د. يوسف القرضاوي

يستقبل بعض الناس أول شهر نيسان أو إبريل بعادة قبيحة لم تنبت في أرضنا ولم تخرج من ديارنا، إنما اقتبست من بيئة غير بيئتنا ومن بلاد غير بلادنا، هذه العادة القبيحة السخيفة هي ما سموه كذبة إبريل أو كذبة أول نيسان.

يكذب الناس بعضهم على بعض في هذا اليوم، يتصل أحدهم بصاحبه أو تتصل إحداهن بصديقتها وتبلغها نبأ لا أصل له، قد يكون نبأ مفرحاً مهماً جداً ثم يظهر أن هذا شيء لا أساس له، وكثيراً ما يكون النبأ مزعجاً مروعاً مفزعاً يجزع الإنسان له ويضطرب له قلبه وفؤاده ثم بعد مدة يتصل الشخص مرة أخرى ويقول لا لم يحدث شيء إنها كذبة إبريل، وكأن هذا أمر سهل هين، أن يكذب الإنسان الكذبة ليروع بها صاحبه ثم يقول هذه كانت مزحة وهزلاً..

وللأسف شاع الكذب في حياتنا كلها، ليس هذا الأمر وحده، هذا الأمر محرم من وجوه عدة محرم لأنه كذب والكذب ليس من أخلاق المؤمنين وإنما هو من أخلاق المنافقين، «آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً» وفي بعض الروايات «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ، المنافقون هم الكذابون، يكذبون في الدنيا ويكذبون في الآخرة، يكذبون على الناس ويكذبون على الله حتى يوم القيامة، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (المجادلة:18) .

هذا العمل محرم لأنه خلق منافي للإيمان، وفي بعض الأحاديث «سئل النبي صلى الله عليه وسلم، أيكون المؤمن جباناً يا رسول الله، قال نعم، قيل أيكون المؤمن بخيلاً يا رسول الله، قال نعم، قيل أيكون المؤمن كذاب يا رسول الله، قال لا» ، لأن الإنسان قد يكون من طبعه الجبن، فيخاف من خياله وتكون هذه هي طبيعته، وشخص شحيح لا يجود بالمال بسهولة فيمكن أن يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً وإن كان هذا كما جاء في الحديث «شر ما في الرجل شح هالع أو جبن خالع» ولكن ليس المؤمن كذاباً، لا يكون كذاباً، الله تعالى يقول {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل:105) .

المؤمن لا يكون كذاباً، وجاء في الحديث «يطبع المؤمن على كل خلة - أي على كل خصلة- غير الخيانة والكذب»؛ ولذلك أقول هذا العمل القبيح (كذبة إبريل) هي حرام لأنها كذب وكذب صريح، ثم أنها تفزع وتروع الإنسان بغير حق والنبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما» ولو كان ذلك بالمزاح والدعابة، جاء في الحديث أن الصحابة كانوا في مسيرة في سفر وكان أحدهم على راحلته فخفق، أي نعس، فلحظ ذلك بعض أصحابه فأخذ سهماً من كنانته حتى يبحث عنه فلا يجده فيفزعه، فانتبه الرجل ففزع ولاحظ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال «لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً» أي يدخل عليه الفزع ولو كان مازحاً معه وهذا وجه آخر من وجوه الحرمة .

ووجه ثالث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كبرت خيانة ، كبرت خيانة، أن تحدث أخاك بحديث هو لك مصدق وأنت به مكذب» الرجل الذي يسمعك طيب القلب مسالم يسمع لك أن هذا كلام صحيح ويأخذ الأمر مأخذ الجد وأنت تكذب عليه، أنت تخون صاحبك بهذا فهذا وجه ثالث من أوجه الحرمة في هذه القضية.

وجه رابع هو أن هذه العادة تقليد لغيرنا، تقليد أعمى ننقل عن الغربيين الغث والسمين والهزل والجد والطيب والخبيث وما يليق وما لا يليق، وهذا لا يناسب أمة جعلها الله أمة وسطا وجعلها شهيدة على الناس، بوأها مكان الأستاذية للبشرية، ولذلك جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» لا ينبغي أن يشيع الكذب في الحياة الإسلامية.

الحياة الإسلامية تقوم على الصدق ولا تقوم على الكذب والزيف، المسلم صادق هو صادق في نفسه وصادق مع أهله وصادق مع الناس أجمعين، صادق مع من يسالم وصادق مع من يحارب، هو صادق في كل حالاته، فإن الصدق خصلة من خصال الإيمان..

