا وللوكالة شروط، ومقومات لا تتوافر في هذا العقد، ومناقشة هذا تطول .. والبنوك التجارية ليس لها حق الاستثمار إلا في حدود ضيقة جداً، وعملها الأساسي هو الاقتراض والإقراض، فالبنك هو المرابي الأكبر، وهذا مما لا يخفى على ذي لب.

وقد كنت كتبت منذ أكثر من عشر سنوات رداً على د. سيد طنطاوي، حينما كان في منصب مفتي مصر كتاباً بعنوان (فوائد البنوك هي الربا الحرام) وهذا العنوان أخذته نصاً من قرار مجمع البحوث بالأزهر السابق، وفنّدت فيه كل ما يقوله مبررو التعامل بالفائدة، وهي مبررات لا تقوم على ساق، ولا تسعى على قدم.

وتقتضي قول هؤلاء بأن فوائد البنوك ليست ربا، إنه لا يوجد في العالم ربا الآن لا في الغرب، ولا في الشرق، لأن بنوكنا هي نسخة أو صورة من البنوك في البلاد الرأسمالية الغربية، فإذا كان ما في بنوكنا لا يعتبر ربا، فليس في العالم كله ربا. وهذا لا يوافق عليه عقل، لا من أهل الدين ولا من أهل الدنيا، لا من أهل الشرع، ولا من أهل الاقتصاد.

وقد أثيرت في قطر منذ مدة ضجة مفتعلة لإحياء هذا الأمر والنفخ فيه بعد ما أغلق ملفه، رددت عليها في الطبعة الأخيرة من كتابي ذاك، وكان مما قلت فيها:

إلى أعلى

جرأة على الثوابت

إن من أعظم الفتن الفكرية، ومن أخبث المؤامرات على العقل الإسلامي المعاصر تلك المحاولات الجريئة لتحويل المحكمات إلى متشابهات، والقطعيات إلى محتملات، قابلة للقيل والقال، والنقاش والجدال، مع أن هذه المحكمات والقطعيات هي التي تمثل (ثوابت الأمة) التي انعقد عليها الإجماع المستيقن، واستقر عليها الفقه والعمل، وتوارثتها الأجيال جيلاً إثر جيل.

وكل دارس للشريعة الإسلامية وفقهها، يعلم علم اليقين أن هناك دائرتين متمايزتين، لكل منهما خصائصها وأحكامها.

الأولى: دائرة مفتوحة وقابلة لتعدد الأفهام، وتجدد الاجتهادات، ومن شأنها أن تختلف فيها الأقوال، وتتنوع المذاهب، وهذه الدائرة تشمل معظم نصوص الشريعة وأحكامها.

فهي دائرة مرنة منفتحة، وهذا من رحمة الله بعباده، لتتسع شريعته للعقول المتباينة، والمشارب المختلفة، والوجهات المتعددة، ولا غرو أن وسعت الظاهري والأثري وصاحب الرأي.

الثانية: دائرة مغلقة، لا تقبل التعدد ولا الاختلاف، لأنها تقوم على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، ومعنى واحداً، لأنها تجسد وحدة الأمة الفكرية والشعورية والعملية، ولولاها لانفرط عقد الأمة، وتحولت إلى أمم شتى، لا تربطها رابطة عملية، وقد حافظت الأمة طوال العصور الماضية على أحكام هذه الدائرة، وانعقد الإجماع عليها علماً وعملاً.

إلى أعلى

مؤامرة لاختراق الدائرة المحكمة

والمؤامرة اليوم تتجه إلى هذه الدائرة، تريد اختراقها وإذابتها، لتتمزق الأمة وتنحل، ولا يبقى لها شيء تجتمع عليه.

وهذا سر ما نراه من تشكيك في البديهيات واليقينيات وما علم من الدين بالضرورة، من مثل التشكيك في تحريم الخمر، أو تحريم الربا.

وقد يمكن أن يفهم هذا حين يصدر من العلمانيين واللادينيين والشيوعيين وأمثالهم، أما الذي لا يفهم ولا يعقل فهو أن يحطب في هذا الحبل بعض من يتحدثون باسم الدين، ويروجون بغبائهم بضاعة أعداء الدين.