كان محمد صلى الله عليه وسلم مشهوراً بالصدق في الجاهلية والإسلام وحينما جمع الناس عند الصفا وقال لهم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالواد تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي» قالوا نعم ما جربنا عليك كذبا، لم يكذب قط، وقال هرقل «ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله» ، الأنبياء من أول أوصافهم الصدق والأمانة، كل الأنبياء صادقون أمناء، وينبغي أن يكون أتباع الأنبياء صادقين، صادقين في أقوالهم وأفعالهم وأمور حياتهم كلها، ولذلك إذا شاع الكذب في الحياة فليست هذه حياة إسلامية..

نحن نرى حياتنا الآن للأسف الشديد تقوم على الكذب في أمور كثيرة، الحياة السياسية تقوم على الكذب وعلى الخداع والزيف، والحياة الاجتماعية تقوم على الكذب والحياة التجارية تقوم على الكذب، انتشر الكذب بين الناس، وأصبحوا يقولون هناك كذب أبيض لا يضر شيء، فيخترع له عذراً من الأعذار وهو غير صحيح ويقول هذا لا يضر، لا، إنه يضر ويضر كثيراً وكثيراً، لا ينبغي أن يلجأ المؤمن إلى الكذب.

الحالات التي يمكن أن يكذب المسلم فيها

الإسلام لم يجز الكذب إلا في حالات معينة، مثل ما ذكره العلماء أن يكون هناك رجل ظالم يبحث عن إنسان بريء يريد أن يقتله بغير حق وجاء واختبأ عندك فلا يجوز لك أن تصدق إذا سألك هذا الظالم أرأيت فلاناً؟ لا تقل له رأيته، لأنك بذلك تتسبب في قتله بغير حق، وروت أم كلثوم بنت عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في الكذب إلا في أمور ثلاثة، الرجل يريد الإصلاح -أي بين المتخاصمين- والرجل يتحدث في الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها، في هذه الأمور الثلاثة يجوز الكذب فيها..

في الإصلاح بين الناس لا ينبغي أن ينقل المرء وهو يحاول أن يقرب بين متباعدين أو يصلح بين متخاصمين أن ينقل ما يسمع من الكلام من هذا في حق هذا، بل يكتم ما سمع أو يزوقه، يحذف البعض ويزيد على البعض بحيث يقرب المسافة بينهما، كما جاء في الحديث الآخر «ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو أنمى خيراً» فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين فمن أجل هذا أجيز هذا التزيين والتزويق للتقريب بين هذين المتجافين أو المتقاطعين.

والموضع الثاني في الحرب ، فليس معقولاً إذا أخذ الإنسان أسيراً أو نحو ذلك وسأله الأعداء أن يحدثهم بقوة الجيش وبأسلحته وبمواضع الأسلحة ويكشف العورات ويدل على مواطن الضعف في الجبهة الداخلية ويقول أنا قلت الصدق، لا، هذا الصدق يدمر أمة، كذلك علاقة الرجل مع زوجته وعلاقة المرأة مع زوجها، ليس من الضروري أن يصارح الرجل امرأته بحقيقة ما عنده، حتى لو كان ينفر منها، لا يقول لها أنني أنفر منك، بالعكس يحاول أن يتودد لها فتتودد إليه فربما هذا التودد يزيل هذه النفرة..

وذلك حينما جاء رجل إلى سيدنا عمر وأخبره أنه طلق امرأته لأنه سألها هل تبغضه فلم تجب فحلف عليها أن تجيبه فقالت له أنا لا أحبك، فجاءت المرأة إلى سيدنا عمر فكلمها فقالت يا أمير المؤمنين ناشدني الله أفيسعني أن أكذب؟ قال لها «نعم إذا كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على الحب، وإنما يتعاشر الناس بالإسلام والأحساب» بالدين والأخلاق يتعاشر الناس..

هذه هي المواضع التي رخص فيها الإسلام في الكذب، ذلك لأن هذا الدين دين واقعي،  هناك بعض الفلاسفة المثاليين دعاة فلسفة الواجب مثل الفيلسوف الألماني الشهير كانت لا يسمح بالكذب في أي حال من الأحوال ولكن الإسلام دين واقعي يعالج الواقع بما يلزم له، فإنما حرم الكذب لما يترتب عليه من أضرار وخبائث فإذا كان الصدق نفسه يترتب عليه أضرار فالصدق في هذه الحالة ضار ولذلك قالوا هناك صدق قبيح مذموم منه نقل الكلام الذي يسمعه الإنسان وهذه هي النميمة، النميمة أن تنقل الكلام الذي سمعته بالحرف من شخص إلى شخص أو من فئة إلى أخرى لتفسد ما بينهما، هذا صدق مذموم.