إلى أعلى

ثمار الصحوة الإسلامية في المجال الاقتصادي

لقد كان من ثمار الصحوة الإسلامية في المجال الاقتصادي، التوجه إلى إنشاء (بنوك) لا تعمل بالفائدة، التي أجمع العلماء على أنها هي الربا الحرام، وكانت هي البديل الشرعي العملي للبنوك القائمة على أساس الفوائد الربوية التي لم يبتكرها المسلمون، وإنما ورثوها من عهود الاستعمار في أوطانهم، كما ورثوا القوانين الوضعية وغيرها. وبهذا بطلت دعوى الذين قالوا: لا تحلموا ببنوك بلا فائدة، فالفوائد عصب البنوك. وقد توسعت البنوك الإسلامية، ودخلت جل أقطار المسلمين، ولا تزال تزداد.

إلى أعلى

للبنوك الإسلامية أخطاء

ونحن لا ننكر أن في البنوك الإسلامية أخطاء تصغر أو تكبر، وتقل أو تكثر، ما بين بنك وآخر، وذلك لأن العنصر البشري فيها جاء أساساً – في الغالب – من البنوك التقليدية، فعقله مركب تركيباً ربوياً، وليس عنده أي خلفية إسلامية، ولا حماس عنده للفكرة، ولا فقه في المعاملات الشرعية، ولا غرو أن تقع منه أخطاء وربما انحرافات. إلا من رحم ربك وقليل ما هم، كما أن من الظلم أن نحكم على البنوك الإسلامية كلها حكماً واحداً، فهي لاشك تتفاوت تفاوتاً كبيراً. فبعضها بلغ مرحلة مهمة من التدقيق الشرعي كما في مصرف قطر الإسلامي، الذي كوّن إدارة خاصة لهذا التدقيق، وبنك قطر الإسلامي الدولي.

وبعض البنوك الإسلامية يطور معاملاته، ويتخلص بالتدرج من بعض الشوائب التي اضطر إليها، وبعضها لم يدخل في المعاملات التي كثر حولها الكلام، مثل بيع المراجحة، وسوق السلع والمعادن الدولية، كما هو شأن بنك التقوى.

ومهما يكن الأمر، فلا ريب أن البنك الذي ينص قانون تأسيسه ونظامه الأساسي على وجوب تطبيق أحكام الشريعة الإٍسلامية في جميع معاملاته، والابتعاد عن المحظورات الشرعية فيها من الربا والغرر الفاحش والظلم والاحتكار والغش وغيرها .. ويفرض عليه وجود رقابة شرعية تعتبر قراراتها ملزمة واجبة التنفيذ بلا تردد .. مثل هذا البنك – وإن ظهر في ممارساته بعض الخلل – أفضل من بنك لا يلزمه قانون ولا عرف برعاية أحكام الشرع.

وفي الواقع أنا لا يهمني البنك الإسلامي بقدر ما يهمني الحكم الشرعي، وأعني به تحريم الربا، الذي تعرض في الآونة الأخيرة لحملة مشبوهة مدبرة، ضمن الهجمة الكبيرة الشرسة المدروسة لكل ما هو إسلامي، في ميادين الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة أو السياسة أو غيرها.

ولقد سمعنا في هذه الحملة الصحفية والإذاعية كلاماً عجباً: فقد رددوا (اسطوانات) قديمة، كان قد فرغ منها العلماء من الرد عليها وإبطالها، مثل التفريق بين ربا الجاهلية وربا العصر الحاضر، والتمييز بين ربا الإنتاج وربا الاستهلاك. ودعوى أن الربا المحرم ما كان أضعافاً مضاعفة .. الخ.

هذه الدعاوى التي رد عليها علماء ومفكرون شرعيون واقتصاديون، أمثال العلامة أبي الأعلى المودودي، ود. محمد عبدالله دراز، ود. عيسى عبده إبراهيم، ود. محمد عبدالله العربي، والشيخ محمد أبي زهرة، ود.محمود أبو السعود، وغيرهم من العرب والعجم.