ومن الصدق المذموم ثناء المرء على نفسه أن يمدح الإنسان نفسه ويزكيها عند الآخرين والله تعالى يقول {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم:32) وذم الله اليهود فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:49) وفي الأمثال الناس يقولون «لا يشكر نفسه إلا إبليس» ذلك أن إبليس حينما امتنع عن السجود لآدم وسئل ما الذي منعك أن تسجد لآدم، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.

المسلم لا يلجأ للكذب الصريح

الإسلام أباح الكذب في مواضع معينة لضرورات والأصل أن المسلم لا يلجأ إلى الكذب الصريح ما استطاع إلى ذلك سبيلا فقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم «إن في المعاريض لمنذوحة عن الكذب» ومقصود بالمعاريض أن تلوح ولا تصرح وأن توري بالكلام، أن تقول بالكلام تقصد معنى ويفهم السامع معنى آخر والمعنى الذي قصدته صحيح، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر سأله بعض الناس قابلوه في الطريق وكان النبي لا يريد أن يعرف سألوه من أين جئتم ؟ فقال «من الماء» ففهم الرجل أنهم قادمون من العراق أو من هذه البلاد التي فيها الأنهار والنبي صلى الله عليه وسلم يقصد الآية الكريمة {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق:5-7) ، {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} (المرسلات:20) وسئل أبو بكر من هذا الذي معك ؟ فقال لهم هذا دليلي، ففهم أنه دليله أي هو الذي يعرف الطريق وأبو بكر يقصد دليلي أي دليلي إلى الله وإلى الجنة وإلى الصراط المستقيم فهذه هي المعاريض.

سأل الأمير زياد بن أبي سفيان أحد التابعين مطرف بن عبدالله سأله ما الذي أخرك عنا صار لك مدة لم نرك؟ فقال له: أيها الأمير والله ما رفعت جنباً منذ فارقتك إلا ما رفعني الله عز وجل، ففهم منه أنه كان مريضاً، ولكن حتى الصحيح لا يرفع جنباً إلا ما رفعه الله، فبمثل هذا ينبغي للإنسان أن يتخلص من المآزق، ولذلك كان بعض السلف إذا جاء أحد ولا يريد أن يقابله لأنه ظالم أو فاسد أو لا يريد لقاءه، فترسم الجارية دائرة وتقول له هو ليس هنا، أي تقصد في هذه الدائرة، وهكذا، كانوا يتخلصون بمثل هذه المعاريض عند الضرورة ولكن الأصل هو الصدق الصحيح.

مسميات جديدة للكذب

مشكلة حياتنا الآن أن الكذب قد شاع فيها، كما قلت شاع في كل ألوان الحياة، الاجتماعية والتجارية والسياسية، في الحياة الاجتماعية نجد الناس سموا الأشياء بغير أسمائها، زيفوا لها أسماء جديدة، حتى قال أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله:

مـا كان في ماضي الزمان محرماً  **  للناس في هذا الزمان مبـاح

صــاغوا نعوت فضائل لعيوبهم  **  فتعــذر التمييز والإصـلاح

فالفتك فن والخداع سياســة  ** وغنى اللصوص براعة ونجـاح

والعري ظرف والفســاد تمدن ** والكذب لطف والرياء صـلاح

هكذا قال شوقي رحمه الله، كذب الناس على أنفسهم وزيفوا لهم مصطلحات جديدة، الانحراف يسمونه تطوراً والفساد يسمونه تمدناً والعري يسمونه تحرراً وهكذا، هذا في حياتنا الاجتماعية، وفي حياتنا التجارية والاقتصادية ساد الزيف والكذب في حياة الناس، كان السلف يقولون أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا باعوا لم يمدحوا وإذا اشتروا لم يذموا، إذا باعوا لا يحاول أن يمدح السلعة حتى يغري المشتري وإذا اشترى لم يذم..