وقد دخل في هذه الحملة من يحسن ومن لا يحسن، وإن كان مما نحمد الله عليه أنه قلما يوجد فيهم فقيه معتبر من أهل الثقة المشهود لهم، المعروفين بإنتاجهم الفقهي الذي يقدره العلماء.

وجدنا من هؤلاء من يذكر اختلاف الفقهاء في علة الربا، في حديث الأصناف الستة المشهور، وينقل تضعيف ابن عقيل الحنبلي لكلام الفقهاء في العلة، ونحن لا نناقش العلامة ابن عقيل، ولكن نقول: إن حديث الأصناف الستة في (ربا البيوع) والمعركة إنما هي حول (ربا الديون) وهذا لا خلاف فيه. وهو ما تقوم عليه البنوك التقليدية.

إلى أعلى

ما هو الربا؟

وذهب بعضهم إلى أن الربا إنما هو في الذهب والفضة، ونحن اليوم نتعامل بالنقود الورقية، فلا هي ذهب ولا فضة، وعلى هذا لا يجري فيها الربا، ولا تجب فيها الزكاة!! وهذا كلام أوهى من أن يرد عليه. وقد رددت عليه قديماً في كتابي (فقه الزكاة).

وقال بعضهم: إن البنك ليس شخصاً مكلفاً، يتوجه إلى الأمر والنهي، وزعم أن الشرع لا يعرف (الشخصية المعنوية) وهو جهل قبيح. فقد عرف الشرع الشخصية المعنوية في (بيت المال) وفي (المسجد) و (الوقف) وغيرها. وجاء في أحاديث الزكاة في الصحاح اعتبار الخليطين في الماشية بمثابة شخص واحد، وطرده بعض الفقهاء – كالإمام الشافعي – في كل الأموال، وهو ما أخذ به مؤتمر الزكاة المنعقد بالكويت، في اعتبار الشركات كالشخص الواحد. وكأن هذا القائل يبيح للشركات أن تروج الخمر، وتتاجر في الدعارة، وغيرها، لأنها ليست شخصاً مكلفاً!!.

وقال من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي ربه ولم يبين ما هو الربا، ورووا في ذلك أثراً عن عمر، وهم عادة لا يعنون بالآثار ولا يعتمدونها، وإن صح هذا فهو في صور ربا البيوع الجزئية، أما ربا النسيئة أو ربا الديون، فهو مما لا ريب فيه، ولا يختلف فيه اثنان.

وإني لأعجب لهؤلاء كيف يتصورون أن يحرم الله شيئاً، وينزل فيه من الوعيد الهائل ما لم ينزله في غيره، كما في قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) [البقرة:275-279].

وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال "ما ظهر الزنى والربا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله"

كيف سمع الصحابة رضي الله عنهم هذا كله، ولم يعرفوا ما هو الربا؟ ولم يسألوا عنه؟ وكيف لم يبينه لهم الرسول الكريم؟ والبيان – كما يقول العلماء – لا يجوز أن يتأخر عن وقت الحاجة؟

إلى أعلى

ما استند عليه محللين ربا البنوك والرد عليهم

وكيف يكتمل الدين وتتم به النعمة إذا لم يتبين أهله المحرمات الكبيرة المتصلة بحياة الناس؟ وما معنى قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة:3].

ومما اتفق عليه هؤلاء المماحكون في تحريم الفوائد البنكية، ادعاؤهم أنه لا يوجد دليل على تحريم التحديد مقيماً للأرباح في عقد المضاربة. ونقول لهؤلاء: بل هناك دليلان شرعيان مؤكدان:

أولهما: الإجماع الذي نقله ابن المنذر والنووي وابن قدامة وغيرهم على عدم جواز التحديد المقدم، ولم يشذ عن ذلك فقيه واحد، ولا مذهب من المذاهب.