الآن انظر ماذا صنعت بنا الحضارة الغربية؟ دخلت علينا بخيلها ورجلها وزينت لنا كل شيء، الإغراء بالشراء، التزيين المبالغ فيه، الدعاية والإعلان حتى سمعت بعض الناس يقول أنهم يصرفون خمسين أو ستين أو سبعين في المائة على الإعلان وهذه هي التجارة الجديدة، وقلت له هذا على حساب من؟ فهذا على حسابي وحسابك أنت المشتري والمستهلك تدفع هذا في النهاية، فالسلعة تكلفت ثلاثين يصرف عليها سبعين ويبعها لك بمائة، لماذا؟

هذا ظلم وسرقة، وهكذا هو الغرب، يفعل الغرب ما يشاء فلسنا عبيداً له، لماذا نفعل ذلك عندنا؟ لماذا نغري الناس بأن يشتروا مالا حاجة لهم إليه، ما هذا الجشع وما هذا الشره، يريد الإنسان بدل الألف يريد عشرة آلاف ومن عنده عشرة آلاف يريدها مائة ألف والذي عنده مائة ألف يريدها مليونا والذي عنده مليون يريدها عشرة ملايين والذي عنده عشرة ملايين يريدها مليارا وهكذا، والناس كجهنم إذا قلت لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد؟ 

ومن أجل ذلك رأينا هذا التنافس الغريب في الدعاية والإعلان، هذه السوق الغريبة، أنا لا أقر هذا، أنا أعتبر أن هذا حرام، المبالغة في الدعاية والإعلان ليشتري الناس ما لا حاجة لهم إليه ويرموا بسلعهم القديمة هذا لا يجوز، لأننا نغري الناس بالإسراف في الاستهلاك والله تعالى يقول {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) ، (..وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء:26-27) ، أمن أجل أن أكسب أنا أدعو الناس إلى أن يشتروا وأحياناً يشترون بالديون، وبالتقسيط؟!

ومشكلة التقسيط هذه مشكلة كبيرة، أن الإنسان ليس عنده مال فيشتري بالتقسيط وتتراكم الديون عليه والدين هم بالليل ومذلة بالنهار، «أعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» هذا ما تقوم عليه التجارة الحديثة، وأعجب من ذلك جوائز السحب، السيارات هذه الأشياء، لماذا؟ أنت تبيع قماش أو كذا، ما دخل أن تعطي الإنسان سيارة، هذا إشاعة روح القمار وأشعنا في الناس عندنا أن كل واحد يريد أن يكسب سيارة مجاناً، هذه هي روح القمار، ليس القمار بنفسه إنما روح القمار، أن الإنسان يريد أن يكسب بغير جد وبغير جهد، بغير كد يمينه ولا عرق جبينه، فهي ضربة حظ تأتي له بآلاف أو ملايين، ما هذا؟ .

اربح مليون دولار

كنت في يوم الجمعة الماضي في دبي وأنكرت عليهم في محاضرتي، قلت لهم ما هذا؟ من أول ما وطأت أرض المطار وأنا أقرأ «اربح مليون دولار» ، «اربح سيارة رولز رويز»... قلت لهم هذا ضد الإسلام، هذا قمار صريح، إنما أنا أتكلم عن القمار غير الصريح، الجوائز الكبرى التي تضعها الشركات هنا وهناك لتغري الناس بالمزيد من الشراء في غير حاجة وهذا ليس أسلوباً إسلامياً، هذا أسلوب يقوم على التزييف وعلى الكذب، نريد أن نكذب على الناس ليشتروا ما لا يحتاجون إليه، وللأسف هذه الأشياء التي تشترى ليست من مصنوعاتنا، يعني نحن نروج لمصنوعات غيرنا، نستورد ونريد مزيداً من الاستيراد، لو كان من صناعتنا فيهون الأمر شيئاً، فهذا هو الكذب .

أنا لا أكذب ولكني أتجمل

الكذب في حياتنا الاجتماعية أيضا قال القائل «أنا لا أكذب ولكن أتجمل» يعني ماكياج،  والمبالغة في الماكياج كذب، المرأة التي تبالغ في التزين والكوافيرة التي تبالغ في التزيين هذا كله نوع من الكذب، أن يكذب الناس بعضهم على بعض، هذه هي الحياة التي نعيشها.

والسياسة أبلغ ما تكون في الكذب، انظروا هذا الذي يسمونه السلام، أهو سلام؟ أم هو استسلام، الاستسلام يسمونه السلام، هذا التركيع أو التطويع أو التمييع يسمونه التطبيع،  كيف نطبع ما ليس طبيعياً، هذا الذي يسمونه إقامة دولة أو استقلال أين الاستقلال إذا كنت لا تملك أرضك ولا سماءك، أين هذا الاستقلال؟ هي التبعية، هي الخضوع الذليل لإسرائيل، ما يسمونه الديمقراطية، ديمقراطية سباق يعدو فيه حصان واحد، ونرى من يأخذ 99% أو 99.99% هل هو الزيف؟ حياتنا تقوم على الزيف، وعلى الكذب..