وثانيهما: الأحاديث الصحاح التي جاءت في منع المزارعة بشيء معين، مثل ثمار قطعة معينة من الأرض، أو مقدار معين من الثمرة، خشية أن تسلم هذه القطعة ويهلك غيرها، أو العكس، فيكون لأحدهما الغنم يقينا، وللآخر الغرم، وهذا ينافي العدالة المحكمة التي ينشدها الإسلام.

قال العلامة ابن قدامة، والمضاربة مزارعة في المعنى. وصدق رحمه الله، فالمضاربة مزارعة في المال، كما أن المزارعة مضاربة في الأرض.

إلى أعلى

لا منطق ولا حجة لمحللين الفوائد

الحق أني لم أجد للممارين المماحكين فيّ بالباطل في تحريم الفوائد أي منطق قوي، أو حجة مقنعة، إلا دعاوى أوهن من بيت العنكبوت.

وحسبنا أن المجامع العلمية والفقهية الإسلامية، والمؤتمرات العالمية للاقتصاد الإسلامي والفقه الإسلامي كلها قد أجمعت على أن الفوائد البنكية هي الربا الحرام. وهو ما تضمنه هذا الكتاب.

لقد مر العقل الإسلامي في المجال الاقتصادي بعدة مراحل:

مر بمرحلة (التبعية) الفكرية المطلقة، التي ترى ضرورة أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها.

ثم مر بمرحلة (التبرير) للواقع الذي فرضه الاستعمار بما فيه الفوائد، ومحاولة تجويزه بفتاوى شرعية.

ثم بمرحلة (الدفاع) أو (الاعتذار) الذي يعتبر الإسلام وكأنه في قفص الاتهام، فكل ما خالف حضارة الغرب وقيم الغرب يجب الاعتذار منه، والدفاع عنه.

ثم مر بمرحلة (المواجهة) للغرب وحضارته وفلسفاته وقيمه وتشريعاته، وأن للغرب دينه ولنا ديننا، وهي بداية الصحوة الإسلامية.

ثم بمرحلة (العمل) أو (إيجاد البدائل) الشرعية للواقع المخالف للإسلام، وفيها تعاون علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد الإسلامي، مع رجال المال والأعمال، في إقامة البنوك الإسلامية.

إلى أعلى

مرحلة تحسين البدائل وتطويره

ثم مرحلة (تحسين البدائل) وتطويرها، وتصحيح أخطائها، وتجميع قواها، والتنسيق بين بعضها وبعض، وتوحيد مفاهيمها وفتاواها، أو على الأقل تقريب بعضها من بعض.

وفي هذا الإطار قام البنك الإسلامي للتنمية في جدة بالتعاون مع البنوك الإسلامية لإيجاد (هيئة عامة للمحاسبة المالية) لهذه البنوك انبثق منها (مجلس للمعايير) يضم الشرعيين والمحاسبين والاقتصاديين، وهو يعمل منذ سنوات بجد واجتهاد، لإيجاد معايير مشتركة للبنوك الإسلامية، وقد فرغ من عدة معايير، وهو ماضِ في طريقه لاستكمال المعايير المنشودة.

وبعد أن قطعنا هذه المراحل، يريدنا هؤلاء الممارون: أن نرجع القهقرى، ونرتد إلى (مرحلة التبرير) من جديد، محاولين أن نحلل الفوائد التي هي الربا الحرام.

لقد كنا حسبنا أن هذا الموضوع قد حسم وفرغ منه، وأغلق ملفه، حتى قام من قام بفتحه من جديد، وأعادها جذعة، كما كانت منذ سبعين عاماً أو تزيد.

إلى أعلى

وضوح الحق ووهن الباطل

ولكن الذي يطمئننا، هو وضوح الحق، بنصاعة أدلته، وقوة رجاله، ووهن الباطل، وتهافت منطقه، وتناقض أصحابه، وكما قيل: الحق أبلج، والباطل لجلج، وكما قال تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء 81]. (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد 17].

الآن حصحص الحق، وتبين الرشد من الغي، فليختر كل امرئ لنفسه الطريق الذي يريد، إما طريق الجماعة، وإما طريق الشذوذ، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً "إن الله لا يجمع أمتي – أو قال أمة محمد – على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار".

إلى أعلى