هذه الأمة لا يمكن أن يستقيم حالها ولا يمكن أن ترقى وأن تتبوأ مكانتها تحت الشمس وأن تستعيد مجدها المسلوب وتاريخها المغصوب إلا إذا التزمت الصدق، عليكم بالصدق كما قال ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ، يجب أن نتحرى الصدق وإن رأينا فيه الهلكة فإن فيه النجاة وأن نتجنب الكذب وإن رأينا فيه النجاة فإن فيه الهلكة، يقول الشاعر:

عليك بالصدق ولو أنــه ** أحرقك الصدق بنار الوعيـــد

فإن أغبى الناس في دينــه ** من أسخط المولى وأرضى العبيـد

هذا هو أغبى الناس وأجهل الناس من يرضي الناس بسخط ربه عز وجل.

الصدق منجي

عُرض رجل على الحجاج وقد زعم أهله أنه مجنون كان قد انتقد الحجاج فأخذ إلى السجن فذهب أهله وقبيلته وقالوا يا أيها الأمير تأتي إليه نوبات وكانوا قد اتفقوا مع صاحبهم هذا أنه إذا لقي الحجاج يتظاهر بالجنون، ولكن الرجل حينما لقي الحجاج كلمه كلام العاقل اللبيب الحكيم، فقال له الحجاج: إن قومك يزعمون أنك مجنون، فقال: ما كنت لأزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فقال الحجاج: خلوا عنه هذا رجل صادق، نجاه الصدق.

الأمة تحتاج إلى أن تصدق، يصدق حكامها ويصدق علماؤها ويصدق مربوها ويصدق تجارها، يصدق كل إنسان فيها، التلميذ في مدرسته والموظف في مكتبه والعامل في مصنعه والفلاح في مزرعته وكل إنسان في مكان عمله، على الجميع أن يلتزموا الصدق فليس هناك أفضل من أن يشيع الصدق في أمة من الأمم أما إذا شاع الكذب فليس وراءه إلا الشر {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر:28) ، {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران:61) ، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طه:61) فالزموا الصدق أيها المسلمون وكونوا صادقين في أحوالكم كلها، الصدق في القول والصدق في العمل والصدق في مقامات الدين كما قال عز وجل في وصف أهل البر والتقوى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177) ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) .

إن الكذب آفة من أعظم الآفات ورذيلة من أقبح الرذائل ولكن الكذب ألوان وأنواع، هناك كذب يعتبر من الصغائر وهناك كذب يعتبر من الكبائر الموبقة مثل الكذب في الشهادة، شهادة الزور، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا بلى يا رسول الله، قال الشرك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - ثم قال ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور - وظل يكررها حتى قال الصحابة ليته سكت إشفاقا عليه صلى الله عليه وسلم » فالكذب في الشهادة، والكذب في اليمين، أن يكذب الإنسان في يمينه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران:77) .

اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع للإنسان يحلف على الكذب يوثق كذبه باليمين، باسم الله عز وجل لا يهاب جلال الله ولا اسم الله ويحلف كاذباً، ومن أقبح أنواع الكذب، الكذب في الرؤيا، كما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من أفرى الفرى - أي من أشد أنواع الكذب والفرية - أن يري الرجل عينيه ما لم تريا» يعني يقول أن رأيت لك رؤيا أنك تلبس أخضر في أخضر وأن حولك كذا.. فقطعاً هذا ليس وراءه إلا التدليس وإلا التذييل، ومن أقبح أنواع الكذب كذب الملوك والرؤساء كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» ، ملك كذاب، لأن الأصل أن يكون هو قدوة لشعبه، والناس على دين ملوكهم ورؤسائهم، ولكنه يكذب ومثل هذا لا يكذب إلا ليضلل الناس ويدجل عليهم، فكذب هؤلاء من شر أنواع الكذب، خصوصاً كذب التزييف في الانتخابات وغيرها .

شر أنواع الكذب

ومن شر أنواع الكذب أيضاً، الكذب على الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ولذلك على المسلم أن يحرص أن لا ينقل الأحاديث المكذوبة لأنه إذا نقلها وهي مكذوبة فهو أحد الكاذبين، عليه أن يتحرى ولا يأخذ من كل ما هب ودب، لا يأخذ من الأحاديث إلا ما قرأه في كتاب موثق معتمد يعرف الصحيح من غير الصحيح أو من عالم معتمد وليس كل من وقف على المنبر معتمداً وليس كل من جلس في المسجد معتمداً، لا يعرف هذا إلا أهله ولا ينبئك مثل خبير، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:43)

أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع قريب.

...................

- كتب فضيلة الشيخ المقال قبل سنوات.